القرآن الكريم والمنطق الحيوى :2 / 2 ( فقه المصالح فى رؤية قرآنية)

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٩ - أغسطس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 مقدمة    

الصديق . د رائق النقرى مؤسس مدرسة دمشق للمنطق الحيوى أصدر سلسلة من الابحاث عن المنطق الحيوى ، وتطبيقاتها ، ومنها مجموعة " قرآن القرآن " أو قراءة للقرآن فى ضوء المصالح والرؤية الحيوى / منطقية .
وقد عرضت فى المقال السابق لرؤيتنا اهل القرآن فى تطبيق المنطق الحيوى والمصالح على المسلمين ، مؤكدين  على اهمية الفصل بين الاسلام كدين ، والمسلمين كبشر ، لهم مصالحهم التى تتناقض فى معظمها مع المصالح التى يتوخاها القرآن الكريم .
ويحتاج الأم&Ntie;ر الى شرح يقدمه هذا المقال عن فقة المصالح فى رؤية قرانية .

اولا : تحديد مفهوم المصلحة قرآنيا :

1 ـ حسب الاصل اللغوى والقرآنى فالمصلحة من الاصلاح ، أى مافيه صلاح الفرد وصلاح المجتمع  فى الدنيا والاخرة . وتحت هذا المفهوم جاءت الآيات الكريمة تربط الايمان بالعمل الصالح ، وتكرر مصطلح ( الذين آمنوا وعملو الصالحات ) ، فالاصلاح وحده لا يكفى والايمان وحده لايكفى للفوز بالدنيا والآخرة ، بل لابد من اقترانهما لتتحقق مصلحة الفرد  فى الدنيا وفى الاخرة .

الايمان وحده لا يكفى مع وجود عمل سئ والاستمرار فيه ، بل ان ادمان العمل السئ يضيع الايمان بالتدريج ، كقولة جل وعلا :( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ )( المطففين 14 ). وصاحب العمل الصالح بلا ايمان حقيقى ينال أجره فى الدنيا فقط مقابل العمل الصالح الذى عمله ، ولكن مصيره الجحيم فى الاخرة : (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُون أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )( هود 15: 16 ) أى إنه أصلح استهدافا للدنيا فيحقق له الله جل وعلا مصلحته فى الدنيا فقط  لأنه لا يسير الى نهاية الشوط حتى الاخرة .

2 ـ من حيث المعنى فالمصلحة فى الدنيا والاخرة يأتى التعبير عنها بالفوز والفلاح ، ويأتى النقيص لها بالخسارة والخيبة . والمفهوم مما سبق ان المصلحة فى الاسلام تربط الدنيا بالاخرة ، او تستمر بالفرد حتى الاخرة .

ثانيا : المصلحة وصلاح النفس :
وبينما يهتم البشر أساسا بتحقيق المصلحة الدنيوية ، فأن الفلاح الحقيقى هو الخلود فى الجنة والخسران الحقيقى هو الخلود فى النار: ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) ويشرح رب العزة ذلك الخسران الأكبر فيقول محذرا المؤمنين مقدما : ( لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ )( الزمر 15: : 16).

وحيث ان الجسد هو الرداء الذى ترتديه النفس ثم تتركه ليعود الى الارض الذى جاء منها ، فأن الصلاح  والفساد  مرتبطان بالنفس ، إن زكاها صاحبها أفلح  ، وان تركها لنزواتها وغرائزها وهواها خاب وخسر (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا )(الشمس 7 :10  ) ومن هنا جاء التحذير للمؤمنين بأن يقوا انفسهم عذاب الجحيم ، اى  تحذير لهم من الخسران الابدى المشار اليه بقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)( التحريم 6 )

ثالثا : ربط الاصلاح او المصلحة بالجوهر وليس بالمظهر :
1 ـ هناك من يزعم الايمان ويتحلى بمظاهر الصلاح واشكاله وهو فى الحقيقة عند الله تعالى خاسر فاجر كافر (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ) ، بل قد يستخدم فصاحته فى إقناع الناس بصلاحه وهو أشد الناس فسادا :( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ
) ( البقرة 8  ـ ، 204 ـ  ) 
وهذا يؤكد الحقيقة المشار اليها سابقا وهى ان الايمان وحده لا يكفى ، وان مظاهر الايمان لا شأن لها بجوهر الاصلاح , ومن هنا يقول تعالى:  (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
)( المؤمنون 1 : 11) ومعناه ان هناك من المؤمنين من لا يفلحون وهم الذين افتقدوا العمل الصالح وأدمنوا العمل السئ.

2ـ وهناك من يزعم نفسه من الابرار ويظن ان البر مزاعم ومظاهر وقد رد عليهم رب العزة فقال ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ  ) ( البقرة 177 ) اى ان البر الحقيقى هو ايمان وعمل وصالح متنوع شرحته الاية الكريمة.

3 ـ وزعم بعضهم ان رعايته للبيت الحرام وقيامه بأمر الحجاج يكفيه فى الصلاح والفوز : وجاء الرد من رب العزة ينفى مؤكدا ان الفلاح هو الايمان ومستلزماته من العمل الصالح (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ  )( التوبة 19 ـ  ) .

4 ـ ويترتب على هذا حقيقتان فى القرآن الكريم :
4 / 1 ـ العبادات وسائل للتقوى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ   ) (البقرة 21 ) ، والتقوى هى جواز المرور لدخول الجنة (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا  )( مريم 63).

4  / 2  ـ ان المطلوب ليس مجرد تأدية الصلاة  او تقديم الصدقة بل ( اقامة الصلاة وايتاء الزكاة ) اى تزكية النفس بالاخلاق  العليا انعكاساً وثمرة للصلاة الخاشعة وتقديم الصدقة ابتغاء مرضاه الله عز وجل .

رابعا : الفجوة بين مصالح الانسان والمصالح التى يتوخاها القرآن الكريم :

1 ـ فى الدنيا مصطلح الانسان فى القران يعنى الجسد + النفس (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا )(الانسان 1: 2 ) .

2 ـ والانسان فى الدنيا هو الذى تسيطر عليه غرائزه ، ويأتى فى الاخرة إنسانا نادماً يقول يا ليتنى قدمت لحياتى (كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي  ) ( الفجر 21: 25 ).

3 ـ وبالتالى فأن مصالح الانسان هى التى تلبى غرائزه ، وبالتالى تتعارض مع المصالح التى يتوخاها القرآن ، لذا يأتى نقد الانسان لأنه كفور وكنود وأنه يطغى حين يشعر بالغنى والقوة (قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ  )(عبس 17) (إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)( العاديات 6) (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) (العلق6: 7) .

4 ـ ويمكن إصلاح ذلك الانسان لو قرّر هو الانابة والتوبة والهداية ، عندئذ يهديه الله جل وعلا (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ  ) ( الشورى 13 ) .

لذا يأتى استثناء  المهتدين الصالحين من مفهوم  ( الانسان )، فمن يؤمن ويعمل صالحا ينجو من مصير أسفل السافلين الذى يقع فيه الانسان يوم القيامة :(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ  ) ( التين 4 : 6  )، (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ  ) (سورة العصر  )

وليس هذا بالشىء اليسير لأنه يستلزم المداومة على الصلاة واعطاء الصدقات والاستعداد القلبى لليوم الآخر والعفة عن الوقوع فى الفواحش والوفاء بالعهد والوعد وتأدية الأمانة والقيامة بالشهادة بالحق ، اى باختصار التمسك بأخلاقيات عليا تكون دليلا على إقامته للصلاة ومحافظته عليها ، وليس مجرد المداومة عليها ظاهريا . بهذا تتحقق له مصلحته الكبرى ، وهى التكريم فى الجنة يوم القيامة : ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ )( المعارج 19:  35) .

5 ـ اساس هذا التعارض بين مصالح الانسان القائمة على مطامعه ونزواته والمصالح الحقيقية الكبرى التى يتوخّاها القرآن الكريم هو ان الله تعالى خلق الانسان ليختبره :(إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ) (الانسان : 2)، لذا جعل لهذا الاختبار أجلا وموعد نهاية هو الموت  (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الملك 1:2 ).  خلقه حرا فى الطاعة والمعصية, وانزل اليه الكتب السماوية وارسل اليه الرسل, وجعل له اجلا فى الدنيا هو الموت ، ثم القيامه حيث يوم الحساب ، حين يتحقق الصلاح او المصلحة الابدية او يحل الخسران النهائى . ويستطيع الانسان بكلمل حريته ان يقرر دخول الجنة بأن يطهر عقيدته من كل شرك وان يطهر سلوكه من كل اثم وينهمك فى الصالحات ، وبذلك يتحقق له ما يريد لان الله تعالى لا يخلق المعياد.  

6 ـ ولكن العادة أن أكثرية البشر ( الانسان ) ترى وتحصر مصالحها فيما يخص هذا الجسد الفانى وتلك الحياة المادية الدنيوية الزائلة ، ناسيا الاستعداد للآخرة بالايمان والعمل الصالح النافع وما يستلزمه من رقى خلقى وأخلاق حميدة عالية . وطالما اختار الانسان مصلحته فى هذه الدنيا فقط ناسيا الآخرة فلا بد أن يحلّ الطمع والجشع محل الكرم والايثارو الفساد بدل التقوى ، ويتصارع الانسان مع غيره بسبب تضارب  المصالح وأنانية الانسان أو بالمصطلح القرآنى (الشّح ) ، وينتج عن ذلك الشقاق والنزاع والجرائم على مستوى الأفراد والجماعات ، والحروب على مستوى الأمم . وبهذا يخسر الجميع .

7 ـ ولنتذكر ، أنه لو حتى راعى أحدهم الطريق المستقيم فى تحقيق مصلحته الدنيوية ، ولكن مع اهمال تام للآخرة وتركيز تام على الدنيا فإنه ـ كما سبق ـ سينال أجره الطيب فى الدنيا فقط . ولكن مصيره الى الخلود فى النار . المقصود هنا إنه مهما حقق كل أمانيه فى الدنيا ففى النهاية لن يحصل إلا على صفر كبير ، لأنه سيموت ذاهبا الى الجحيم . والموت هو صفر ، وكل ما تأتى نتيجته صفرية فهو خسارة مهما حقق . فلو ضربت واحدا فى صفر فالنتيجة صفر ، وحاصل ضرب مليون أو بليون فى صفر هو صفر. والى الصفر أو الموت ينتهى من كان يملك دينارا واحدا أو بليون دينار طالما أنه ينتهى الى صفر. أما لو عمل لمصلحته فى الدنيا والآخرة جاعلا الآخرة هدفه الأسمى فان الموت ليس نهاية له لأنه سيلقى الجزاء الأسمى فى الاخرة ، وهنا تتغير المعادلة لم تعد صفرا ( فى) صفر تساوى صفرا بل أى رقم (على ) صفر تساوى اللانهائية اى الأجر فى الجنة بلا حساب وبلا حد أقصى ، وفى هذا يقول رب العزة (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (الزمر 10).

وهكذا ،فان البشر نوعان من حيث تحقيق المصلحة الكبرى او الخسران الاكبر ،  نوع يريد الاخرة ويعمل لها عملها وهو مؤمن ، ونوع يريد الدنيا لاهيا عن الاخرة بالصراع من اجل حطام الدنيا ، وهو الخاسر (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)( الاسراء 18: 21 )

خامسا : بداية وتضخم  فجوة المصالح بين الاسلام والمسلمين :
1 ـ تاريخ المسلمين قسمان :- قسم تردد صداه فى القرآن الكريم وسجله ، وقسم آخر بعد موت النبى محمد ، وهو التاريخ البشرى الذى كان يروى شفهيا ، ثم تمت كتابته بأثر رجعى بدءا من سيرة ابن اسحاق فى أوائل العصر العباسى . ويجمع بين القسمين ما يخص  النبى محمدا عليه السلام والصحابة، فقد تردد قصصهم فى القرآن ، كما احتل بداية التاريخ والسيرة فى كتابات المؤرخين  المسلمين .

2 ـ ويهمنا فى القرآن الكريم جانبان : الاوامر والنواهى وتطبيقها . فهناك أوامر نزلت للنبى والناس فى عصره ، وكانت هناك فجوة فى التطبيق ، ومن ثمّ جاء الوحى القرآنى فى التعليق على موقف النبى أو المؤمنين على عدم الاستجابة الكاملة وتلك الفجوة فى التطبيق وتنفيذ الاوامر . وقد يأتى النوعان  معاً فى آية قرآنية أو جزء منها ، مثل قوله تعالى  (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ )( يونس 99 ) فهنا نهى مفهوم بين السطور ، والنهى يأتى ترتيبا على فعل سابق حدث ، اى حاول النبى اكراه بعضهم على الاسلام فنزل هذا النهى .

ونجد ذلك فى قوله جل وعلا عن النبى ومشركى قريش وقد حاولوا تخويف النبى من غضب ونقمة آلهتهم وأوليائهم حرصا منهم على مصلحتهم بالطبع : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)( قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ )(الزمر 36 ، 64  ـ ) . كما نجده فى عشرات الآيات التى نزلت تلوم المؤمنين فى عصر نزول القرآن ، ومنها قوله جل وعلا للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(الأنفال 20 ـ ).

وأكثر منها الآيات التى نزلت فى تقريع المنافقين من (الصحابة ) وأولئك كانت لهم (مصالح ) فى يثرب قبل دخول الاسلام فيها فجاء الاسلام فأضاع مكانتهم حين أسّس وضعا جديدا ومجتمعا جديدا وقيما جديدة من الحرية والعدل والمساواة . وقد كان أولئك المنافقون أصحاب ثروات(فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ   ) (التوبة 55 ، 85 ) ، وكان يصعب عليهم تركها ومغادرة المدينة ،أى حتمت عليهم مصلحتهم البقاء فى المدينة بجانب املاكهم العينية و السائلة ، ولكن كراهتهم للاسلام جعلتهم يقومون بمؤامرات ومكائد نزل القرآن الكريم يفضحها ويكشفها ويعلق عليها .

3 ـ ثم إزدادت الفجوة بين الاسلام والمسلمين بعد فتح مكة سلميا ودخول قريش أو ( الطلقاء ) فى الاسلام بعد أكثر من عشرين عاما فى حرب الاسلام ، وقد تزعم الأمويون حرب الاسلام قبل فتح مكة ، ثم احترفوا الاستفادة من الاسلام بعد موت خاتم النبيين ـ عليهم السلام. والمصلحة هى التى دعتهم لاتخاذ هذا الموقف ثم ذاك.
كانت قريش فى رحلة الشتاء والصيف تقوم على رعاية البيت الحرام وفريضة الحج ، وقد أقامت أصنام العرب فى الحرم المكى ، وبها سيطرت على القبائل العربية التى تتحكم فى طرق التجارة بين اليمن والشام ، وعقدت معهم تحالفا كى يحافظوا على أمن القوافل القرشية بين الشام واليمن . وسجل هذا رب العزة فى القرآن الكريم (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا َ ) (القصص 57 ) أى يعترفون بأن الاسلام هدى ولكنه ضد مصالحهم ، فلو اتبعوه فلا بد من تطهير البيت الحرام من الأصنام ، أى سيدخلون فى حرب مع قبائل العرب التى ستقطع الطريق على قوافل رحلتى الشتاء و الصيف.

هذا التفكير المصلحى دفع الأمويين ـ زعماء قريش وقادة العير و النفير ـ للوقوف ضد الاسلام ، أى كان الدافع لهم فى تكذيب القرآن اقتصاديا محضا ، وجاء هذا صريحا فى قوله جل وعلا لهم : ( أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(الواقعة 81: 82) .

من هنا استمر الأمويون فى اضطهاد المؤمنين والنبى الى أن ألجأوهم للهجرة الى المدينة ، ثم تابعوا الهجوم الحربى عليهم فى المدينة ـ ضمن أحداث تاريخية لم تسجلها روايات السيرة مع ورود الاشارة عنها فى تشريع الإذن بالقتال للمسلمين : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)(الحج 39 ) ، أى جاء الإذن بالقتال الدفاعى لأولئك الذين كانوا (يقاتلون ) بضم الياء وفتح التاء ، أى يقع عليهم القتال ، أى يهاجمهم القرشيون فى المدينة ولا يستطيعون رد العدوان لأن الأمر السابق لهم كان بالكف عن القتال الدفاعى ( النساء 77 ). ودخل المسلمون فى مواجهات حربية نجحت فى جعل الاسلام اكثر شهرة بين العرب فالتفتوا اليه بدافع الفضول ، فقامت بينهم صحوة عقلية تبين فيها لقبائل العرب كيف كانت قريش تستغلهم لمصالحها التجارية مقابل حماية اصنام حجرية لا تستطيع الدفاع عن نفسها. وهكذا بالتدريج وبتحول الميزان العسكرى لصالح المسلمين ضد قريش وسطوتها دخل العرب فى الاسلام أفواجا يتحررون به من سلطة قريش ، وبدأ تهديد تجارة قريش بين الشام واليمن فوجدت قريش أن من مصلحتها ان تدخل فى الاسلام .

وبعد موت النبى محمد عليه السلام أصبحت قريش ( من المهاجرين والأمويين والطلقاء ) القوة الكبرى خصوصا بعد تهميش الأنصار بدءا من بيعة السقيفة ، وادى هذا الوضع الى نقمة قبائل العرب فقد رأوا أنفسهم تحت سطوة قريش للمرة الثانية تحت راية الاسلام الذى حاربته قريش من قبل . لذا رأت القبائل العربية مصلحتهم فى التحرر للمرة الثانية من السيطرة القرشية ، لذا استعرت حركة الردة ، وعبّر مسيلمة الكذاب عن الدافع الحقيقى حين طالب بأن تكون لقريش نصف الأرض وتترك الباقى للآخرين ، بينما وجدت قريش ـ بزعامة الأمويين والطلقاء ـ أن مصلحتها  أن تقف ضد حركة الردة . وبعد إخمادها رأت قريش أن مصلحتها فى أن تشغل قبائل العرب بمشروع ضخم لتتوجه طاقتهم الحربية للخارج ولتؤسس باسم الاسلام ملكا لقريش . وبنجاح الفتوحات تعارضت مصالح القبائل العربية مع مصالح قريش التى استحوذت فى خلافة عثمان على معظم ثروات الفتوحات بينما نال جند العرب الفتات ، وانطلقت شرارة الخلاف بين الفريقين حول سواد العراق ـ أو المناطق الزراعية فى العراق المجاورة للصحراء ، والتى اعتادت قبائل نجد الرعى فيها والاغارة على سكانها قبل الاسلام . اعتبر القرشيون السواد ( بستان قريش ) واحتكروه دون قبائل نجد التى رأت أنه حق لها ، وأنه يكفى ما حققته قريش من مكاسب ومصالح. ومن هنا بدأت الفتنة الكبرى بين المسلمين تعبيرا عن مصالح دنيوية متعارضة ، وتعبيرا عن خصومة حقيقية مع الاسلام والمصالح التى يتوخاها فى تشريعاته ، وأهمها أن يكون القتال دفاعيا فقط دون اعتداء : (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) ( البقرة 190 ) .

ولا يزال  معظم المسلمين يخسرون الدنيا والآخرة ، إذ يعيشون الفتنة الكبرى والحروب الأهلية حتى الآن فى ظل الاستبداد والفساد والظلم.

اجمالي القراءات 18089