رعاية الطفل فى الاسلام ( 1 / 2 )

آحمد صبحي منصور في الأحد ٢٢ - أغسطس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة
لأن التهديدات بالقتل تنهال علينا فقد أوقفت مؤقتا وقليلا البحث فى الموضوعات الجديدة واستكمال سلاسل المقالات لأتفرغ لنشر ما سبق تأليفه أو نشره فى القرن الماضى لأعيد نشره فى موقعنا (اهل القرآن ) وموقع الحوار المتمدن .
وهو حق متاح مجانا لكل من أراد اعادة النشر لكل مؤلفاتنا ، ولكن بدون احتكار للنشر .
.
وبعد نشر كتاب ( شخصية مصر ربعد الفتح الاسلامى ) ننشر هذه الورقة البحثية التى قدمت فى إحدى المؤتمرات فى القاهرة عام 1995 ،بعنوان :

لمحة عن : رعاية الطفل فى الÇedil;سلام :  ورقة بحثية 1995 (تشتمل على حديث القرآن وأحكام الفقهاء ووصايا المفكرين والفلاسفة والقواعد العملية في المؤسسات التعليمية    ).

وننشرها فى قسمين :

           

  

 أولا : رعاية الطفل فى القرآن الكريم

 

تمهيد  

التراث الإسلامي العربى له جانبان : إلهي وبشرى....

الجانب الإلهي هو القرآن الكريم ؛ كلام الله تعالى الذي لا شك فيه .... أما الجانب البشرى وهو ما كتبه المسلمون بعد النبي من مأثورات منسوبة للنبي أو لكبار الصحابة أو الأئمة ومن فتاوى  وتشريعات ؛ وكلها ملأت آلاف الكتب والأسفار فى شتى العلوم من فقه وتفسير وأحاديث وحكم ومواعظ وتاريخ وقصص وآداب وعلوم وفنون ...

وفى هذه الورقة البحثية سنلمح إلى ملامح الطفولة فى القرآن ( الجانب الإلهي ) الذي يعبر عن الإسلام ثم بقية كتب التراث التي تعبر عن فكر المسلمين ....

مع ملاحظة أن مرحلة  الطفولة لم تحظ بعناوين رئيسية فى تراث المسلمين البشرى ؛ ومع ذلك فإن المكتوب عنها بين السطور كان فى أغلبه فكرا متقدما  سبق فى بعض نواحيه ما كان سائدا فى العصور الوسطى ؛ مع التأكيد على أن الدراسة المقارنة فى هذا المجال تستوجب مجالا أكبر وأشمل ... ونرجو أن تكون هذه الورقة  البحثية مدخلا لدراسات  أكثر تفصيلا و أكثر عمقا فى هذا الموضوع الذي لم يحظ بعد باهتمام الباحثين ..

والله المستعان ...

القاهرة فى مارس 1995م

 

(القسم الأول )

رعاية الطفل فى القرآن الكريم

رعاية الأطفال والعناية بهم  غريزة فطرية فى الوالدين والبشر عموما ؛ ومع أن تشريعات القرآن محدودة ( فى حدود مائتي آية) ومع تركيز تشريعات القرآن على دعوة البشر إلى الاهتمام بما ليس فطريا وغريزيا فيهم ؛ مع ذلك فإن رعاية الطفل والطفولة  احتلت مكانة هامة فى تشريعات القرآن .

وللقرآن منهج فى رعاية الأطفال يمكن أن نتبعه على النحو الأتي :

أولا :_  تحديد فترة الطفولة وملامحها:

فى القرآن الكريم آيتان تتحدثان عن مراحل خلق الإنسان وأطواره فى حياته ؛ يقول تعالى :  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) (الحج5):

ونستعرض الآية الكريمة بالتدبر والتحليل:

( فإنا خلقناكم من تراب )  إشارة إلى الخلق الأول ؛ خلق آدم ..

" ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة"  إشارة إلى خلق الجنين ،( من نطفة) أي البذرة الأولى أو (الزيجوت) الذي يتكون من اتحاد الحيوان المنوي بالبويضة ( ثم من علقة) أي بعد تكاثر خلايا الجنين لتصبح قطعة صغيرة معلقة بجدار الرحم ،( ثم من مضغة) أي تكبر حتى تصبح مقدار قطعة اللحم  التي يمضغها الإنسان ، وهنا تتحول الأنسجة إلى جزء مخلق وهو الجنين ، وجزء آخر غير مخلق، وهو المشيمة وفى ذلك تقول الآية " ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم " وقد يستقر الجنين فى بطن أمه إلى موعده ، وقد يسقط ..

 وبمشيئته تعالى تبدأ المرحلة التالية ، مرحلة الطفولة ، حين يخرج الجنين من بطن أمه مولودا " ثم نخرجكم طفلا" وتستمر مرحلة الطفولة إلى  أن يبلغ الطفل أشده ، أي أقصى قوته " ثم لتبلغوا أشدكم" وقد يموت ، وقد يطول به العمر إلى أن يصل إلى المرحلة الأخيرة وهى الشيخوخة التي يقول عنها رب العزة ( ومنكم من يتوفى  ومنكم من يرد إلى أرذل العمر  لكيلا يعلم من بعد علم شيئا)

إذن فالطفولة طبقا للآية الكريمة تبدأ بالميلاد إلى استكمال قوة الصبي ودخوله مرحلة الرجولة والفتوة.

ومعنى الآية السابقة تكرر فى الآية الأخرى ، فى قوله تعالى  (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى) (غافر67)"

فالصبي الذي بلغ أشده هو الذي ودع مرحلة الطفولة ودخل مرحلة الرجولة .. ولذلك فإن القرآن يكرر تعبير " حتى يبلغ أشده" ولما بلغ أشده" ،" يبلغا أشدهما" ليصف بدقة مرحلة الشباب التي تخالف الطفولة وضعفها.

بل أن ميزان الضعف والقوة يستخدمه القرآن فى وصف مراحل الحياة العمرية للإنسان فى طفولته إلى شيخوخته ، يقول تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًاوشيبة) (الروم 54")

خلقكم من ضعف" أي مرحلة الطفولة ...

" ثم جعل من بعد ضعف قوة" أي مرحلة الشباب والفتوة                                                

" ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة" أي مرحلة الشيخوخة والوهن فالضعف هو أبرز ملامح الطفولة ..

والقرآن يعبر أيضا عن دخول مرحلة الشباب لاكتمال القوة الجنسية للصبي وقدرته على الإنجاب فيقول تعالى عن بلوغ الطفل اليتيم مرحلة الشباب: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (النساء 6.)

"حتى إذا بلغوا النكاح" أي بلغوا القدرة الجنسية وهى تكتمل ببلوغ الصبي  مرحلة الشباب والرجولة .

ولقد أوجب القرآن على الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا قبل الدخول على الكبار من الذكور والإناث فى أوقات الخلوة المعتادة ،قبل صلاة الفجر وحين النوم فى القيلولة وبعد صلاة العشاء ،  واعتبرها ثلاث عورات ( سورة النور 58)

وفى الآية التالية قال تعالى (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : (النور 59)" ....

فالطفل قبل البلوغ يتمتع بالبراءة والنقاء والطهر، ,ومن أسس تربيته وتعليمه أن يستأذن على الكبار فى أوقات الخلوة والراحة ، حتى لا يرى ما يخدش حياءه وبراءته ...

فإذا بلغ الطفل مرحلة  الحلم وأصبح رجلا فقد  ودع البرءاة وأصبح يشهتى ما يشتهيه الرجل ، لذلك يجب عليه أن يستأذن فى كل الأوقات كما يستأذن الذين سبقوه فى الرجولة ، وهذا تأديب آخر له يتماشى و التأديب السابق للأطفال بعد أن فقد مثلهم البراءة والسذاجة ...

فالملمح الثاني من ملامح الطفولة هو البراءة

والطفل ... ذلك المخلوق البريء الضعيف ، يستحق المزيد من الرعاية والاهتمام .. حتى قبل أن يولد .

ثانيا : رعاية الطفل قبل أن يولد

تظهر هذه الرعاية المسبقة فى أمرين :_ الحرص على حق الطفل فى الحياة ، والحرص مقدما على حياته فى أسرة سعيدة.

1_ حق الطفل فى الحياة:

حين نزل القرآن كان من عادة العرب فى الجاهلية قتل البنات المولودات خشية العار ، وقتل الأولاد خشية الفقر.

وقد استنكر القرآن الكريم قتل الطفلة البريئة ودفنها فى التراب حية فقال تعالى ( وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت؟ !!...  (التكوير 8_9)  " وجاء ذلك فى سياق الحديث عن قيام الساعة  وحساب الآخرة .

ويصور القرآن حال أولئك المجرمين حين يعرف احدهم أنه رزق بمولود أنثى فيقول: "وإذا بشر احدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداَ وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون"(النحل 58).

كانوا يفضلون الذكور على الإناث، والذى يرزق بأنثى كان شعوره بالعار يحيل لونه إلى سواد ويجعله يتوارى من القوم، ويحتار بين أن يبقى على حياة وليدته محتفظاً بها وبالعار أم يدفنها في التراب.

وحرصاً على حق الأنثى في الحياة فإن القرآن يقرر أن الله تعالى هو وحده الذى يهب لمن يشاء إناثاً أطفالاً أو ذكوراً أطفالاً، أو يهب له إناثاَ وذكوراً معاً، أو يجعل من يشاء عقيماً (الشورى49-50) وإذن فلا ذنب على الزوجة إذا أنجبت أنثى كما كان الاعتقاد في الماضي ،كما أن للطفلة الأنثى نفس الحق في الحياة الذي لأخيها الذكر.

وكان الفقر يدفع بعضهم إلى قتل الأولاد بسبب الفقر أو تحسباً للفقر.. فقال تعالى يحذر من ذلك ضمن الوصايا العشر" قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم"(الأنعام151).

فالوصية الثالثة من الوصايا العشر تنهى عن قتل الأولاد "من إملاق" أى بسبب حلول الفقر، لأن الله تعالى هو الذي يرزق الوالدين والأبناء معاً..

ويتكرر نفس التشريع في قوله تعالى: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا"(الإسراء 31).

فالنهى هنا عن قتل الأولاد خشية فقر سيأتي،لأن الله تعالى هو الذى يرزق الأولاد كما يرزق الآباء. وتقرر الآية أن قتل الأولاد خطأ كبير.

ويلاحظ أن الله تعالى يساوى بين الآباء والأطفال في الحاجة للرزق، فيقول في سورة (الأنعام 151). "نحن نرزقكم وإياهم" ويقول في سورة (الإسراء31) "نحن نرزقهم وإياكم".

فالأب سبب لرزق الابن الطفل، والطفل سبب لرزق الأب، والأب والابن سواء فى الاحتياج لله تعالى الرازق.. وذلك يلغى الفكرة السائدة التى تؤكد أن رزق الأولاد مسئولية الأب وهو الذى يتكفل به، لأنه طالما أن الله تعالى هو الرازق فإن سعى الأب في الرزق مهما سعى مرهون بالنجاح والفلاح والمكسب.. وذلك في علم الله وتقديره. والله تعالى يخبرنا بأنه يراعى في ذلك وجود الأبناء بل ويجعل وجود الأبناء سبباً إضافياً لزيادة الحصة في الرزق المقدر للإنسان، وفي هذا المعنى يقول تعالى ينعى على أولئك الذين يقتلون أبنائهم بسبب الفقر أو خشية احتمال الفقر. "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين" (الأنعام 140).

فالله تعالى يصف الذين يقتلون أبنائهم بأنهم خسروا، وبأنهم سفهاء مفترون على الله ضالون وغير مهتدين.. وأنهم حين قتلوا أولادهم "قد حرموا ما رزقهم الله" أى أن الذرية رزق من الله أو سبب من أسباب الرزق.

وقد يقال أن قتل الأولاد خشية الفقر وقتل البنات خوف العار عادات سيئة انقرضت وأصبح التشريع القرآنى بشأنها يدخل ضمن التاريخ الماضى الذى لا شأن له بعصرنا الراهن..

إلا أن معطيات عصرنا تؤكد أن ما سبق عادات إنسانية سيئة لا تزال موجودة بدليل الكراهية لإنجاب البنات وشيوع الإجهاض وخوض العار أو خوف الفقر، وخصوصاً إذا علم أن الجنين أنثى.. كما في الصين.

أى أننا لا زلنا في حاجة للتمسك بتشريعات القرآن في الحرص على حق الطفل في الحياة قبل أن يأتي للحياة، وبعد أن يأتى للحياة يجد في انتظاره تشريعات تحرص على وجوده في أسرة سعيدة.

2- حق الطفل في الحياة مع أسرة سعيدة:

الزنا أكبر عدو للأسرة السعيدة، وإذا شاع الانحلال الخلقي في مجتمع شاعت معه الأسر المحطمة والبائسة، لأن الزنا حين ينتشر لا يهدد فقط وجود الأسر السعيدة حين يغوى الزوج والزوجة ولكنه أيضاً يمنع تكوين العلاقة الزوجية في الأساس حين يصبح الزواج أمراً مكروهاً والحياة المنطلقة المتحررة البهيمية أمراً مستساغاً.     

وفي آثار الزنا السيئة صحياً واجتماعياً وأخلاقياً يقول تعالى: "ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا" (الإسراء32.)

وبسبب خطورة الزنا على المجتمع فإن النهي عن الاقتراب من الزنا جاء في الوصية الرابعة بعد الوصية بعدم قتل الأبناء، ضمن الوصايا العشر، في قوله تعالى: "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن" (الأنعام 151).

والمنع من الاقتراب من الزنا هو تحريم لكل الوسائل التى توصل إليه من كل الأعمال المنافية للآداب في الزى الخليع وشتى فنون الإعلام.. لأن الأطفال هم أبرز الضحايا لجريمة الزنا.. سواء كانوا أطفالاً شرعيين انفصل أبواهم بسبب الزنا، أو كانوا أطفال غير شرعيين عاشوا يحملون حقداً على المجتمع الذى احتقرهم بسبب لا دخل لهم فيه..

والزنا جرثومة تهدد جسد الزوجية من الداخل أو من الخارج .. ولكنه ليس الجرثومة الوحيدة، فقد تتحطم الأسرة بسبب الخلافات الزوجية الأخرى، وما أكثرها، وتشريعات القرآن في الحرص على الحياة الزوجية مما يستحق كتاباً كاملاً ، والتفصيل في هذا الموضوع يخرج عن موضوع هذه الورقة البحثية، ولكننا نضع ملامح سريعة لتشريعات القرآن في الحرص على استقرار الحياة الزوجية، ضماناً لحق الطفل في الحياة مع أسرة سعيدة.

فالأصل في الزواج هو الهدوء والاطمئنان والراحة والمودة والرحمة: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة" (الروم21).

وعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، وحتى إن كرهها فليصبر عليها، وإن صبر عليها فإن الله تعالى يعده بأن يكون فيها خير كثير له في ماله وأولاده وحياته "وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا" (النساء 19).

والقوامه على الزوجة لرجلها زوجها لأنه الذى ينفق علي البيت وأنه الذى يحمى أسرته ويدافع عنها، وعلى الزوجة الصالحة أن تحفظ بيتها وزوجها وأولادها. والله تعالى رقيب عليها.. 

إذا كان الزوج معرضاً عن زوجته لا يعطيها حقها في الاهتمام والحب والرعاية مما يؤثر على سعادتها الزوجية فعليهما معاً باللجوء إلى عقد صلح بينهما على أساس ترك الأنانية والإستئثار، لأن الأنانية والإستئثار هى السبب في كل المشاكل الزوجية، والأولى من الأنانية أن تقوم العلاقة بين الزوجين على أساس الإحسان والخوف من الله تعالى.. وذلك ما أشارت إليه الآية (128) من سورة النساء..

وفي الأحوال السابقة يتم الإصلاح بين الزوجين في داخل الأسرة وبينهما بدون تدخل طرف خارجى.. والطرف الخارجي ـ المتمثل في الأهل والمجتمع والسلطات القضائية ـ مدعوة للتدخل في إصلاح حال الأسرة وإنقاذها من الانهيار إذا كان الشقاق قد تفجر بين الزوجين معاً، وأصبح كلاهما مسئولاً عن ذلك الشقاق وليس واحداً منهما فقط عندئذ يجب إرسال حكم من أهل الزوج وحكم من أهل الزوجة لمحاولة الإصلاح، وإن أرادا إصلاحاً جاء توفيق الله تعالى بينهما. الآية( 35) من سورة النساء.

وإن تعذر الإصلاح بعد تدخل الطرف الخارجي فهناك فرصة قبل الطلاق، مع الإيلاء.. في حالة استمرار الشقاق والخصام دون حل، وتظل سبل الإصلاح مفتوحة خلال مدة الإيلاء وهى أربعة أشهر.. فإن تم تطويق الخلاف، وإلا.. تحتمت المرحلة التالية وهى العزم على الطلاق.. (البقرة227).

وليس الطلاق هو الفصل الأخير من العلاقة بين الزوجين.. بل هو فترة أخرى من فترات الإصلاح بين الزوجين، مثل فترة الإيلاء، وذلك خلاف لما ساد في فكر المسلمين وتشريعاتهم التي تخالف تشريعات القرآن، إذ أن الزوج إذا عزم على الطلاق فإنه عليه أن يعلن ذلك بحضور شاهدين، وتظل الزوجة المطلقة في بيتها طيلة فترة العدة حتى يتبين إذا كانت حاملاً أم لا.. فإذا كانت حاملاً امتدت فترة العدة إلى أن تضع الحمل، وإن لم تكن حاملاً فالعدة بالنسبة لها ثلاث حيضات وإن لم تكن تحيض فالعدة لها ثلاثة أشهر..

وطيلة بقائها في العدة تكون في بيت زوجها لها كل الحقوق، ويغلظ القرآن في تحريم وتجريم إخراجها من بيتها وهى مطلقة في فترة العدة، وذلك حتى يتيح للزوجين فرصة المراجعة، فإذا راجعها أو ضاجعها أصبح مشروع الطلاق كأن لم يكن، أما إذا لم يحدث صلح بينهما وانتهت العدة وأصبحت الزوجة المطلقة خالية الرحم من أى احتمال للحمل عندئذ يخير الزوجان أمام الشهود بين الرجوع أو الانفصال التام.

فإذا اختارا الرجوع بعد انتهاء العدة أصبحت طلقة تحسب عليهما (والطلاق ثلاث مرات) وإذا اختار الانفصال النهائي خرجت من بيته وتحول الطلاق الرجعى إلى طلاق نهائي أو فراق، ولا يمكن أن ترجع إلى عصمته إلا بعقد زواج جديد كأي امرأة أخرى (سورة البقرة 227: 231، سورة الطلاق 1: 5).

والواضح أن الهدف من هذه التشريعات الراقية هى حماية الأسرة من التفكك وحماية الأطفال من الضياع، وتشريع العدة بالذات يمنع زواج الزانية قبل التوبة كما يمنع انفصال الزوجة عن زوجها إلا بعد استيفاء العدة، وحتى يكون رحم الزوجة خالياً بريئاً، وحتى لا ينتسب طفل إلى غير أبيه، وحتى يكون الزواج مبنياً على الثقة ويشعر الزوج أن المولود هو طفله من صلبه فيعطيه حقوقه سعيداً راضياً، ولذلك كان تحريم القرآن للتبنى ونسبة الأطفال إلى غير آبائهم (الأحزاب 4، 5، 37).

وتلك هى الأرضية التشريعية التى يجهزها القرآن الكريم لاستقبال الطفل، إذ أنه يجهز له مقدماً أسرة سعيدة لها شتى الوسائل التى تحل بها خلافاتها ومشاكلها.. لينشأ طفلاً سعيداً في أسرة سعيدة، حتى إذا جاء الطفل وجد تشريعات القرآن تصاحبه وهو رضيع تحنو عليه وهو على صدر أمه..

ثالثاً: رعاية المولود في فترة الرضاعة:

كما وضع القرآن الكريم مراحل العمر من الحمل إلى الطفولة إلى الشباب فالشيخوخة، فإن القرآن قد وضع مراحل أخرى جزئية في فترة الطفولة...

فبعد الحمل تكون الولادة والتلازم بين الأم والوليد وينتهي هذا التلازم بالانفصال بينهما، فيترك الطفل بعد الرضاع زراع أمه ليجرى ويلعب ويبدأ مرحلة التنشئة والتعلم..

 والقرآن الكريم يلحق فترة الرضاعة بفترة الحمل، وبعدهما (ينفصل) الطفل عن أمه ويجرى بعيداً ويفك الحبل السرى بينه وبينها.

يقول تعالى: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في عامين أن أشكر لى ولوالديك"(لقمان 14).

"حملته أمه وهناً على وهن" وصف لمشقة الحمل عند المرأة.

"وفصاله في عامين" أى أن فترة الرضاعة والتلازم بين الأم والرضيع.. وتمام الرضاعة للمولود عامان كاملان، أو كما يقول تعالى: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"(البقرة 223).

ومن حق الطفل أن يتمتع بصدر أمه أربعة وعشرين شهراً يظل فيها ملازماً لأمه وتحت رعايتها، وبعد هذه الفترة ينطلق يجرى ويلعب ويبدأ دورة جديدة من مراحل طفولته.

وتشريعات القرآن وضعت كل التدابير ليتمتع الرضيع الضعيف بكل حقوقه.. والأغلب أن الأسرة السعيدة لا يجد الرضيع فيها مشاكل في موضوع الرضاعة. والأغلب أيضاً أن تأتي المشاكل للرضيع الضعيف حين تكون أمه منفصلة عن أبيه.. وقد أخذت حقوقها في النفقة أو المتعة من زوجها السابق، ولكن تشريعات القرآن تلاحق الزوج السابق وتلزمه بنفقة الرضيع والإشراف على تمويل رضاعته، سواء كان يرضع من أمه أو من مرضعة مستأجرة، ولذلك فإن القرآن يفرض أن تكون مدة الرضاعة حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى الأب أن ينفق على المرضعة بالغذاء والكسوة مدة الرضاعة، سواء كانت المرضعة أم المولود أم لم تكن، وأن تتدخل الجهات المختصة في تحديد مقدار النفقة لتكون بالمعروف دون مشقة على الأب ودون إضرار بالأم، وإن كان الأب متوفياً فعلى من يرثه أن يحل محله في المسئولية، وحين يريد الأبوان فطام الرضيع فلابد أن يكون ذلك القرار عن تشاور بينهما وعن تراض بينهما ، فلا يصح لأحدهما أن ينفرد بالقرار أو أن يجبر الآخر عليه، وإذا اتفقا على استئجار مرضعة فلابد من أن تأخذ حقوقها بالمعروف (البقرة 223، الطلاق 6، 7).

ومن عجائب القرآن الكريم أن يلحق فترة الرضاعة بفترة الحمل، وبعدهما ينفصل الطفل عن أمه ويصبح حراً طليقاً يلهو ويلعب.. يقول تعالى يجمع بين فترتى الرضاعة والحمل "ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"(الأحقاف15).

إن أقل مدة للحمل ستة أشهر، وأقصى مدة للرضاعة عامان، ومجموع مدة الحمل والرضاعة معاً ثلاثون شهراً. وبعدها يكون الفصال والانفصال بين الأم ووليدها.. وقبل هذا الفصال بينهما كان المولود معتمداً على غذائه عن طريق الحبل السرى وهو جنين، ثم عن طريق ثدى أمه وهو رضيع، وكانت تحمله في أحشائها وهو جنين ثم أصبحت تحمله على كتفها وبين ذراعيها وهو رضيع.. ثم يبدأ الانفصال بينهما.

وأهمية ما سبق تتضح في حكمة التشريع القرآنى بالنسبة للأم التى أرضعت طفلاً.. إذ لا مشكلة بالنسبة للأم الوالدة التى ترضع طفلها، فهى أمه بالولادة وأمه بالرضاعة.. ولكن المشكلة في الأم التى أنجبت وعجزت عن إرضاع طفلها الوليد فاحتاج إلى مرضعة أخرى تكمل معه المشوار إلى أن يتم الانفصال.. هنا يكون للطفل أمان، أم والدة، وأم مرضعة.. لأنه بالفعل سيكون ابناً للأم الأخرى التى لم تنجبه ولم تقم إلا برضاعته وتغذيته من لبنها وصدرها.. فاللبن الذى يرضعه منها يدخل في استكمال جسده وفي تكوين مخه، وإذا كان وزنه عند الولادة خمسة كيلو جرامات أخذه من أمه الوالدة، فإن وزنه بعد اتمام مرحلة الرضاعة سيتضاعف وذلك الوزن الأساسي في جسده ومخه أتى إليه من جسد تلك المرضعة ومكونات لبنها أى أصبحت شريكة فيه مثل أمه التي أنجبته تماماً. بالإضافة إلى أن الرضاعة ليست مجرد تغذية بيولوجية بل هى جرعة حب وحنان وأحضان، وعلاقة حميمة بين الرضيع ومرضعته تخفق فيها القلوب والعقول.

ومن الطبيعى أن ذلك كله لا يمكن أن يأتى في حالة رضعة واحدة أو بضع رضعات وإنما بفترة رضاعة كاملة ينشأ فيها الطفل وقد أعتبر تلك المرضعة أماً له. يتلهف لمرآها ويصرخ طالباً ثديها ويسعى حبوا لها ويفتح عينيه يطلب منها الغذاء والأمان والحب والحنان أى يعتبرها أمه.

هذه الأم المرضعة هى التى حرم القرآن زواج رضيعها منها شأنها شأن الأم التى أنجبت، بل وحرم القرآن الزواج من ابنتها، لأنها أخت في الرضاعة.. يقول تعالى: "وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة" (النساء23) أى يحرم زواج الأم المرضعة والأخت التى أنجبتها المرضعة أيضاً، ولم يقل القرآن "النساء اللاتى أرضعنكم" وإنما قال "وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم" ليؤكد على أن المرضعة التى يحرم الزواج منها هى التى أصبحت مثل الأم، أي التى قامت بالإرضاع طيلة مدة الرضاعة حتى اعتبرها الرضيع أمه وناداها بذلك بعينيه وصراخه ولهفته وتعوده عليها.. فأصبحت أمه بهذا التلازم، وأصبحت بناتها أخوات لذلك الرضيع يحرم عليه الزواج منهن كما يحرم عليه الزواج من أمه التى أنجبته.

وكما أن من حق الرضيع أن يتغذى جسده وفؤاده بالرضاعة الطبيعية عامين، فإن من الواجب عليه بعد أن يصبح رجلاً أن يعطى لمن أنجبته وأرضعته كل الرعاية والحقوق.. ولذلك فإن القرآن حين ذكر فترتي الحمل والرضاعة فإن ذلك كان في معرض التوصية بالإحسان بالوالدين الذين قاما برعاية الطفل في الشهور الأولى، ونسترجع الآيتين "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين، أن اشكر لي ولوالديك"(لقمان14).

"ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهراً"(الأحقاف15).

والطفل بعد أن يكبر يحتفظ داخل عقله بما شهده في فترة الرضاعة والتلازم مع أمه.. وتظل صلته بأمه أقوى الصلات، ومن التعبيرات المأثورة أن يقول الأخ لأخيه (يابن أمى) وذلك ما قاله نبى الله هارون لأخيه موسى حين غضب موسى على أخيه هارون بعد أن رجع موسى من لقاء ربه فوجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل الذهبي ووجد أخاه هارون عاجزاً معهم فأخذ برأس أخيه يجره إليه غاضباً، حينئذ قال هارون "يا ابن أمَّ لا تأخذ بلحيتى ولا برأسي" (طه94) "قال يا ابن أمَّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني" (الأعراف150).

أى أن هارون في هذا الموقف العصيب أخذ يذكر أخاه بالأم الطيبة.. أم موسى وهارون التي رعتهما وأرضعتهما.. فالشأن في المرضع أن تعطي الرضيع حنانها ورعايتها، وتلك هى القاعدة السائدة إلى أن تقوم الساعة وعندئذ يحدث انفجار الكون الهائل التى تسقط فيه الحوامل من النساء "وتذهل كل مرضعة عما أرضعت" (الحج 2).

رابعاً: رعاية الطفل في فترة التنشئة (من الفصال إلى الحلم):

بعد انفصال الطفل عن أمه يبدأ في الاحتكاك المباشر بالأسرة والمجتمع القريب منه، ويبدأ في التعلم المباشر ممن حوله،أو تبدأ تربيته الاجتماعية والسلوكية والتعليمية التى يواجه بها المجتمع الكبير بعد أن يصبح رجلاً مسئولاً.

وفي هذه المرحلة الهامة كتبت آلاف المؤلفات بشتى اللغات عن تربية الطفل وتنشئته، وحين نراجع القرآن الكريم في هذا الصدد نجد ثلاثة ملامح أساس لرعاية الطفل.

1- التربية الدينية الخلقية للطفل:

* ويتم ذلك بأمر الطفل بالعبادات خصوصاً الصلاة والزكاة وكان نبى الله إسماعيل يأمر أهله (أى الزوجة والأولاد) بالصلاة والزكاة، لذلك كان عند ربه مرضيا (سورة مريم55) والله تعالى أمر خاتم النبيين محمداً بأن يأمر أهله وأولاده بالصلاة وأن يصبروا على إقامتها والمداومة عليها مع أهله (طه132) لذلك كانت بيوت النبي تقام فيها الصلاة وتخرج منها الصدقات والزكاة ويذكر فيها اسم الله ويقرأ فيها كتابه القرآن الكريم (الأحزاب33، 34) وتلك هى سنة الأنبياء.. التى ينبغى أن يتأسى بها المؤمن في تربية أبنائه..

فإذا كان إبراهيم يدعو الله أن يجعله ممن يقيم الصلاة هو وذريته "رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي" (إبراهيم40) فإن شأن المؤمن أن يدعو ربه نفس الدعاء قائلاً "وأصلح لي في ذريتي" (الأحقاف14) وحين يلتفت فيرى أولاده محافظين على الصلاة والعبادة يشعر بالسعادة لأنه يدعو ربه قائلاً "ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما" (الفرقان74).

والصلاة والزكاة في الإسلام مجرد وسائل للتقوى والتعود على العمل الصالح والرقى الخلقى، والمؤمن الذى يدعو ربه بإخلاص ليجعل أولاده مقيمى الصلاة لتقر عينه وليسعد بهم لن يدخر وسعاً في تنشئة أطفاله منذ الصغر على الالتزام بالعبادة وتأدية الفرائض في مواقيتها.

وذلك المؤمن يدرك مسئوليته المباشرة أمام الله عن تنشئة أطفاله وتحصينهم ضد المعاصى منذ الصغر حتى لا يكون من الخاسرين يوم القيامة، فالله تعالى يقول: "إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة" (الزمر15، الشورى45). وفي ذلك يقول الله تعالى: " يا أيها الذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم  ناراً"(التحريم6) فالذى يخسر أولاده في الدنيا في ميزان الأخلاق والصلاح والتقوى، يخسرهم أيضاً ويخسر نفسه معهم في الآخرة حيث الجحيم.. وذلك ما يحرص المؤمن على ألا يقع فيه، بل إنه على العكس يحرص على أن يكون مع أولاده في الجنة، وذلك بأن ينشئهم التنشئة الصالحة وفي ذلك يقول تعالى عن أهل الجنة الذين اتبعتهم ذريتهم في الجنة بالإيمان والإحسان " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم"(الطور21).

ومن استعراض الآيات يظهر لنا أن القرآن الكريم قد شدد على مسئولية الآباء على تنشئة أبنائهم التنشئة الصالحة وربط ذلك بالجنة أو بالنار يوم القيامة.

والمفهوم أن الآباء هم القدوة والمثل العليا للأبناء في هذه المرحلة حيث يتعود الطفل تقليد من حوله، ومفهوم أن المؤمن الحريص على صلاح أبنائه في الدنيا والآخرة سيكون أحرص على أن يظهر أمامهم في أحسن صورة وأن يكون خير مثل يحتذى به أمام أولاده وإلا فإن القرآن يقول: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" (البقرة44).

وبالإضافة لتعود الطفل على العبادات والعمل الصالح والابتعاد عن المعاصي وبالإضافة إلى كون الأب والأم قدوة حسنه للطفل فإن الأب يلاحق ابنه بالنصائح والوعظ، والقرآن ملئ بالنصائح الأخلاقية والدينية، وهى للأب والابن معاً، ولكن القرآن لم يكتف بذلك فأورد نصائح لقمان لابنه وهى ألا يتخذ مع الله تعالى شريكاً في الألوهية، وأن يقيم الصلاة ويأمر بالمعروف  وينهى عن المنكر وأن يصبر على المصائب وألا يتكبر على الناس وألا يختال في مشيته وألا يفتخر بنفسه، وأن يمشى في تؤدة وتأن وأن يتحدث في صوت خفيض لأن أنكر الأصوات هو صوت الحمير(لقمان13-19).

ونصائح لقمان لابنه من أروع الوعظ الأسرى والاجتماعى، وهى تجمع بين الوعظ الدينى والخلقى والتفاعل مع المجتمع بالخير والنفع وهى تصلح نموذجاً للسلوك السوى للكبار والصغار معا..

ولكن تشريعات القرآن تتضمن بعض التشريعات الخاصة بالأطفال دون الكبار.

2- تشريعات خاصة بالطفولة عموماً:

*وبعض القوانين تميز الأخ الأكبر فى ميراث أبيه، بل وتخصه بالتركة كلها، والعادة السيئة للكثيرين هى استحواذ الابن الأكبر على حقوق أخوته الصغار، إلا أن تشريعات القرآن حفظت حقوق الابن والابنة والأخ والأخت سواء كانوا أطفالاً أم كباراً ولم تفرق بينهم حسب السن أو العمر فالابن الطفل الصغير له نفس حقوق أخيه الأكبر في الميراث.

على أن فى القرآن تشريعات خاصة بالطفولة تتجلى في النظر لزينة المرأة وفي الاستئذان على الكبار، فالقرآن يبيح للمرأة أن تظهر زينتها لزوجها ومحارمها مثل الأب وأب الزوج والأبناء وأبناء الزوج والأخ وأبناء الأخ وأبناء الأخت والتابعين الأبرياء من الرجال والأطفال الذين لا يزالون في طور البراءة ولم يميزوا خصوصية المرأة ومحاسنها أو بتعبير القرآن "أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء" (النور31).

فالمرأة تظهر زينتها أمام زوجها وأمام محارمها أي الذين يحرم زواجها منهم لو كانت بلا  زوج، وتظهر زينتها أمام الطفل البريء الذى لا يدرى شيئاً، أما الطفل المميز الذى يتأهب للبلوغ والدخول في مرحلة المراهقة فإن إطلاعه على زينة النساء مما يؤثر في شخصيته، والطفل هنا ليس ابناً أو محرماً للمرأة، وإنما هو طفل أجنبي، ولو كان رجلاً لأصبح من حقه الزواج بتلك المرأة إن كانت خالية ولهذا يأخذ حكم الرجل الأجنبي الذى لا ينبغي أن تظهر له المرأة زينتها.

ومن الآداب التى أوجبها القرآن ألا يدخل المؤمن بيتاً غير بيته إلا بعد أن يستأذن ويسلم على أهل البيت، فإن لم يكن في ذلك البيت أحد فلا يدخله، وإن قيل له ارجع ولا تدخل فلابد أن يرجع وأنه لا جناح عليه في أن يدخل بيوتاً غير مسكونة طالما أن فيها متاعاً له..(النور 27: 29 ) وحين نزلت هذه الآيات كان العرب وقتها لا يعرفون الآداب الاجتماعية وحرمات البيوت، وبعدها أصبح من مميزات الشخصية العربية الإسلامية الحرص الشديد على احترام بيوت الغرباء وحرماتهم وملكياتهم..

وفي داخل البيت أوجب القرآن على الخدم والأطفال أن يستأذنوا عند الدخول على الكبار في خلوتهم أو في أوقات الراحة والنوم، وهى قبل صلاة الفجر وحين القيلولة وبعد صلاة العشاء، واعتبر القرآن هذه الأوقات "عورات" لا يجوز دخول الخدم والأطفال فيها على الكبار إلا بعد الاستئذان، ثم ليس عليهم جناح بعدها في الدخول والخروج في الأوقات والأماكن المفتوحة في البيت.

ثم إذا بلغ الطفل الحلم وأصبح رجلاًَ تعين عليه أن يستأذن كما يستأذن الرجال (النور58، 59).

3) تشريعات خاصة بالطفل اليتيم:

اليتيم ليس كل من فقد والديه أو أحدهما، وإلا أصبح كل الرجال والنساء تقريباً أيتام.. وإنما اليتيم هو الطفل الذى فقد أحد الوالدين أو كليهما.. وذلك المفهوم وارد في السياق القرآني في أكثر من موضع، مثلاً يقول تعالى "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده"(الأنعام152، الإسراء34) فهو يتيم طالما ظل طفلاً، فإذا بلغ أشده وأصبح رجلاً زالت عنه صفة اليتيم وصفة الطفولة أيضاً، وحينئذ يجرى له اختبار للأهلية، يقول تعالى: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" (النساء6). أى فإذا بلغ مبلغ الرجولة والقدرة على الزواج لم يعد يتيماً أو طفلاً.. ويقول تعالى في قصة موسى.. "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا" (الكهف82) فهما غلامان يتيمان، وحين يبلغان أشدهما ويصبحان رجلين يستطيعان استخراج كنزهما..

والطفل عموماً أحوج الناس إلى الرعاية والاهتمام والعناية، ولكن عندما يفقد الطفل أبويه أو أحدهما يكون أكثر حاجة من الطفل العادي للاهتمام، ويكون أكثر منه استحقاقاً للمعاملة الخاصة التى تعوضه عن فقدان الأب والأم، وتحفظ له حقوقه وتضمن له ( عند تطبيق التشريعات القرآنية) تنشئة سليمة تجعل منه عضواً نافعاً في المجتمع.

ومن الممكن إيجاز التشريعات القرآنية بخصوص اليتيم في ناحيتين : الحقوق المالية ، والرعاية الاجتماعية والنفسية..

فاليتيم سواء كان غنياً أو فقيراً له حقوق مالية أوجبها له القرآن على المجتمع، فله حق في الزكاة والصدقات التى يتطوع بها الأفراد بصفتهم الشخصية (البقرة 215، 177) وله حق في الغنائم التى تحصل عليها الدولة، وله حق في كل ما يدخل بيت المال العام من الفئ (أى الضرائب والمساعدات الخارجية مثلاً) (الأنفال41، الحشر 7).وإذا حضر اليتيم مجلساً تقسم فيه تركة أو ميراث أصبح من الواجب على الورثة إعطاءه نصيباً من الميراث مع تطييب خاطره بكلام جميل يشرح صدره (النساء 8)ونعيد التأكيد على أن تلك الحقوق المالية لليتيم لا تتأثر بكونه غنياً .. لأن المقصود منها أن يشعر بأن المجتمع كله يقوم له بدور الأب والأم وينفق عليه بمثل ما كان أبوه أو أمه تنفق عليه.

والعادة السيئة لأغلب البشر هى الطمع في مال اليتيم وأكله بالباطل حتى إذا بلغ مبلغ الرجال ضاعت حقوقه وميراثه..

والقرآن يحذر من ذلك أشد تحذير فينذر الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً بأنهم يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيرا في جهنم (النساء10) ويوجب إعطاء اليتامى أموالهم لأن أكل أموالهم بالباطل يعتبر ظلماً كبيرا (النساء2)، وقد جاء في القرآن الكريم مرتين قوله تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن"(الأنعام152، الإسراء34).

واليتيم الوارث الغنى يحتاج إلى وصى يقوم على تنمية ماله . وذلك الوصى قد يكون غنياً وقد يكون فقيراً، وقد أوجب القرآن الكريم على الوصي الغنى أن يتعفف عن أخذ أجرة مقابل رعايته لمال اليتيم، وأباح للوصى الفقير أن يأخذ أجره بالمعروف في مقابل إشرافه على مال اليتيم، وذلك معنى التحذير من الاقتراب من مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن: (النساء6).

وحين يبلغ اليتيم مبلغ الرجال تكون قد أجريت له عدة اختبارات لمعرفة أهليته للتصرف في أمواله، فإذا اجتازها وثبتت أهليته لإدارة أمواله حصل عليها، وإن ثبت أنه سفيه قام المجتمع من خلال الوصى بإدارة أمواله وتنميتها مع الإنفاق على السفيه اليتيم وتغطية كل احتياجاته من ريع أمواله (النساء5، 6).

والقرآن الكريم يحذر الوصى من التلاعب بأموال اليتيم واستهلاكها قبل أن يبلغ اليتيم أشده، كما يمنع الوصى من الطمع من الزواج من اليتيمة الغنية لاستغلال أموالها إذا كانت تلك اليتيمة يحل له الزواج منها، وفرض أن يكون القسط والعدل هو أساس التعامل مع الأيتام (النساء6، 7).

كما عملت شرائع القرآن على رعاية اليتيم اجتماعياً ونفسياً وإشباع حاجاته العاطفية ورغبته في الحنان والانتماء، والقرآن الكريم يأمر بالإحسان للوالدين والأقارب واليتامى سواء كانوا من الأقارب أو من الأجانب (النساء36).

والإحسان في مفهوم القرآن يتجاوز قيمة العدل ليصبح كل مبادرة بالعمل الحسن وكل سلوك مهذب في التعامل مع الوالدين والأقارب والجيران والأيتام، ومع أنه مفهوم عام في التعامل إلا أن تشريعات القرآن الكريم بالنسبة للإحسان لليتيم أوضحت الخطوات التفصيلية في كيفية التعامل الاجتماعى الحسن مع اليتيم.

فاليتيم شديد الحساسية لأى كلمة أو أى إشارة، وهو يشعر بالقهر عندما يتعرض لإساءة عادية قد لا يشعر بها طفل آخر، وبسبب جوعه للحنان وشعوره الدائم بالاحتياج للصدر الحنون فإنه سريع الاستجابة للعطف بمثل سرعة حساسيته للإهانة وعدم الاكتراث، وقد تتضخم لديه ردود الأفعال وقد ينتج عنها تقوقعه داخل عالمه النفسي مما يؤدى به إلي الوقوع في الأمراض النفسية والأحقاد على المجتمع.

ولذلك فإن القرآن الكريم يعتبر أي إساءة لليتيم قهراً له وينهى عن قهر اليتيم وإغلاظ القول أو الفعل معه (الضحى9، الماعون2) ويفرض إكرام اليتيم ويجعل عدم إكرامه من صفات أصحاب النار يوم القيامة (الفجر17).

ومن إكرام اليتيم تعويضه بإقامة أسرة بديلة له ترعاه وتشبع حاجاته للانتماء، ولذلك فإن تعدد الزوجات في الإسلام مرتبط بشيئين العدل مع اليتيم، والعدل بين الزوجات. يقول تعالى بعد الحث على إعطاء اليتيم حقوقه المالية "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة" (النساء3).

ومعناه أن يكون التعدد في الزوجات على نحو يخدم قضية اليتيم ويوفر له القسط والعدل. بأن تتزوج أمه رجلاً يكون له أباً يرعاه، أو يتزوج أبوه زوجة أخرى إذا كانت الزوجة الأولى- بعد موت أم اليتيم- تسئ معاملة الطفل اليتيم. ومما يلفت النظر دعوة القرآن الكريم إلى زواج الأيم التي فقدت زوجها حتى يكون لأولادها أب بديل يرعاها ويرعاهم.

ومن إكرام اليتيم أيضاً الحرص على إطعامه وإن كان غنياً حتى يشعر بجو الأسرة وحنان المجتمع، ويعظم الثواب حين يكون اليتيم فقيراً أو قريباً في النسب أو الجيرة من المؤمن الذي يكرمه بالإطعام والرعاية (الإنسان8، البلد 15).

وفي كل الأحوال فالمطلوب هو الإصلاح لأحوال الأيتام، وأن يعطيهم المجتمع صدره الحنون، وأن يختلط بهم الآخرون على أساس الأخوة والمساواة والإصلاح وعدم الإفساد، وإلا فإن الله تعالى يحذر من ظلم اليتيم وتضييعه (البقرة220).

هذا هو التشريع القرآنى الذي يجعل اليتيم عضواً نافعاً في المجتمع. وبدون هذا التشريع يتحول اليتيم إلى قنبلة بشرية موقوتة تنفجر في وجه المجتمع فساداً وتدميراً.. ومن مجانين الطغيان في تاريخ العالم من كانوا في طفولتهم أيتاماً عرفوا الظلم والحرمان، فلما كبروا صبوا جام غضبهم على الدنيا بأسرها قتلاً وتدميراً.. يستوى فى ذلك صاحب الزنج ورئيس القرامطة في التاريخ العباسي، وهتلر وصدام حسين في التاريخ المعاصر.

خامساً: ملامح الطفولة في قصص الأنبياء في القرآن:

عرضنا لملامح الطفولة في تشريعات القرآن، وبقى أن نتوقف مع ملامحها في قصص القرآن عن الأنبياء، والطريف أن القرآن الذى نزل على محمد عليه السلام  خاتم الأنبياء والمرسلين لم يتحدث عن طفولته إلا في إشارة وحيدة، يقول فيها الله تعالى له" ألم يجدك يتيماً فأوى " (الضحى6) فقد كان خاتم النبيين طفلاً يتيماً فقد أباه قبل أن يولد، ثم فقد أمه. وكفله جده وما لبث أن مات، فكفله عمه الشقيق أبو طالب..

وتفصيلات القرآن غنية وثرية فيما يخص طفولة موسى وعيسى.. عليهما السلام.

وتفصيلات ميلاد عيسى عليه السلام جاءت في سورتين إحداهما تحمل اسم آل عمران أسرة السيدة مريم، والأخرى تحمل اسم السيدة مريم نفسها.

في سورة (آل عمران) تبدأ التفصيلات باصطفاء الله تعالى لآدم ونوح وآل عمران واختياره لهم من بين العالمين، ثم يذكر القرآن أن امرأة عمران وهبت ما في بطنها لله جلّ وعلا ، فلما ولدت فوجئت بالطفل الوليد أنثى فسمتها مريم، وتحدث القرآن الكريم عن الرعاية التى أحاطت بالطفلة مريم من عند الله ومن عند بنى إسرائيل حيث تنافسوا في أيهم يكفل مريم، وكان من نصيب نبي الله زكريا أن اختاره الله لأن يكفلها، فعاشت مريم في كنفه في المسجد. وكلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً ويسألها فتجيبه بأن ذلك الرزق من عند الله. وأعجب زكريا بمنطقها وصلاحها فتمنى أن يهب الله له طفلاً، ودعا ربه فاستجاب الله له دعاءه، وبشرته الملائكة بأنه سيرزق بطفل اسمه يحيى يكون نبياً،وتعجب زكريا كيف يهبه الله غلاماً وهو شيخ كبير وزوجته عجوز عقيم، ولكن الله تعالى أعطاه آية، وهى ألا يستطيع التكلم مع الناس إلا بالإشارة....

أما مريم بعد بلوغها فقد اعتزلت قومها للعبادة، وهناك دخل عليها جبريل روح الله يبشرها بغلام وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين من الله، فتعجبت كيف يكون لها غلام وهى لم يلمسها بشر فأخبرها أنها إرادة الله وكلمته... (آل عمران33-48).

وفي سورة مريم تبدأ السورة بزكريا وهو يدعو الله تعالى أن يهبه غلاما يرث النبوة من بعده، وبعد البشرى بيحيى والكلام عنه وكيف أن الله تعالى أعطاه الحكمة صبياً ذكرت السورة اعتزال مريم وتفرغها للعبادة ودخول جبريل عليها، وكيف حملت من كلمة الله وكيف وضعت طفلها المبارك وكيف عادت إلى قومها تحمله، والطفل المبارك يرد اتهامات القوم الظالمة عن أمه البتول (مريم1-34).

وقصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل ردد القرآن تفصيلاتها في أكثر من موضوع، ولكن قصة ميلاد موسى وطفولته تعرض لها القرآن الكريم في إشارة سريعة في سورة (طه 37: 40).

وذكرتها سورة القصص بالتفصيل، منذ تجبر فرعون واضطهاده لبني إسرائيل وقراره بذبح أولادهم، وخوف أم موسى على وليدها، وكيف أوحى الله إليها بأن تجعله في تابوت وتلقيه في النيل ليصل إلى قصر الفرعون، وتأخذه امرأة الفرعون وترجو زوجها أن يتبناه ويربيه، ثم يرفض الوليد المراضع إلى أن يستأجروا له أم موسى نفسها لتقوم برضاعته، فعاد الطفل إلى أمه وبيته ولكن متمتعاً برعاية الفرعون وحمايته (القصص1-13).

وأدت هذه النشأة غير الطبيعية إلى تشكيل شخصية النبى موسى بصفات انفرد بها، إذ رضع لبن الخوف من أمه، التى كانت ترضعه وهى تخشى أن يكتشف أعوان الفرعون أنها أمه الحقيقية وأن يشمله القرار الفرعوني بالذبح.

وشب موسى بين بيته وقصر الفرعون فعرف أصله وقومه وأدرك أنه في حقيقته غريب عن القصر الملكى الذى ينتمي في الظاهر إليه، وأن حياته مهددة لو افتضح سره، لذلك كان موسى في كل حياته يتوقع الشر ويبادر بالتصرف، وحين يغضب يكون غضبه هادراً، وهو في سرعته في الغضب لا يعرف التروي، هذا مع خوفه الدائم فهو أكثر نبى في القصص القرآني ذكرت كلمة الخوف على لسانه وتصرف على أساسها، لذلك أراد الله تعالى تعليمه الصبر فأرسله إلى نبي آخر ليصحبه في طريقه ويتعلم منه التروي وعدم التسرع، وذلك النبي مشهور في كتب التراث باسم الخضر وتصفه كتب التراث بأنه من الأولياء وتسند إليه الكرامات والخوارق.

والمهم أن طفولة موسى قد شكلت شخصيته وملامح حياته في نبوته ودعوته.

وقصة إبراهيم في القرآن تناولت أحداثاً كثيرة في حياته ونتوقف منها عند حادثتين، الأولى تكسيره الأصنام والقرآن يذكر أن قومه قالوا عنه وقتها "سمعنا فتي يذكرهم يقال له إبراهيم" ا(الأنبياء60) أي كان راشداً عارفاً بالحق من قبل ذلك، ومن الطبيعى أنه لم يكن يجرؤ على تدمير الأصنام والحوار مع قومه بهذه العقلية إذا لم يكن قد عرف الحق قبل البلوغ.

والحادثة التى بدأت بها هدايته والتى نرجح أنها حدثت  في طفولته الواعية هى حواره مع نفسه حين رأى كوكباً يعبده قومه فلم يرض به لأنه يغيب، ثم فكر في عبادة القمر فوجده أيضاً يأفل، ثم فكر في الشمس فهى أكبر وأشد ضوءاً فوجدها تغرب، وانتهى من هذا التأمل العقلى إلى عبادة الله وحده.. وبدأ يدعو أباه وأهله ثم قومه ودخل في طور الفتوة وقد بدأ حواره عن الأصنام يتسع، ثم قام بكسر الأصنام ليبرهن لقومه على أنها مجرد أحجار.. (الأنعام75-79، الأنبياء51-70، الصافات 82-98).

أى أن إبراهيم عرف الهداية منذ طفولته..

وفي ثنايا قصة إبراهيم نتوقف مع طفولة ابنيه إسماعيل وإسحق..

فبعد أن عاقبه قومه بإلقائه في النار لجرأته على تكسير الأصنام هاجر إبراهيم تاركاً أهله ووطنه في العراق ليستقر في جنوب الشام، وكان معه ابن أخيه لوط وزوجتيه سارة وهاجر، ورزقه الله تعالى من هاجر ابنه الأول إسماعيل وأوحى الله إليه أن يذهب بهاجر وابنه إسماعيل إلى مكة عند البيت الحرام ويتركها هناك، كنوع آخر من الإبتلاء، وتركها إبراهيم في الصحراء حيث لا زرع ولا بشر، ووقف يدعو ربه قائلاً: "ربنا إنى أسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وأرزقهم من الثمرات" (إبراهيم 37). وتركها وعاد إلى الشام، فعاش إسماعيل طفولته في مكة بعيداً عن أبيه إبراهيم الذى جاءه اختبار أقسى إذ رأى مناماً يذبح فيه ابنه الوحيد الغائب عنه، وسافر إليه لينفذ الحلم، وعرض على ابنه الطفل الأول فقال: يا بني إني أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى؟ فقال له ابنه الطفل: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.

واستسلم الأب والطفل لتنفيذ الأمر، وتم إنقاذ الطفل بفداء عظيم ونجح إبراهيم وولده الطفل في أعنف اختبار( الصافات101-109).

وكانت مكافأة إبراهيم أن وهب الله تعالى له ابنه الثاني من زوجته العاقر سارة، جاءت الملائكة متجسدة في صورة بشر تبشر إبراهيم وسارة بمولود اسمه إسحق، وأن إبراهيم سيعيش حتى يرى ابنه اسحق قد أصبح نبياً ويرى حفيده منه يعقوب، أي جاءته البشرى بالابن والحفيد (هود69-72، الحجر51-55، الذاريات24-30).

والقرآن يصف طفولة إسماعيل بن إبراهيم الأكبر  بأنه غلام عليم "إنا نبشرك بغلام عليم" (الحجر53) "وبشروه بغلام عليم" (الذاريات28).

فالغلام الذبيح هو إسماعيل الذى لم يكن لإبراهيم طفل غيره وقتها.

وفي التوارة ما يؤكد على أن الذبيح هو إسماعيل في طفولته، تقول التوراة في الإصحاح الثانى والعشرين من سفر التكوين أن الله تعالى قال لإبراهيم "خذ ابنك وحيدك الذى تحبه اسحق واذهب إلى أرض المريا.. وذكرت تفصيلات قصة الذبح، وجعلت الذبيح اسحق وليس إسماعيل، ولكن وصف الطفل بأنه وحيد أبيه يدل على أنه إسماعيل، لأنه كان الإبن الوحيد إلى أن رزق إبراهيم بإسحق ولم يكن إسحق الابن الوحيد لأبيه مطلقاً.

اجمالي القراءات 43309