المصرى المُهاجر.. وهموم الوطن والأمة

سعد الدين ابراهيم في السبت ٢٦ - يونيو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 

بعكس جنسيات وشعوب أخرى، فى منطقتنا وفى العالم، لم يُعرف عن المصريين الهجرة، خارج موطنهم التاريخى حول نهر النيل، شمال وادى حلفا، الذى استقروا فيه منذ عدة آلاف من السنين. ولكن ذلك تغيّر منذ النصف الثانى للقرن العشرين، وذلك لعدة أسباب، منها ما هو اجتماعى اقتصادى، بحثاً عن فُرص حياة أفضل، ومنها ما هو سياسى، هرباً من الاستبداد، وسعياً وراء الحُرية.

وكانت الموجات ال&atiledil;لمُبكرة لهجرة المصريين فى الرُبع الثالث من القرن العشرين (١٩٥٠-١٩٧٥)، إما إلى بلاد النفط العربية فى العراق والسعودية والخليج، أو إلى القارات المُكتشفة حديثاً وهى الأمريكتين وأستراليا. وبعد ثورة يوليو (١٩٥٢)، ولعدة سنوات اقتصرت الهجرة على المصريين من أصول أجنبية (المتمصرين) ـ مثل اليونانين والإيطاليين والمالطيين واليهود الذين كانوا قد احتفظوا بجنسيات أوروبية. وظهر ذلك جلياً بعد العدوان الثلاثى (١٩٥٦)، ثم بعد الهزيمة فى حرب يونيو (١٩٦٧). وشملت موجة الهجرة فى الستينيات المصريين الأرمن والمصريين الشوام، ثم المصريين الأقباط والمسلمين على السواء.

وساعد على زيادة هجرة الفريقين الأخيرين بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، أن الرئيس السادات حرر قوانين الهجرة والجنسية ـ بما فى ذلك السماح للمُهاجر المصرى الاحتفاظ بجنسيته المصرية، حتى لو اكتسب جنسية أخرى، وهو ما يُعرف الآن بازدواج الجنسية. حتى أولئك الذين كانت جنسيتهم المصرية قد أسقطت عنهم فى العهد الناصرى، لأسباب سياسية، أعيدت لهم جنسيتهم المصرية فى العهد الساداتى (بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣). وانطبق ذلك فى حينه على كاتب هذا المقال، الذى كان قد تعرّض لهذا الحرمان خلال الفترة من سبتمبر ١٩٦٦ إلى أبريل ١٩٧٤، خلال سنوات رئاستى للطلبة العرب فى أمريكا الشمالية.

المهُم لموضوعنا، هو أنه مع حلول القرن الحادى والعشرين، أصبح حلم ملايين الشباب فى مصر، من كل الطبقات والفئات والمهن والأديان والأعراق، هو الهجرة إلى خارج الحدود. وأصبح لدى البعض من هؤلاء المُشتاقين، المُخاطرة بكل ما يملكون، بما فى ذلك حياتهم نفسها.

ومن ذلك ما يقع فيه بعضهم فريسة لتجّار التأشيرات، والذين هم فى معظمهم نصّابون، يستغلون شباب مصر ببيع حلم «الهجرة»، أو «عقد العمل»، مُقابل آلاف الجنيهات، ليتضح لهؤلاء الشباب التعساء، ولكن متأخراً جداً، أنهم باعوا أو باع أهاليهم، ما أمامهم وما خلفهم، من أجل حلم الهجرة، والذى غالباً ما يكون وهماً.

ويدفع بعضهم ليس فقط الثمن نقداً وعداً، ولكن أيضاً حياتهم نفسها، حين يجدون أنفسهم على مراكب بدائية، ليعبروا بها البحر المتوسط، بأمواجه العاتية من السواحل الجنوبية الأفريقية، أملاً فى الوصول إلى سواحله الشمالية الأوروبية، وبحثاً عن «الفردوس الموعود»... والذى سرعان ما يكتشفون وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة فى «قوارب الموت» أنه «فردوس مفقود» (انظر مقال المصرى اليوم: «العرب بين ثقافة الفناء وثقافة الحياة فى إيطاليا» ١٥/١٢/٢٠٠٧)

ولكن رغم مأساوية هذا الجانب من واقع قطاع من المصريين المُعاصرين، إلا أن هناك جوانب مُضيئة لقطاع آخر من المصريين الذين هاجروا هجرة شرعية إلى الخارج. وخلال سنوات المنفى الثلاث الأخيرة، وما صاحبها من تجوال فى بلاد الله الواسعة، التقيت مصريين عديدين من هذه الفئة. وقد استقر المقام بمعظمهم فى المهجر، وأنجبوا جيلاً ثانياً من الأبناء، وكبر هؤلاء وأنجبوا جيلاً ثالثاً من الأحفاد.

وفى جولة مُحاضراتى الأخيرة فى غرب الولايات المتحدة، التقيت بعض هؤلاء فى مدينتى سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس. ومنهم القاضى المصرى ـ الدولى فى السبعينيات. واستمر الرجل فى مُمارسة مهنته القانونية التى كان قد بدأها فى مصر. ثم شعر منذ عدة سنوات أن أعداد المصريين فى جنوب ولاية كاليفورنيا يتزايدون، دون أن يكون لديهم وسيلة يتواصلون بها مع بعضهم البعض فى المهجر، ومع إخوانهم فى الوطن الأم. فبادر الرجل بتأسيس صحيفة عربية أسبوعية سمّاها «المصرى المُهاجر»، والتى يمكن الاطلاع عليها يوميا على الشبكة الدولية.

وإلى جانب نشر أخبار أبناء الجالية المصرية فى جنوب كاليفورنيا خصوصاً، وأخبار المصريين فى أمريكا عموماً، فإن «المصرى المُهاجر» تنشر أخبار الوطن الأم نفسه، وهموم الداخل المصرى، ومختارات من أعمدة ومقالات الرأى لكبار الكتّاب. ولأن القاضى سامى عازر، رجل قانون يعرف الأصول، فهو يحرص على استئذان الصحيفة والكاتب، قبل أن يُعيد نشرها فى «المصرى المُهاجر». وحينما علم الرجل بوجودى فى سان فرانسيسكو، ودعانى لزيارته فى لوس أنجلوس، التى تبعد ثلاثمائة ميل إلى الجنوب.

ولأننى أحد من يُعيد المستشار سامى عارز، نشر مقالاتهم ـ من «المصرى اليوم»، ومن «الدستور»، فقد لبيّت الدعوة الكريمة. وقضينا معاً يوماً كاملاً، تبادلنا فيه الخواطر والذكريات عن الوطن الحبيب، قبل العودة إلى الساحل الشرقى. ولمن لا يعرفون، فإن المسافة بين الساحلين الشرقى والغربى للولايات المتحدة تستغرق بالطائرة أكثر من خمس ساعات ـ أى نفس ما تستغرقه الرحلة بين القاهرة ولندن، أو بين بغداد والدار البيضاء.

وأثناء الطيران ذهاباً وإياباً، لا يملك الإنسان العربى المهموم بشؤون الأمة إلا أن يُقارن، ويُحاول الإجابة على سؤال: لماذا نجح الآباء المؤسسون فى الخمسين ولاية ذاتها فى وضع الدعائم التى وحّدت هذه القارة المُترامية الأطراف؟ ولماذا لم ينجح آباء الاستقلال العرب، ودُعاة القومية العربية عندنا، فى توحيد واحد وعشرين قُطراً عربياً؟

وقد سألنى مؤخراً الناشط سامى دياب نفس السؤالين. وقلت له إننى سبق أن أجبت أنا وآخرون على السؤالين عدة مرات، ومنذ سنوات. ولكنه أصرّ على أن نظل نُعيد الإجابة على الأجيال الجديدة، وهو منها، لعل وعسى أن يُعيدوا المُحاولة وينجحوا فيما لم ينجح فيه جيل عبدالناصر، وميشيل عفلق، وآل الأسد، وآل صّدام حسين، وحزب البعث، وآل القذافى؟

وهذه هى إجابتى المختصرة، التى يُمكن تفصيلها لاحقاً، إذا كان هناك قرّاء آخرون مثل سامى دياب، من الذين ما زالوا يحلمون بوطن عربى واحد، بلا حدود، من المحيط إلى الخليج.

لقد أصر الآباء المؤسسون لكل من الاتحاد السويسرى، والولايات المتحدة الأمريكية، على أن يتم التوحيد بالإرادة الحُرة لمواطنى كل قرية، وكل مدينة، وكل إقليم، وأن يظل من حق الأغلبية التى تُحددها الدساتير، فى كل منها أن يخرج سلمياً من هذا الاتحاد. أى أن «الديمقراطية» هى «الفريضة الواجبة» فى كل حين، ليس فقط فى العلاقة بين الولايات والأقاليم ولكن فى داخل كل منها، سواء فى انتخاب الحُكّام دورياً، أو فى سنّ القوانين، ولكن للأسف فإن الديمقراطية فريضة غائبة فى بلادنا إلى تاريخه.

لقد تمت عمليات توحيد بوسائل أخرى ـ من خلال زعامات «كاريزمية» مُلهمة، أو انتفاضات شعبية. ولكن هذه النماذج التوحيدية لا تصمد كثيراً أو طويلاً، فهى سرعان ما تضعف ثم تنهار بعد رحيل الزعيم المُلهم، أو بخمود الهبّات الشعبية. ولكن الذى يصمد هو ما يتم بالتراضى والإرادة الحُرة لأصحاب الشأن وأصحاب المصلحة.

سألنى نفس الناشط، الذى أسس مركزاً سمّاه «عرب بلا حدود»، لماذا توقف جيلكم عن النضال من أجل الوحدة العربية؟

وكانت إجابتى هى أن أبناء الأمة العربية قد ابتلوا بأنظمة مُستبدة، تضع النشطاء الوحدويين منهم وراء القضبان، أو تطردهم وتطاردهم خارج الحدود. ومع ذلك تظل هناك قلة صامدة، استمرت فى الدعوة إلى الأمنية نفسها، وأبرزها فى الوقت الحاضر، هو «مركز دراسات الوحدة العربية» وليس صُدفة أنه لم يجد له مقراً آمناً، إلا فى بيروت بلبنان. فمهما وجّه عرب ولبنانيون النقد لنظام الحُكم فى ذلك البلد، إلا أنه يظل الأكثر حُرية، من الواحد وعشرين قطراً عربياً الآخرين.

والله أعلم

اجمالي القراءات 11028