لقمة العيش

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٠١ - أكتوبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :

المصرى ربما يكون هو الانسان الوحيد فى العالم إذا رأى كسرة خبز على الارض اسرع ينحنى و يلتقطها ثم يقبلها وياخذها فى احترام بعيدا عن التراب ، وذلك يعكس فى طياته تقديسا لكسرة الخبز يكمن فى القلب المصرى وينطق به اللسان المصرى حين يصف كسرةالخبز بأنها (لقمة العيش ) .

وإذاحللنا هذا الوصف تحليلا علميا  وجدناه وصفا لاكسير الحياة ، أى بدون هذه اللقمة لا تكون حياة أو ( عيش ). بل يقوم المصر باختصار بليغ فيصف الخبز ب ( العيش ) أى الحياة ذاتها . ويقبع ( الخبز ) فى الضمير الacute;مصرى على أنه (وسلية للعيش ) ،أى يتسع المصرى فى استعمال هذا الوصف ليصبح السعى على الرزق وسيلة للحصول على (لقمة العيش ).

بل يصبح السكوت عن الحق والتغاضى عن الباطل والتهاون فى مواجهة الظالم حرصا على ( لقمة العيش )، هذا مع ان المصرى يؤمن فى أعماقه بأن الله هو الرزاق ،ولكن حرصه على لقمة العيش وحبه فى دوامها يجعله ينسى أحيانا أن الرزق من الله ويخشى على (لقمة العيش ) حين يضطر لاخذ موقف يهدد عمله ووظيفته . 

ويتسع مفهوم لقمة العيش ليشمل العملات النقدية والورقية، فأول مايدخل منها إلى الجيب يسارع المصرى بتقبيله ووضعه على جبهته احتراما ، ويتفاءل بأن الرزق سيأتى بعدها وفيرا خصوصا إذا كان ذلك فى الصباح ،ويشعر بسعادة لأنه سيعود لبيته أخر النهار ومعه (لقمة العيش )هنية وفيرة .

وبهذا تشمل (لقمة العيش) كل انواع الطعام ، بل والوظيفة والمهنة والنقود المعدنية والورقية. وفى نفس الوقت تتجسد لقمة العيش فى كسرة خبز يحرص المصرى على تقديسها واحترامها ، وهو فى ذلك يعبر عن حضارة امتدت عشرات القرون كانت فيها مصر مخزنا للغلال يشبع منها الجائعون القادمون لمصر من الشرق ومن الغرب بحثا عن (لقمة العيش ) 

 

وذلك التقديس للقمة العيش لم يأت من فراغ ..

 

كانت مصر فى عصورها القديمة والوسيطة تعانى من المجاعات الرهيبه حين يفيض النيل عن الحاجة فيغرق الدلتا والصعيد وحين يتناقص وتعطش الارض وتعجز عن الزرع ،أوحين ينهار الحكم المركزى وتسود الفوضى فيتعطل الفلاح المصرى عن زرع الارض وتأتى المجاعة  فيأكل الناس الاخضر واليابس ويتطلعون إلى لقمةعيش تحفظ عليهم الحياة ..

ولذلك كانت أسعار الغلال مرتبطة بمقياس النيل فإذا تناقص النيل اسرع الناس فى تخزين القمح واسرع التجار بإخفائه وارتفعت اسعاره ، ففى رمضان 827 فى سلطنة الاشرف برسباى تناقص مقياس النيل ،يقول المقريزى ــ وكان يعيش فى ذلك الوقت ـ (فأصبح الناس فى قلق وطلبوا القمح ليشتروه وبدأ بعضهم فى تخزينه خوف الغلاء الا ان النيل زاد يوم الاحد 18 رمضان فى الليل ونودى يوم الاثنين 19 رمضان بتلك الزيادة فسر الناس )

وفى أوقات الغلاء والمجاعة كان الفقير المصرى يتطلع إلى كسرة الخبز على انها  لقمة العيش التى تنجيه من خطر الموت جوعا، وليست تلك عبارة إنشائية أومبالغة لفظية ،بل هى حقيقة مفزعة شاهدها المقريزى بعينه وسمعها بأذنيه حين كان صغيرا فى غلاء حدث فى منتصف جمادى الاخرة سنة 776  هجرية

وقد سجل المقريزى تلك الحقيقة التاريخية المروعة فقال (كثرموت الفقراء والمساكين بالجوع فكنت اسمع الفقير يصرخ بأعلى صوته لله لبابه ـ اى كسرة خبز ـ قدر شحمة اذنى أشمها وخذوها، ولا يزال كذلك  حتى يموت )

وفى الشهور التالية خصوصا رجب وشعبان كثر موت الفقراء بالجوع يقول المقريزى ( وشنع الموت فى الفقراء من شدة البرد والجوع والعرى وهم يستغيثون فلا يغاثون , وأكل الناس خبز الفول والنخالة عجزا عن خبز القمح ، وبلغ الخبز الأسود كل رطل ونصف بدرهم , وكثر خطف الفقراء له ما قدروا عليه من أيدى الناس ، ورمى  طين بالسجن لعمارة حائط له فأكله المسجونون من شدة جوعهم , وعز وجود الدواب لموتها جوعا .. ) وحدثت مجاعه أخرى فى ربيع الأخر  798  فقام السلطان بعمل خبز وفرقه على الفقراء والمساجين , يقول المقريزى " فكفى الله الناس بهذا الخبز هما عظيما بحيث لم يعرف أن أحدا مات من هذا الغلاء بالجوع .. "

وكانت المجاعات شيئا عاديا فى التاريخ المصرى , يتكرر حدوثة مرات عديدة فى القرن الواحد ، وكانت كثرة الخبز هى الوصفة الطبية الناجحة للنجاة من الموت جوعا , ومن هنا كان وصفها بلقمة العيش , فلولاها ما كانت هناك حياة , وما كان هناك عيش .. !!!

ولهذا السبب عاش تقديس المصرى لكثرة الخبز واحترامه لها ورفضة أن يراها ملقاه على التراب تدوسها الاقدام ..

وكان عدد المصريين يتناقص بصورة مروعة فى أوقات الأوبئة والمجاعات التى تحصد الألوف المؤلفة من المصريين , وحين تنتهى كان يبقى فى مصر نصف السكان أو أقل , وفى أوقات الرخاء كان يزداد عدد السكان ليصل الى العشرين مليونا كما حدث فى وقت الفتح العربى الاسلامى حين بلغ عدد من دفع الجزية من المصريين نحو ثمانية ملايين نسمة كانوا من الذكور البالغين والقادرين ماليا على دفع الجزية ، وقتها كان المصريون يزرعون الساحل الشمالى من غزة الى طبرق،وكانت للنيل فروع تصب ما بين العريش الى ما بعد الاسكندرية.  وقبلها كانت مصر مخزنا للقمح يطعم الامبراطورية  الرومانية , ثم أصبح يطعم الدولة الاسلامية .. وفى ماعدا أوقات المجاعة وتناقص النيل ظلت مصر طيلة العصور الوسطى هى مخزن " لقمة العيش " لمن حولها ..

وجاء العصر الحديث فكبح جماح النيل وسيطر عليه منذ أن انشأ محمد على القناطر الخيرية إلى إنشاء سد أسوان ثم إنشاء السد العالى , ولم يعد هناك خوف من انحسار الفيضان وحدوث المجاعات القديمة المروعة ..

ومع ذلك فلا زلنا نعيش فى الغلاء .. وزالت لقمة العيش فى يد السيد الأمريكى .. كانت لقمة العيش للرومان فى يد المصريين , ثم أصبح أحفاد الرومان يتحكمون فى لقمة العيش التى يحتاجها المصريين ..

فى الماضى كنا نصدر القمح مع انه لم يكن هناك السد العالى او وزارة الزراعة .. لماذا أنشأنا وزارة الزراعة اذن ؟ .. وما هوالهدف من وجودها اذا كنا نستورد لقمة العيش من عدونا ؟

أخيرا

كتبت هذا المقال ونشرته جريدة الأحرار فى أوائل التسعينيات . وعشت حتى رأيت تقاتل المصريين أمام المخابز حرصا على ( رغيف العيش ) . ويخشى كل محب لمصر من يوم قريب تتكرر فيه المآسى الدامية التى حكاها المقريزى عن المجاعات والموتى بالآلآف والملايين بحيث يتناقص سكان مصر الى النصف . لن يكون السبب انخفاض الفيضان للنيل ، ولكن تحكم السفهاء الخونة فى لقمة عيش المصريين .  

اجمالي القراءات 13474