القرآن الكريم ليس كغيره من الكتب
القرآن الكريم ليس كغيره من الكتب

مهيب الأرنؤوطي في الأحد ٢٤ - ديسمبر - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً

القرآن وبعثه رحمة بالناس حي لا يموت، وكذلك كتابه، فهو يحوي دقائقالقرآن وبعثه رحمة بالناس حي لا يموت، وكذلك كتابه، فهو يحوي دقائق، وليس من السهل الإحاطة بها، كلها دقائق في أسلوبه المعجز ومثلها في محتواه ومعانيه، وهو قابل للتفسير المتجدد مع كل عصر، ولكي نفهم هذا الموضوع الدقيق لا بد لنا من إضاحه بمثل واقعي:

 

       إن وليم شكسبير كاتب إنجليزي يعده قومه من أعظم كتابهم، وكذلك باقي الأمم، ولكنا نعلم أن كتبه لم تخلد مع الزمن، وإنما أصبحت من التراث الإنجليزي، ولغة شكسبير التي هي في الأساس لغة عصره قد ماتت الآن، في حين أن اللغة الإنجليزية بقيت حية وتطورت إلي اليوم، واللغة الإنجليزية في عصرنا غيرها زمن شكسبير، وذلك يعني أن الإنجليزي لن يقرأها إلا مستعيناً بالمعجم والدراسات التي تعالج خصائصها.

 

       ويصدق ذلك علي اللغات كلها، فهي تتطور وتموت، فالهيروغليفية مثلاً كانت لغة المصريين القدماء المقدسة، وهي اليوم لغة ميتة بسبب اندثارها وانصراف أهلها عنها في التعامل والثقافة، واللغة اللاتينية القديمة أيضاً لغة ميتة بسبب تطورها إلي لهجات مختلفة حلت محلها في مختلف بلاد الغرب كالفرنسية واليونانية والإيطالية، ولا يستخدمها اليوم إلا رجال الثقافة، ورجال الدين في الطقوس الدينية.

 

       وكل لغة حية تعيش مع الناس وتستخدم يومياً في كلامهم وقراءاتهم ومسرحياتهم وسمرهم وبيعهم وشرائهم، وتكتب في عقودهم ومعاهداتهم وقصصهم، ورواياتهم، فهي تنمو وتتطور مع تطور الحياة، فتدخلها كلمات جديدة، وتموت منها أخري مع الزمن لعدم حاجة الناس إليها، فالفلاح يعرف كل أسماء الآلات والأدوات والتعابير الزراعية، فإذا نزح إلي المدينة نسي تدريجياً هذه المفردات، وإن لم ينساها أسقطها أبناؤه من بعده بسبب العيش في بيئتهم المدنية، والكلمات تتطور دلالاتها، فقد يكون لها معني في عصر، ثم تتحول إلي معان أخري مع الزمن، وتطور معاني الكلمات صفة مشتركة لجميع اللغات الحية علي الأرض لا يستثني منها لغة خاصة، ومثلما تتطور اللغة يتطور الذوق الإنساني وافق الإبداع، فالكاتب مهما كان موهوباً لا يستطيع أن يخاطب أبعد من أهل زمانه، لأن عقولهم وحاجاتهم تتطور ومفاهيمهم كذلك، فلو قرأنا كتاب الحيوان للجاحظ مثلاً وهو كاتب مسلم عربي الثقافة، ويقرأ القرآن، نجد مع ذلك أن كتابه قد مات مثلما ماتت مؤلفات العصور الوسطي لأنها لم تعد تلبي حاجات الناس المتطورة ولا تساير التطور العلمي أو لغة العصر، ومن منا اليوم لا يحتاج إلي معجم ليفهم شعر طرفه وزهير وذو الرمة وأصحاب المعلقات المشهورة، لا بد أن يكون متخصصاً في اللغة أو الأدب، علماً أن عصر المعلقات ليس بالعصر البعيد زمنياً عن عصر الإسلام ولغة القرآن.

 

فبماذا يمتاز القرآن عن لغة باقي الكتب الدنيوية؟؟

 

1-    هو أولاً كلام الله الحي وليس كلام أحد من مخلوقاته.

2- يحوي كلام الله وعلمه الكلي، ويحيط بكل احتمالات التغيير في الزمان والمكان علماً كلياً شاملاً كل الأزمنة والأمكنة الحالية والمستقبلية

3-    يعكس قدرة الله علي الرؤية الشاملة التي تتجاوز كثيراً قدرة الإنسان ورؤيته المحدودة الجزئية والضيقة.

 

وانطلاقاً من هذه الحقائق الثلاث شاء الله القادر علي كل شئ أن يخاطب الناس بكلمات راعي فيها تلك الاعتبارات التي شرحناها سابقاً مختاراً كلماته حيث يمكن فهمها في كل زمان بحسب مستوي التطور في كل عصر ومدارك الناس ووعيهم وحاجاتهم حسب علمهم ومعرفتهم المتطورة مع الزمن، وفي ذلك إعجاز عظيم لا يستطيع أن يفكر فيه إلا خالق كل شئ ومدبره، لذلك لم يتوقع الناس أن يكون في كتاب الله الذي طبع علي الورق ذلك الإعجاز العظيم، والإعجاز في القرآن حقيقة يمكن البرهان عليها من ضمن آيات القرآن الكريم، علماً بأن القرآن المعجز هو النص الإلهي المثبت توقيفاً بشكل أحرفه ولكماته، وليس هو الورق ولا الحبر، ولنقرأ الآية الكريمة التالية: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون 14).

 

       إن نص الآية قد دوِّن في زمن الرسول (ص) بكلمات عربية ولم يكن نصها ولا كلماتها مفهومة في زمن الرسول، كما لم يتوفر لدي من عاصر في تلك الأيام مستوي الفهم الذي توافر لنا مع التقدم العلمي، وهذه حقيقة علمية ثابتة، ففي النصف الثاني من القرن العشرين بدأ العلماء يدرسون حقائق الخالق العلمية، ففهم الناس الآية فهماً شمولياً لم يكن ميسراً لمن سلفنا من المسلمين، ولا سيما ما يتعلق بتشكل الجنين في بطن الأم مثلما أدركنا اليوم دلالة الآيات القرآنية التي تبحث في عمليات التطور التي مرت بها الأرض من عصر إلي عصر استناداً إلي دراسات علماء الأنثروبولوجيا والجيولوجيا الذين اعتمدوا علي المسحاثات والرسوبيات في دراسة العصور الجيولوجية، وقد جاءت هذه الدراسات مؤيدة ما ورد في القرآن كما جاء في الآيات الآتية:

 

(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) (الأنبياء 104)

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) (البروج 13).

(إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (يونس 4)

      (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (يونس 34)

       (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (العنكبوت 19).

       (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (الروم 27).

 

       علماء الأجنة اليوم يقولون أن أفضل وصف لفترة من فترات مراحل تطور الجنين هو أن نصفه بالعلقة، لأن شكل الجنين وأسلوب تعلقه علي جدار الرحم يشبه العلقة شبها يبلغ حد التطابق، وكذلك في باقي وصف مراحل الجنين الأخري، فالإعجاز هنا ليس مجرد الإعجاز العلمي، وإنما الإعجاز اللغوي بحيث تكتب العبارة بلغة العصر الذي سوف تكشف فيه تلك الحقيقة العلمية أي بلغة العرب في القرن العشرين وحسب مفاهيم ذلك القرن.

       ومن ذلك أيضاً الآية الآتية:

 

(لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (سبأ 3).

 

فالذرة من الأمور التي تتطور مفاهيمها، فكان لها معني معين في عصر الرسول وهي أصغر الأجزاء المرئية مثل ذرة التراب مثلاً، لكن الذرة بهذا المفهوم أصبح لها دلالة هامة في عصرنا اليوم يطابق مفهومها كلام الله، فالله قد خلق مخلوقات من بعض الحشرات لا تري بالعين المجردة إلا بصعوبة، فهي بالتقدير العيني ذرة، أما إذا رؤيت بالمكبرات فهي مخلوقات حية وكاملة لها كل الاجهزة المتوفرة في باقي المخلوقات من بصر وسمع وأرجل وفم وجهاز هضم، وهي تسعي برزقها مثلنا مع أنها لا تري بالعين البشرية لصغر حجمها، لذلك نري أن فهمنا لكلمة الذرة في القرآن قد تطور إلي معناها في العصر الذي نحن فيه، وهجر معناها القديم الذي كان يفهمه منها القدماء، وهذا ما قصدته بشمولية الدلالة في كلمات القرآن، ولمزيد من الإيضاح نقرأ الآية الآتية:

 

(وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ) (الأنبياء 31).

 

هذه الآية مثل الآية الأولي التي تناولت تكوين الجنين، فهي لم تكتب لعصر الرسول (ص) لذلك فلم يفهمها أحد في ذلك العصر، حتي جاء العصر الحديث، وفي القرن العشرين، قرن الاكتشافات العلمية، حيث تبين للعلماء أن القارات علي سطح الأرض تشبه إلي حد ما حاملات الطائرات الضخمة التي تطفو علي سطح سائل ناري منصهر من شدة الحرارة، نراها حقيقة عند تفجر البراكين فيسيل ذلك السائل كالأنهار علي الأرض، وعندما تبرد تصبح صخوراً، فهنا في هذه الآية، الله تعالي يشبه القارات بالسفن، ويشبه الجبال برواسي السفن التي تلقيها عادة السفن الصغيرة والكبيرة لتثبت حركة السفينة علي سطح الماء فتستقر، فالله تعالي في هذه الآية يصرح لنا بحقيقة علمية ضخمة، وهي أن القارات لولا وجود الجبال رواسي لها مثل باقي السفن لمادت أي تحركت، ونحن نعلم أن الحركات البسيطة التي تسببها الزلازل تحدث دماراً قاتلاً، فلولا تثبيت الجبال في القارات لما كانت لنا حياة علي الأرض، وهذه حقيقة علمية من مكتشفات علماء اليوم، لكنها ليست من مكتشفات الله بل من صنع الله الذي أتقن صنع كل شئ.

 

(صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل 88).

 

       ومثل هذه الآيات أكثر من تعد في القرآن الكريم كما تصادفنا آيات أخري لا نجد لها أي معني وعبثاً نحاول تفسيرها لأنها جاءت لتفسر في زمان لاحق لزماننا، ولسوف يأتي الزمان الذي يكتشف فيه معناها فتبدو معجزة جديدة من معجزات القرآن لذلك الزمان، وهكذا القرآن فيه المعجزات والمعلومات بلغة كل عصر، وبحسب معلومات ذلك العصر علماً ومعرفة، ولنقرأ الآية الآتية: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) (النساء 103)، فإذا فهمنا منها أن الله تعالي قد كتب علي المؤمنين الصلاة وفرضها فرضاً نكون قد تخطينا المطلوب، ودخلنا في المحذور لأن الله عندما يفرض أو يكتب شيئاً يدخل تحت بند: (كن فيكون)، فالمؤمن عندها سوف يصلي في المواقيت شاء أم أبي، بينما يبين الدين كله ومعاملة الله للإنسان لكلمة سبقت منه مع مشيئة سابقة بأنه قد أعطي مطلق الحرية للإنسان في كل تصرفاته، ولذلك فالمؤمن يثاب أو يعاقب وفق اختياره لتصرفاته الدنيوية، وليس لأن الله تعالي قد كتب عليه.

 

       وبتطبيق القاعدة التي شرحناها سابقاً نلتمس معني كلمة (كتاباً) في الآية الكريمة في دلالاتها المعاصرة: (فعندما نقول اليوم مثلاً أن المحافظ أصدر كتاباً نفهم من الكلام أنه أصدر أمراً أو قراراً يتعلق بشئون المحافظة، وذلك لا يعني أن الناس كلهم سيلتزمون ما جاء فيه)، لكن المحافظة سوف تتبع أساليب معينة لجعل القرار نافذاً بقدر الإمكان، وكذلك إذا فهمنا كلمة كتاباً في الآية علي أنها أمر للمؤمنين، فإن امتثل له كوفئ، وإن لم يمتثل له عوقب بفصله عن المؤمنين أو بأي عقوبة أخري، فالأمر منوط بحرية الإنسان ومشيئته في تنفيذه أو الامتناع عن تنفيذه، وندرك من الآية أن الصلاة كانت علي المؤمنين (أمراً) من الله تعالي يشترط لتنفيذه التزام الأوقات المخصصة لكل صلاة، والتقييد بمواعيدها إلا إذا كانت هناك أسباباً خاصة، ومن ذلك أيضاً معني كلمة: (أحصي) في قوله تعالي: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (الكهف 49).

 

       فكلمة (أحصي) لم يكن لها المعني المعاصر الجديد الذي أصبح لها في القرن العشرين، بدليل أن وسائل الإحصاء لم تكن متوفرة فيما مضي، فكل ما كانوا يعرفونه هو العد بالإحصاء، وكانت كلمة الإحصاء مرادفة لكلمة العد، علماً بأن الفرق كبير اليوم بين المفهومين، فالإحصاء اليوم علم واسع قائم بذاته، وله قوانينه، والله تعالي هو الذي يعرف المستقبل لم يضعها هكذا اعتباطاً، وإنما لعلمه أن هذه الكلمة سوف يكون لها تمييزاً خاصاً عن العد، ففرقها عن العد، وأظهر لنا الفارق بمعلومات إحصائية من عنده: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (الأنعام 59)، فجمع هذه المعلومات ليست عملية عد، بل عملية إحصائية تستند إلي قوانين هي من اختصاص علم الإحصاء.

 

       وهكذا إذا بحثت في آيات القرآن سوف تكتشف كل يوم معجزة جديدة لم تكن تعرفها، والمهم قبل ذلك أن تركز اهتمامك بعد أن تعلم أن هذا الكتاب من الله تعالي هو يدعو إلي تطبيق منهج الله في الأحكام الذي هو الأساس في القرآن، لذا يجب ألا ننظر إلي القرآن علي أنه منهج للإكتشافات العلمية، وإنما منهج للهدي حتي لا نضل الطريق، وتتفرق بنا السبل ونظن أننا مهتدون ونحن في الحقيقة من الضالين، ولذلك قال تعالي عن القرآن الكريم: (هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) (آل عمران 138).

       القرآن فيه أنباء وعلوم هي بيان لكل الناس مؤمنهم وكافرهم، وفيه الرسالة التي هي هدي للمؤمنين والمتقين الذين ارتضوا به منهجاً وطريقاً وموعظة لرب العالمين لهم.

 

هل نحتاج إلي فهم آيات القرآن إلي معجم؟؟

 

كل إنسان يفهم العربية ويلم بالقراءة والكتابة بالعربية يفهم من القرآن ما يكفيه لاتباع المنهج، وإذا شاء أن يفهم أكثر فبإمكانه السؤال ممن يعرف أكثر منه، أو الاستعانة بآيات القرآن المتقاربة، والتي تحوي الموضوع ذاته ليفهم دلالة الكلمة التي يبحث عنها في سياقاتها المختلفة، وبذلك يتوصل إلي هذه الكلمات، ويدرك أبعاد الموضوعات، وإن كان هذا الأمر عسيراً عليه يستطيع أن يستعين بمرشد مفهرس لكلمات القرآن، ومعجم لغوي يوضح له الكلمات الصعبة

 

ولكني لا أنصح مطلقاً بالإستعانة بأي تفسير للقرآن، فإن القرآن لا يفسر، وإذا قرأت التفسير فأنت لا تقرأ القرآن، وإنما تقرأ رأي المفسر، وكل إنسان بما فيهم المفسرون معرضون للخطأ، وهم يفسرون كل آية دون النظر إلي صلتها بالآيات الأخري، بالإضافة إلي أن تفسيرهم كان يلائم عصرهم وعقولهم، وهو لا يناسب العصر الذي يليه، لذلك فلا بد من تأويل لآيات القرآن وفهمها حسب كل عصر، إن لم نتعامل مع القرآن بمثل هذه الأساليب، فإننا بسهولة نقع مرة أخري في الضلال، وتفرق السبل الذي نحن فيه الآن.

 

أسلوب الله تعالي في التعبير:

 

لنقرأ الآية الآتية:

 

(فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ) (البقرة 222)

 

لا شك أن الله تعالي لا يستحي من قول الحق، لكن أسلوبه الإلهي الخاص لقول الحق، ففي هذا الجزء من الآية المعجز باختصاره، والمعجز بأسلوبه، ينص علي أمرين تهم معرفتهما المسلمين والمسلمات لأنهما يتعلقان بحياتهما الزوجية وسلامة علاقاتهما المقدسة:

 

الأمر الأول: ألا يأتي المسلمون نساءهم شذوذاً من الخلف علي أسلوب قوم لوط من المكان غير الطاهر.

 

الأمر الثاني: تجنب مداناة النساء في فترة الحيض حتي يطهرن.

 

أسلوب استخدام الكلمات:

      وعندما يكتب الناس يستخدمون الكلمات التي يعتقدون أنها تخدم المعني، ولكن إعجاز القرآن يتجلي بدقة في استخدام الكلمة لتدل علي معني يقصده تعالي بالذات، والناس لعدم تعمقهم في فهم آيات القرآن ولغته لا يلاحظون ذلك، ويظنون أن تلك الكلمات قد اختيرت اعتباطا، فنحن نقول مثلاً بشكل عفوي: (رسولنا محمد صلي الله عليه وسلم)، وأحياناً أخري نقول: (نبينا محمد صلي الله عليه وسلم)، ولا ندرك الفارق بين الاستخدامين، أما القرآن فيفرق بدقة بين المعنيين، فكلمة الرسول لا يستخدمها إلا عندما يتحدث الله تعالي عن الموضوعات التي تتعلق بتكليفه بالرسالة، وتبليغها للناس، وفي باقي الآيات التي يخبرنا فيها سبحانه عن معلومات وحقائق علمية من السماوات والأرض، أو عن حقائق تاريخية في القصص، وكلها من علوم الغيب بالنسبة إلينا، فالله تعالي يستخدم فيها مصطلح (النبي) لأن كلمة نبي مشتقة من كلمة أنباء، وكلمة (رسول) مشتقة من كلمة رسالة أو من كلمتي (أنبأ وأرسل).

       والأمثلة علي ذلك أكثر من أن تعد في القرآن الكريم لمن شاء أن يتأكد، ثم هناك حالة ثالثة، وهي الحالة التي خاطب فيها الله تعالي نبيه ورسوله محمد (ص) في شئونه الشخصية وزوجاته، ووصاياه لرسوله، وهي تتعلق بشخصه الكريم، والله تعالي يتوجه فيها بالخطاب بعبارة: (يا أيها النبي)، أما إذا كانت نصائح خاصة بالرسالة، فيأتي الخطاب بـ: (يا ايها الرسول)، وهذا مثال آخر يدل علي دقة التعبير القرآني: (فإن أكثر الكلمات وروداً في القرآن الكريم كلمتا "الله"، و"الرب") فكلمة الله وردت فيه 2698 مرة، ولكمة الرب وردت فيه 969 مرة، غير أن كلاً من الكلمات لا تستخدمان بشكل اعتباطي في القرآن، وإنما تردان في سياقهما وفق تمييز دقيق.

 

       ففي الفاتحة يقول تعالي: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة 2)، وهذه الفاتحة لا يرددها إلا المسلم فقط الذي قد آمن بأن الإسلام ديناً وبالقرآن منهجاً، المسلم يحمد الله الذي هداه إلي صراطه المستقيم ليعبده ويعترف به إلها لا يشرك به أحداً، ولكن ما صفة الإله الذي اختاره المسلم لعبادته؟.... إنه رب العالمين لا إله إلا هو أصلاً وحقيقة، وكل إله غيره هو إله خلقه الوهم، وهكذا نري أن لله تعالي صفتين، (صفة الألوهية بالاختيار) و (عبادته لذاته بعد الاختيار) أي بعد اختيار المسلم بإرادته الحرة الله تعالي إلها له بعبده، فإنه يقول (الله تعالي إلهي ولا يقول ربي)، لأن ذلك يعني إن اختياره الله بمحض إرادته، فالرب تعبير عن الله مفروض الاعتراف به جميعاً علي العالمين، لذلك يقول (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) (الصافات 5)، (وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (المؤمنون 86)، (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء 16)، وهكذا.....

 

       لكن المؤمنين يتميزون علي البقية بالرغم من أنه ربهم شاءوا ذلك أم أبو بأنه أصبح إلههم بالاختيار والعبادة، وهذه الميزة فقط للمؤمنين، لكن ليس من الخطأ أن يقول المسلم (الله ربي)، لأن ذلك اعترافاً منه أن اختار الله بإرادته للعبادة، وهو يعترف بأن الله تعالي ربه شاء ذلك أم أبي، وهذا المعني ينطبق علي كل آيات القرآن التي فيها كل تلك الآيات علي عددها الهائل، ولا تشذ واحدة عنها، والقرآن في يد كل مسلم وبمقدوره أن يتأكد من تلك الحقيقة، لذا وجب علي المسلم أن يراعي ذلك في كلامه ويلتزم بما إلتزمه القرآن في ذلك، فالله هو إله أبي بكر ورب أبي جهل.

 

       ولو قلنا: (إله ابي جهل)، كذلك يعني إيمان أبي جهل، وهذا لم يقع، وأول من نبه إلي هذه الأمور في القرآن الكريم هو المفكر المعاصر الدكتور محمد شحرور في كتابه: (الكتاب والقرآن)، ولم ينتبه إلي ذلك القدماء كثيراً ربما لأنهم اهتموا بأحاديث الرسول (ص) أكثر من اهتمامهم بالقرآن ظناً منهم أنها تغني عن القرآن، بل أن أحاديث الرسول تشرح القرآن بوحي سماوي آخر!!!!

 

       إذاً يجب أن نميز القرآن من باقي الكتب كلها، فهو لا يشبهها في شئ إلا بالحبر والورق وحروف اللغة العربية وكلماتها، وفي ما عدا ذلك هو مختلف في كل شئ، ولا يشابهه ولا يقاربه كتاب، وإعجازات القرآن لا تعد ولا تحصي، فهو رحمة للعالمين في كل يوم وفي كل عصر اعتباراً من لحظة نزوله علي قلب سيدنا محمد (ص)، ونطق لسانه به أول مرة.

 

 

اجمالي القراءات 32746