مشكلة الأقباط المزدوجة

كمال غبريال في الخميس ٠٨ - يوليو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

لاشك أن ما يقر في ذهن أغلب المهتمين بالشأن العام في منطقة الشرق الأوسط عن مشكلة الأقباط، الذين هم مسيحيو مصر، هو ما يتعلق بوجودهم كأقلية، وسط أغلبية مسلمة تدهورت ثقافتها وسلوكياتها المسالمة المتحضرة، نتيجة رواج وتوحش تيارات الإسلام السياسي بمختلف أجنحتها وألوانها. . هكذا وببساطة ينظر أغلب المراقبين إلى وضع الأقباط وكأنه مجرد تكرار لوضع المسيحيين المضطرب والمهدد في سائر مجتمعات المنطقة، هذا يعني النظر إلى طبيعة الإشكالية بوصفها تهديداً خا&NtilNtilde;جياً أو ضغوطاً خارجية تمارس على الجماعة القبطية.
الحقيقة أن هذا التصور لمعاناة الأقباط أو أزمتهم هو جزء من الحقيقة، وليس الحقيقة كاملة. . لا نقول أن ما يظهر يمثل من حيث الحجم الجزء الطافي من جبل الجليد، لأن الحقيقة أنه أكبر نسبياً من أن يوصف بهذا الوصف، وإن صح هذا الوصف نوعياً، كون الجزء المختفي هو الأصعب والأكثر استعصاء على المعالجة، لأنه يتعلق بهؤلاء المدعوين مظلومين أو مضطهدين أنفسهم. . فالتطور العالمي في مجال التركيز على حقوق الإنسان، كفيل بالدفع باتجاه تطوير مجتمعاتنا، نحو المزيد من الحداثة واحترام الآخر. . أو بعبارة أخرى، تستطيع أن تنقذ المظلوم من ظالمه، بسهولة تفوق كثيراً محاولتك إنقاذه من ذاته.
تأتي أزمة الأقباط الداخلية من مصدرين، أولهما وأقلهما شأناً وطني، وهو التأثر الثقافي بالبيئة السائدة في الوطن، فإذا كنا قد اتفقنا أن الأقباط مكون أصيل من مكونات مصر الوطن، فلا ينبغي لنا أن نتوقع إلا أن تتمثل فيهم معظم صفات مواطنيه وملامحهم الثقافية، ومن أهم معالمها في عصرنا الحالي الفاشية، تلك التي تستبعد الآخر وتصدر عليه حكماً أدبياً بالإعدام، وتتحزب للجماعة أو الطائفة، دون أن تكترث بالفكرة أو الموقف العملي، وتنهج نهجاً أبوياً سلطوياً مهيمناً، وأحادية فكر لا تسمح بهامش للتفرد والحرية الإنسانية، معتبرة مجرد اعتناق غير ما هو شائع كفر وخيانة وخروج على الجماعة وتهديد خطير لوجودها، كل هذه تشكل ملامح الخطاب الزاعق السائد الآن في الساحة المصرية.
المصدر الثاني والأصعب لأزمة الأقباط، أو فلنقل مأساتهم الثقافية، والتي لابد وأن نشهد تأثيراتها المدمرة على حياتهم الاجتماعية والوطنية، هي ما ترتب على تسليم الأقباط أمور حياتهم كاملة غير منقوصة إلى رجال الدين، سواء كانو كهنة أصحاب قداسة وفق نظام الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، أو دعيوا قسوساً في عرف الكنيسة البروتستانتية، هؤلاء الذين يرتدون الملابس العادية ولا يطلقون لحاهم، ولا يدعون لأنفسهم عصمة ولا قداسة، فتخالهم أكثر عقلانية وتقديراً للحياة والأحياء، وقد تنخدع أيضاً بظاهر خطابهم الذي يبدو عقلانياً وحداثياً، لكنك إذا ما أتيح لك أن تتعمق أكثر، إلى ما تحت تلك القشرة البراقة، وتلك العبارات الناعمة الجوفاء، فإنك ستكتشف أنهم الأكثر انغلاقاً وتعصباً، وأن هؤلاء الرجال جميعاً الذين كرسوا حياتهم لخدمة المقدس، يندر بينهم من يفهم دوره كراع يسعى لصالح من يرعاهم وهم الجماهير المؤمنة، رغم انتحالهم لقب راع، فلم نسمع يوماً عن رعاة يقودون قطعان غنمهم إلى أبار عطنة وأعشاب سامة، لمجرد اعتقادهم في قدسية هذه المراعي!!. . فهم بطبيعة بنيانهم الفكري، والذي لابد وأن ينعكس على تكوينهم السيكولوجي، يتصورون أنفسهم نواب الله على الأرض، فوضهم ليكونوا رقباء على الناس، يلزمونهم باتباع أوامر إلهية مكنونة في النص المقدس، وهم الموكلون باستخراجها وفرضها بقدر ما يطيقون من جهد، وما تصل إليه أيديهم من أدوات وأسباب قوة. . ذلك النص الذي يكرسون حياتهم لدراسته، فتغيب عنهم الحياة وكل ما فيها من تفصيلات ومتغيرات لا تلفت انتباههم أو تثير حماسهم. . لا يهم هنا أن النص المسيحي المقدس، والممثل في جزئه المعروف بالعهد الجديد، يركز بالأساس على محبة البشر ورعايتهم وخلاصهم. . ربما هذا التوجه لا يستهويهم، لأنه يضعهم في موقع خدام الشعب، وليس موقع أسياده والرقباء عليه!!
 هكذا نجد الخطاب القبطي المخفي في صدور أصحابه المتقوقعين داخل مختلف الكنائس القبطية، يأخذ ظاهرياً شكل الخطاب المسالم، الذي يرفع راية المحبة القولية أو الكلامية، ليس خداعاً للآخر، بقدر ما هو خداع لأصحابه، الذين توقفوا عند ترديد الشعارات والآيات، وعجزوا لأسباب كثيرة عن تحويلها إلى ممارسات حياتيه، لكنه في جوهره خطاب منغلق أو منكفئ على الذات، تدعمه فكرة الإخلاص الحرفي للنص المقدس، باعتباره تسليماً لمشيئة الإله. . وهنا بالتحديد في شرع هؤلاء تجف الأقلام وتطوى الصحف وتخرس الألسنة، تحت شعار: "ينبغي أن يطاع الله أكثر من جميع الناس"، فيمتنع النقاش والحوار والاجتهاد، لنسمع ما يمليه علينا وكلاء الله على الأرض من تعليمات صارمة مقدسة، لا يليق معها أن نناقش أو نعترض على ما يترتب على تنفيذ بعض هذه الوصايا والتفسيرات من مضار للناس، تصل في بعض الأحيان إلى حد الكوارث الاجتماعية، كما في قضية الزواج والطلاق في المسيحية.
هكذا ونتيجة لتسليم الأقباط لذقونهم وأعناقهم تسليما تاماً ونهائياً إلى رجال الدين (تسليم مفتاح كما في لغة الإنشاءات المعمارية)، يصعب الاقتراب لتصحيح هذا الوضع من خارج الجماعة القبطية، لأن أي مقاربة مثل هذه من قبل طرف غير مسيحي، لابد وأن تندرج ضمن محاولات الاضطهاد أو الاستلاب للأقباط وعقيدتهم، بما لابد وأن يؤدي إلى تردد وتراجع من يقدم على هذا، كي لا يتهم بمعاداة الأقباط أو ممارسة ضغوط إضافية عليهم. . أيضاً محاولات الإصلاح من داخل الكنيسة، لا تزيد فرصها في النجاح، عن تلك التي كانت متاحة مثلاً للإصلاح السياسي في العراق في عهد صدام حسين. . فهناك كان الإعدام رمياً بالرصاص ينتظر من تصدر منه لمحة معارضة للقائد الملهم، وهنا في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هناك الحرمان والشلح، علاوة بالطبع على الازدراء من الأهل وأقرب المقربين، باعتبار المصلح مهرطقاً وعدواً للكنيسة، أو كما سبق وقال أحدهم يصف كاتب هذه السطور بأنه "قبطي كاره لذاته"!!
نستطيع القول أيضاً أنه في الظروف المصرية الحالية، وفي ظل سيطرة قيادات في مختلف الكنائس المصرية، إما محكومة بنوازع الهيمنة والتعاظم المشرف على تخوم البارانويا، أو شخصيات سلبية مهادنة، تؤثر الانصياع للأقوى، على الدخول في صراع لا يعود عليها شخصياً بنفع تراه. . فإن محاولات الإصلاح من داخل الكنيسة لا يتوقع لها إلا أن تزيد الأمور سوءاً، نتيجة لضراوة واستبسال أصحاب القداسة في الدفاع عن مواقعهم ومكاسبهم، وقد أصبحت القضية بالنسبة لهم قضية وجود شخصي ودوام هيمنة، رغم أنهم بالطبع يصورونها للجماهير المغيبة عقولها، على أنها قضية التزام بصحيح الإيمان، في مواجهة اليهوذات والمفرطين. . هكذا نشهد المزيد من التقوقع والتشبث بكل ما هو عتيق ومفارق لروح العصر، تحت تأثير تلك المقاومة العنيدة لكل من يحاول تخفيف قبضة الإكليروس على مصير الأقباط الديني والوطني معاً!!
كثيرة هي المظاهر المترتبة على هذه الحالة في الساحة المصرية، فكما رأينا متطرفي الأصولية الإسلامية يطاردون المفكرين والأدباء والأعمال الفنية، بالتكفير والقتل والملاحقة القضائية، كان على القبيلة القبطية أن تثبت أنها ليست أقل فاشية من شقيقتها المتأسلمة، وإن لم تصل إلى مرحلة التصفية الجسدية للمخالفين، وتوقفت عند التصفية الأدبية والملاحقة القضائية (ربما لقصر ذات اليد، وضعف الحول والقوة). . كما شهدنا قرارات الحرمان والشلح وحرق الكتب، لقامات دينية علمية قبطية، ربما كانت هي الأكثر علماً والتزاماً بالعقيدة المسيحية، من هؤلاء الذين أقاموا من أنفسهم قضاة وجلادين!!
على هذا النحو أيضاً رأينا القطاع الفاشي من الأقباط يشن حملات شعواء على العديد من المفكرين المسلمين المستنيرين، والذين يدافعون ببسالة عن مصر والمصريين، وفي طليعتهم المكون الأكثر تضرراً وهو الأقباط، ذلك لمجرد أنهم تجرأوا وتحدثوا عن الأقباط وكنيستهم بصفتهم بشر، وليس ملائكة منزهين عن الخطأ، ورأيناهم يشنون ذات الحملات وبسعار أشد ضد من يتهور من الأقباط وينتقد قيادات الكنيسة، أو يتحدث عن حاجة للإصلاح، وسمعنا من قادة الكنيسة تصريحات مضحكة مبكية، تستنكر أن تكون الكنيسة بحاجة إلى إصلاح، وكأنها كيان سماوي من نور، يضم بين جنباته ملائكة مطهرين، وليست مؤسسة وطنية دينية، يقوم على شؤونها بشر من لحم ودم.
نعم قد يكون التأثر أو رد الفعل وراء تلك النزعة لدى الأقباط بصورة جزئية، لكن الطامة الكبرى حقيقة هي في الفاشية الأصيلة في صميم الخطاب القبطي بمختلف ألوانه وانتماءاته الطائفية، وما يترتب عليه من نوعية علاقات داخل المؤسسات الكنسية، تدار بها الأمور، وتحدد نوعية وطبيعة العلاقة بين طائفة القادة أو رجال الدين وبعضهم البعض، وكذا علاقتهم مع الشعب أو الرعية. . لينتج لنا هذا ما لمسناه أخيراً في توحد فرقاء مختلف الكنائس القبطية -هؤلاء الذين يكفرون ويزدرون بعضهم بعضاً- في مواجهة القضاء المصري، وقد ظهر بصورة فجة ومستفزة، أن ما يحكم فكر الكنيسة ورجالها (ساحبين الجماهير معهم مغمضة العيون مغلقة العقول) هو استقلالهم عن القضاء الوطني، بدعوى الاستناد إلى أوامر إلهية، ليصنعوا من الكنيسة دولة داخل الدولة المصرية، بل وتعلو عليها في القيمة وأولوية الانتماء. . بما يشكل افتضاحاً غير مسبوق لحقيقة الفكر الكنسي وثقافة الأقباط، وقد تمترسوا خلف قياداتهم الدينية، في مواجهة القضاء المتأسلم والدولة المصرية المسلمة بحكم المادة الثانية من الدستور!!. . ليس لنا والحالة هذه أن نتوقع السير باتجاه حل مشاكل الأقباط، أو مشاكل المجتمع المصري عموماً، والتي تكاد تتفرع جميعها من جذع شجرة الفاشية العتيدة، بل سيؤدي تداعي الأمور على هذا النحو، إلى تفاقم المشاكل، وربما الوصول بها إلى نقطة الانفجار، تلك التي سيكون الأقباط أول شحنة وقود لها، كما يتوعدهم بذلك برنامج الإخوان المحظورين السياسي، وكما يظهر الآن من بوادر ترحيب وتشجيع السلفيين المتأسلمين لموقف الكنيسة الرافض لحكم القضاء المصري المدني، والمصر على تطبيق ما تعتبره شريعة إلهية مسيحية، تستدعي تلقائياً تطبيق الشريعة الإسلامية، ليكون الأقباط إذا ما تحقق ذلك، أمثولة للشعوب التي تسعى لجلب الخراب لنفسها بنفسها!!

 

اجمالي القراءات 8284