الإجماع المنقذ المنتظر

يحي فوزي نشاشبي في الإثنين ٢٢ - نوفمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

بسم الله  الرحمن  الرحيم 

الإجماع  المنقذ  المنتظر

       هناك حديث  منسوب  إلى  سيدنا  محمد رسول الله عليه الصلاة والتسليم  ، مفاده أن الله ما كان ليجمع  رأي المسلمين على ضلال .أو  لا  تجتمع  أمتي  على  ضلالة .

       كثيرا ما نسمع هذا المعنى من طرف مرشدين وواعظين  يسوقونه كقرينة أو دليل لتقرير كلامهم وتعزيزه.

ولكن: ومن باب ال&Arinب الإهتمام  بتلك البشرى وذلك الوصف الرباني وذلك القرار الوارد في الآيتبن: رقم 17 ورقم 18 في سورة الزمر، حيث يصف الله العلي الرحيم عباده ويبشرهم: (( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشّر عباد  الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله  وأولئك هم  أولوا  الألباب )).

من باب الإنصات إلى تلك البشرى  وذلك الوصف وذلك  المدح ،  وحيث يمكن أن يفهم منه أيضا أن الله  ينصح  مخلوقاته حتى لا يغفلوا عن تلك النعمة التي حباهم  بها ، وهي نعمة لا  تقتصر على حاسة السمع فقط بل تتعداها ، أو هي حاسة متصلة ومتكاملة مع حاسة أو عضلة أو ملكة المراقبة والنقد. (( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم  أولوا  الألباب )) .

وإذا فهم من ذلك أن الله حــمّل المسؤولية مباشرة إلى الذين يقع عليهم القول، فإن مسؤولية القائلين لا  تقل أهمية  وخطورة  وثقلا، لاسيما عندما يقتنع القائل الواقف أمام  المستمعين، فيعرف ويتيقن أن كل ما يتلفظ به أمامهم من قول أو تقرير أو إرشاد، ومهما كان نابعا وصادرا من قلبه المخلص فذلك لا  يكفي، لأن على المستمعين واجبا وهو الرقابة والنقد والفرز والتحـرّي.

نعم إن معنى الآيتين القرآنيتين المذكورتين أعلاه هو الذي فتح على مصراعيه باب هذه التساؤلات، لاسيما، والظاهر أن الأغلبية الساحقة من المرشدين والمعلمين  والواعظين والناصحين عندما ينطلـــــــــقون فـــــي

القول، يبدو أنهم يفعلون ذلك وهم  غير محيرين وغير مسائلين من لدن أي مستمع، بل يبدو أن آخر ما  يتبادر إلى ذهن أي  واعظ  أو مرشد أن يكون هناك من يتجرأ  لرفع  يده  ليسأله ،  أو حتى ليلتقي به  على انفراد أو  في مناسبة  أخرى وبعيدا عن الملأ  ليسأله  ويستفسر منه ما التبس عليه مما  وقع  على سمعه.

ولذلك يبدوأن المرشدين والمعلمين والواعظين يقولون ما  يحلو لهم مما هم مقتنعون به، وأن المستمعين يستمعون ذلك القول، وأخيرا  ينصرف كل إلى  شأنه ،  وكأنّ كلّ  ما قاله الخطيب هو واضح ومفهوم  ومهضوم.

وعندما نرجع إلى معنى ذلك الحديث  المنسوب إلى رسول الله عليه الصلاة والتسليم ، ونقارنه بذلك الحديث الصحيح الذي نزّله الله سبحانه وتعالى، ذلك الحديث المذكورأعلاه في  سورة  الزمر في آيتي 16 +17 ،  فإننا حتما سنقف حيارى متسائلين، لاسيما، عندما نلتفت يمينا وشمالا لنرى ونحدّق في أحوالنا في مشارق  الأرض  ومغاربها. وعندما نتصور أن بعض المستمعين– على الأقل – كانوا جديين في الأمر، وكانوا جادين في إرادة  فهم  حديث الرحمان الرحيم ،  عندها سيكون من السهل تصور ما يدور في خلد كل مستمع من أسئلة  وآراء ووجهات نظر متباينة. ونحن هنا نختصر الكلام على وجهة نظر واحدة أو تساؤل أو إشكالية ، ونحصرها في ما يلي :

ــ إذا أمعنا النظر في الموضوع فقد نفاجأ أيما مفاجأة بأن السواد الأعظم من العباد مجمعون على ممارسات وتصرفات واقتناعات ، قد تكون من الفئة التي لم ينزّل  الله  بها  من سلطان ولم يأمر بها ، ومن يدري لعلها أي هذه أو تلك التصرفات هي محض ضلال؟ ومع  ذلك فالناس مجمعون عليها ويحسبون أو  يتوهمون أنهم يحسنون صنعا. أما عن الأمثلة ،  فمن السهل أن تنهل  نهلا ، ومنها : 

01) المقولة التي نحتت لها نحتا عميقا موقعا في أذهان القائلين والمستمعين معا،  والتي مفادها أن الله العلي  العليم  عندما  خلـــق  المرأة

فعل ذلك من ضلع أعوج،  وأن لا  فائدة  ولا جدوى من محاولة تقويمه أو تقويمها.

02) أن المرأة يحرم عليها الصلاة والصوم في أيام الدورة  الشهرية " الحيض ". أما الصلاة، فلا  يجب عليها  قضاؤها، أما الصوم  فعدة  من أيام أخر، اقتباسا لما قرره الله  بالنسبة لمن كان في رمضان.مريضا أو على  سفر.

أما إذا حدث جدلا أن تهوّر أي مستمع وتشجع أو تجرأ فتفوه بالسؤال التالي قائلا: إن المرأة إنسان، وإذا اعتُبر الإنسان في وقت دورته  الشهرية " الحيض " مريضا وغير طاهر، وأنه ما دام  كذلك ولأجل، فعليه أن لا  يقترب من الصلاة ولا من الصوم ، فلماذا لا يجوز للإنسان الآخر أي  الرجل أن يمتنع عن الصلاة عندما  يكون مريضا أو غير طاهر بسبب  نزيف  مثلا ؟

أما عن التشنج المنتظر، الذي غالبا  ما  يكون  تملـك  صاحب الرد  الذي ووجه  بهذا  السؤال ، فمرد  ذلك  التشنج  هو لأن  الواعظ  يكون في  الغالب متهما ذلك  السائل بكل التهم الممكن  تصورها، ورافضا التصور بأن ذلك السائل المسكين لم  يفعل إلا  محاولة إعمال عقله وما  فهمه من حديث الرحمان الرحيم عندما قال: (( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم  أولوا  الألباب )) .

03) حصرَ فريضة الحج  في  أيام  قلائل معدودات، والتغافل وعدم الحرص على فك لغز حديث  الله الرحمن الرحيم  الودود ، إذا  فهم  منه  أن الحج  هو أشهر معلومات. علما أن آيات الله هي حتما  بينات  مبينات .

04) الإفتاء بقتل المرتد عن دينه ، والتغافل عن تقرير الله  الذي يفسح لحرية الاعتقاد كامل الحرية،  ثم  من  يكون له الحق – يا ترى – والجرأة ليغامر فيضع  نفسه حاكما ويقرر أن الشخص مرتد؟ ، ويصدر  عليه حكما بالموت ؟  من  يستطيع أن  يغامر مثل هذه  المغامرة؟  ويتحدى الخالق الذي قرر في سورة  البقرة : (( ومن يرتدد  منكم  عن  دينه  فيمت  وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )). الآية رقم 217.  ثم الآية رقم 137 في

سورة  النساء(( إن الذين آمنوا ثم  كفروا ثم آمنوا ثم  كفروا ثم  ازدادوا  كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا )) .

05) الإجماع على رجم  الآية رقم 2 في سورة  النور حتى الموت ثم التصدي للزاني ورجمه بالحجارة حتى الموت  هو الآخر. وهذا  يكون حتما حدث بعد أن  يكون  الإجماع  داس دوسا  مفضوحا وتجاهل  كل  ما قالـــــه  الله  سبحانه  وتعالى في مستهل سورة  النور ، لاسيـــما وهـــــو (( سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها ءايات بينات لعلكم  تذكرون )).

06) وفي موضع آخر فإن الظاهر والمفهوم أن أمر الله ونصيحته موجهة إلى جميع الذين آمنوا- وبدون استثناء - ليسارعوا إلى ذكر الله  عندما ينادى للصلاة يوم الجمعة. فيأتي الإجماع ويستثني المرأة من الذين آمنوا ويحرمها من ذلك الخير.

ولعله من المفارقات أن تكون هناك رواية غريبة شيئا ما  في أمرها وفي بابها ولا يفهم  منها  إن كانت  نسبت  إلى الرسول  مباشرة  أو إلى بلال ؟ ولكن المفهوم  منها  أن النساء  لم  يُستثنين ولم  يُـمنعن  من  الصلاة  في  المسجد جماعة مع الرجال، وهي التالية: قَوْله : ( وَقَالَ لِلنِّسَاءِ ) ‏
‏قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : فَاعِل قَالَ هُوَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا جَزَمَ بِهِ , وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " وَيُقَال لِلنِّسَاءِ " وَفِي رِوَايَة وَكِيع " فَقَالَ قَائِل يَا مَعْشَر النِّسَاء " فَكَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مَنْ يَقُول لَهُنَّ ذَلِكَ , وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنّ أَنَّهُ بِلَال , وَإِنَّمَا نَهَى النِّسَاء عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْمَحْنَ عِنْد رَفْع رُءُوسهنَّ مِنْ السُّجُود شَيْئًا مِنْ عَوْرَات الرِّجَال بِسَبَبِ ذَلِكَ عِنْد نُهُوضهمْ . وَعِنْد أَحْمَد وَأَبِي دَاوُدَ التَّصْرِيح بِذَلِكَ مِنْ حَدِيث أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر وَلَفْظه " فَلَا تَرْفَع رَأْسهَا حَتَّى يَرْفَع الرِّجَال رُءُوسهمْ كَرَاهِيَة أَنْ يَرَيْنَ عَوْرَات الرِّجَال " وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّسَتُّر مِنْ
أَسْفَل

       07) يريد  الله  الرحمان الرحيم  اليسر فيتحدث عن التخفيف  في  الصلاة إذا  طرأ  طارئ  الخوف أثناء الضرب  في  الأرض ،  فيسارع  الإجماع ويقف كرجل واحد أو كقاطع  طريق  لمشيئة الله، ليقرر إضافات ومتممات ، ومكملات، ومنها بدعة صلاة  السفر،  وما  تبعها  من أركان  وشروط ومسافات وقياسات  مما  تفتقت به  قريحة  الإجماع .

       08)  ((  قل  ادعوا  الله  أو  ادعوا  الرحمان  أيا  ما  تدعوا  فله  الأسماء  الحسنى  ولا  تجهر  بصلاتك ولا  تخافت  بها  وابتغ  بين  ذلك  سبيلا )) 110 سورة  الإسراء.

       أما  عن الواقع  المعاش والمسلط  على  الجميع  والمفروض  عليه  فرضا ،  فإنه  يتمثل  في  فوهات مضخمات  الصوت  التي لا  تحاشي ولا  ترحم أحدا ،  تلك  الفوهات المضخمة للصوت التي لم  تفكر في  أن عليها أن تغض من صوتها في  أوقات  الصلاة  وغير  الصلاة  في  وعظ  وإرشاد وتلاوة قرآن. والمؤسف له أو المضحك، هو عندما يكون  الصوت  المضخم للإمام  وهو يقرأ  وبكل إخلاص وتورّع  وبكل  ما أوتي من ضخامة مثيرة  حتى  لغيرة  آلة  تضخيم  الصوت،  وهو  يردّد  ما يأمر  به  الله  عز وجل  في  حديثه : (( ...  ولا  تجهر  بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين  ذلك  سبيلا )). أو عندما  يكون  الإمام  المضخم  هو والصوت  قارئا في صلاته  ما  يلي : (( ... واقصد  في  مشيك  واغضض  من صوتك  إن  أنكر  الأصوات  لصوت  الحمير )) 19 – لقمان.

       09) ( يا أيها الناس إنا  خلقناكم  من ذكر  وأنثى  وجعلناكم  شعوبا  وقبائل  لتعارفوا  إن أكرمكم عند الله  أتقاكم   إن الله  عليم  خبير)).  الآية  رقم 13 -  الحجرات.  وكالعادة  يكون الإجماع  متربصا  فيهب  ويقف كرجل واحد لينقضّ على الآية ويلوي عنقها  ويسئ  إليها  ويهينها  بل  ويسرف هذا الإجماع  فلا  يتورع  بأن  يعتدي  بصفة  خاصة  على  جملة هامة وحيوية في الآية وهي جملة: - لتعارفوا ويصيرها  في  خبر  كان، ويتيح الفرصة لجملة  دخيلة  بغيضة  حقودة  لتحل  محلها  ألا  وهي  جملة – لتعاركوا – ولا يمكن أن يختلف في هذه  الوضعية  اثنان أو  يشك  فيها. والجميع  يعرف  كيف  فعل  المسلمون بأنفسهم  وكيف تخندقت كل طائفة وكل مذهب في  خندقه غارقا  فيه إلى الذقن ولاعنا المتخندقين الآخريـن المقابلين له، وهكذا، والشاشات الصغيرة والندوات والموائد المستديرات فاضحة عبر الفضائيات .                                      

       أما عن تلك الآية التي يقرر فيها الخالق سبحانه وتعالى أن  المؤمنين  إنما هم إخوة ( الآية  رقم 10  في  سورة  الحجرات)  فما زالت تلك الآية ومنذ  قرون  وإلى  يومنا  هذا  وإلى ما  شاء  الله، ما زالت  لم  تقتطع  لنفسها  محلا  من الإعراب (  إن صحّ هذا  التعبير).

       10) وعليه فما دامت القضية وصلت أو انحدرت إلى هذا  الحضيض  أو  إلى  هذا  المسلك  الضيق  المسدود،  فلعــلّ  هناك  حلولا  أخرى  منقذة  أو  مستدركة  ما  يمكن  استدراكه ؟  ومنها  مثلا  أن  يدفع  ما  تبقى  من  إخلاص  وإيمان كلّ  مؤمن ويحفزه  بأن  يحمل  نفسه حملا  على أن تهضم ( أضعف  الإيمان)  وهو أن تُروض  كل  نفس ترويضا  لتستمر مطمئنة في أنّ طريقتها  هي في عبادة  الله  وفق ما  يراه  مذهبها أو فلسفتها أو اقتناعها هي  الأسلوب  الصحيح  السليم المفعم  بالإخلاص ،  ولكن  وفي  نفس  الوقت  -  وهذا  هو  بيت  القصيد – أن تفسح المجال الواسع لتطمئن أيضا وبصفة  خاصة بأن للآخرين ولجميع الآخرين  الحق  كل الحق في  أن يستمروا  هم  كذلك  مطمئنين في  انتهاج  صراطهم  المستقيم  في  عبادة  الله  والثقة  التامة  في  مذهبهم .

وإذا  تصورنا أن الجميع يفعل ذلك ويستطيعه بكل ما أوتي  من تفان وإخلاص وحسن ظن ورحمة ، وإن  ذلك لا  يتحقق طبعا إلا إذا  حدث  وتحقق الحلم ،  فحل بنا الإجماع الحقيقي المخلص المنتظر. فلعل الله  عندها يتدخل برحمته ويجعلها تغشى الجميع ؟ ويرزق الجميع القدرة  والقوة والجرأة  والشجاعة  ليخرج  من خندقه  الذي  حشر وسجن  فيه  نفسه، ويمنح  لنفسه متعة  التحرر بدون خوف  ولا  وجل  ولا  حرج،  ويرقى  إلى المستويات  العليا التي ستجعله بإذن الله  ينتمي  حقا  إلى  خير أمــــــة  أخرجت  للنـــــــــاس ؟  (الآية  رقم 110 – في سورة  آل  عمران ) . لأننا  في  الوقت  الراهن  ما  زلنا ............  أمة  أخرجت  للناس .

ثم  لأمر ما  جاءت  آيات عديدة  تعد عباد الله أنهم يوم القيامة  سيبين لهم ما  كانوا  فيه  مختلفين ومنها الآية رقم 92  في سورة  النحــــل

(( ولا  تكونوا  كالتي  نقضت غزلها من بعد قوة  أنكاثاً  تتخذون أيمانكم دخلا  بينكم  أن  تكون أمة  هي  اربي  من أمة  إنما  يبلوكم  الله  به  وليبينــنّ لكم يوم القيامة ما  كنتم  فيه  تختلفون ))

والآية رقم 48  في  سورة  المائدة : (( ...  لكل  جعلنا  منكم  شرعة  ومنهاجا  ولو  شاء  الله  لجعلكم أمة واحدة  ولكن ليبلــوكم في ما  ءاتاكم فاستبقوا الخيراتإلى الله مرجعكم  جميعا فينبئكم بما  كنتم  فيه  تختلفون )).

وفي الأخير، من المتوقع أن ما عند القراء الكرام  من  أمثلة  مؤيدة  لوجهة  النظر هذه  المتواضعة ما قد  لا  يُعـدّ  ولا  يُحصى؟

 

اجمالي القراءات 13936