تزكية النفس باعطاء المال
(9) إختبار التفاضل فى الرزق إطارا لتشريع الزكاة المالية

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٥ - يونيو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :

قام الدين السّنى بتشوية الزكاة الاسلامية فقصرها على مجرد إعطاء المال صدقة ، بل شرع فى تلك الزكاة المالية تشريعات تخالف التشريع الاسلامى فى القرآن من حيث مقدار الزكاة وموعدها ، علاوة على الخلط بين مفاهيم الصدقة و الزكاة والانفاق . ومن أسف فإن هذا التشويه السّنى هو الشائع فى ثقافة المسلمين . ولعلاج هذا الخلل نتعرض فى سلسلة المقالات هذه لتشريع ومفهوم الزكاة فى الاسلام .

وقد بدأنا خلال المقالات السابقة بالتركيز على ما أغفله الفقه ring; السنى ، فشرحنا مفاهيم الزكاة و الصدقة والانفاق من خلال السياق القرآنى ، ومنه أيضا تعرفنا على المفهوم القرآنى المشهور (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ) بما يعنى تزكية النفس والسمو بها ، ثم تتبعنا فى مقالات تالية معنى تزكية النفس أو زكاة النفس من خلال النسق القرآنى للتأكيد على أن تزكية النفس هى مدار التشريع الاسلامى و العقيدة الاسلامية ، وليس كما يرى فقهاء الدين السّنى مجرد إعطاء للمال .

ونبدأ اليوم الجانب الآخر بالتوقف مع تزكية النفس باعطاء المال لتوضيح الاختلاف بين تشريعات الزكاة المالية فى الاسلام وتشريعات الفقهاء فى الدين السنى .

وقبلها نتوقف فى هذا المقال مع إطار هذا التشريع وحكمته حيث شاءت إرادة المولى جل وعلا فى إختبار البشر أن يجعلهم متفاضلين فى الرزق ، ليكون أختبار الغنى فى ماله وثرائه ويكون اختبار الفقير فى فقره وصبره.

ونعطى التفاصيل :

أولا :ـ إقترانالتحكم الالهى فى الرزق بالتحكم فى الكون و الخلق:

1 ـ الله جل وعلا هو وحده فاطر السماوات والأرض ، أى الذى خلقهما من لا شىء . وأيضا هو وحده الذى يملك التحكم فيما خلق وفيمن خلق ، وقد شاء أن يجعل الموارد الاقتصادية فى الأرض ملكية عامة متاحة للبشر جميعا معروضة عليهم على أساس المساواة ، وسمى تلك الموارد ( أقواتا) وجعلها سواء ، أى حقا لكل من يسعى اليه، يقول جل وعلا عن الأرض :( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ) ( فصلت 10 ).

ومع كون الموارد الأرضية حقا بالتساوى لكل البشر إلا أنها تستلزم عملا وسعيا وجهدا فى الزراعة والصناعة والاستغلال والاستخراج ، ولم يخلق الله جل وعلا البشر متساوين فى الحيوية والنشاط او الرغبة فى السعى أو فى الذكاء والمعرفة أوالصحة والمرض والامكانات البشرية ، وبسبب هذه الفروق الفردية فليس كل البشر من الساعين للعمل أوالقادرين على الابتكار. ومن هنا تتجلى أحد سببى التفاضل فى الرزق ، وهو السبب المعروف لنا.

2 ـ ولكن قد تمتع بكل مؤهلات الحصول على الرزق ولكن لا تحصل عليه لأسباب تخرج عن علمك وارادتك . هب إنك ذهبت للصيد فى البحر مسلحا بكل الامكانات عالما بأن البحر غني بالرزق ، ولكن لا يمكن أن تضمن الرزق ، بل قد لا تضمن أن ترجع حيا . وهنا السبب الآخر الذى يرجع الى الحتميات الأربع التى تسرى على الانسان فيما يعرف بالقضاء والقدر ، وتلك الحتميات تتعلق بالميلاد والوفاة و المصائب والرزق .

فالرزق فى كميته ووقته يقع ضمن الحتميات التى يتصرف الله جل وعلا فيها وحده، فهو جل وعلا الذى خلقنا متفاوتين فى الرزق (الظاهر) يقول جل وعلا:(وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ )(النحل 71) .

3 ـ هذا يفسر لنا الارتباط بين كونه جل وعلا هو وحده فاطر السماوات والأرض وأنه وحده الذى يبسط الرزق لمن يشاء و يمسك اى يقلل الرزق على من يشاء ، ونحن هنا نتحدث عن الرزق الظاهر من اموال سائلة وأرصدة بنكية و ممتلكات عينية ، يقول جل وعلا :(فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الشورى11 : 12 ) . بالتدبر هنا نرى أنه من صفات الله جل وعلا التى لا يوصف بها غيره : أنه فاطر السماوات والأرض ، وأنه خالق الزوجين الذكر والأنثى ، وأنه ليس كمثله شىء ، وانه السميع البصير الذى لا مثيل له فى السمع والبصر ، وأنه وحده المالك والمتحكم فى مقاليد السماوات والأرض ، وبالتالى فهو جل وعلا وحده الذى يبسط الرزق لمن يشاء ويقلله لمن يشاء طبقا لعلمه الذى وسع كل شىء.

4 - ومن هنا جات الحجة على مشركى قريش وغيرهم الذين يؤمنون بأن الله جل وعلا هو خالق السماوات والأرض والذى سخّر الشمس والقمر ، ـ لاحظ أن من أشعة الشمس تأتى معظم موارد الأرض أو الرزق ـ وأنه المتحكم فى الرزق والذى يبسط الرزق لمن يشاء فيكون ثريا ـ ويقلله لمن يشاء فيكون فقيرا. فإذا كانوا يؤمنون بهذا فلماذا يتخذون معه أولياء و آلهة أخرى مخلوقة ؟ نقرأ هنا قوله جل وعلا :( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (العنكبوت 60 : 62 )

ثانيا ـ فرض الزكاة المالية علاجا للتفاضل فى الرزق

1 ـ وهذا التفاضل فى الرزق جاء علاجه فى نفس الآية، يقول جل وعلا : (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) ( النحل 71 ).

2 ـ فأعظم دليل على التفاضل بين البشر فى الرزق أن يتملك فرد من البشر أخا له فى الانسانية فيما يعرف بالاسترقاق ، ولا يمكن عمليا القضاء التام على الظاهرة لأنها تعبير عن الظلم والعدوان فى طبيعة الانسان وفى حركته على هذا الكوكب ،ولذلك فانه بعد تحريمها عالميا فى شكلها الفج فهى تتلون وتتخفى تحت مسميات شتى فى استعباد الأفراد ، مثل الاستغلال الهائل للعمال والفلاحين والسخرة ونظام الكفيل والدعارة أوالرقيق الأبيض واستغلال العمالة الأجنبية وتهريبها واسترقاقها عرفا وسرا فى أكبر مدن العالم. بل قد تتحول الى استرقاق شعب وشعوب تحت مسمى الاستعمار، او قيام نظم حكم مستبدة بشعارات دينية أوعنصرية أو وطنية أو حزبية ومن خلالها يسترق الحاكم الفرد شعبا بأكمله. وهذا موجز تاريخ العالم .

3 ـ ولأن الاسترقاق هو أبعد مدى يصل اليه التفاضل فى الرزق لذا يجعل الله جل وعلا علاجا مناسبا لهذا التطرف أوالاسترقاق ضمن وسائل الاسلام العملية فى علاج ظاهرة الرق ، ليس فقط من خلال نظامه الاقتصادى فى التعامل مع الثروة على اساس العدل الاجتماعى وكفالة الفقراء ومنع تركز المال فى يد فئة قليلة ، وليس فقط من خلال نظامه السياسى القائم على الحرية والديمقراطية المباشرة ، وليس فقط من خلال التمسك بالقيم العليا من التقوى و العدل والحرية والاحسان وتجريم ومنع كل اشكال الظلم والبغى ، ولكن أيضا من خلال تفصيلات تشريعية خاصة بموضوع الرق نفسه ؛ فلا يجوز فى الاسلام استرقاق من الأصل، أى منع من المنبع ، وبالتالى فليس هناك مورد أو مصدر للرقيق داخل الدولة الاسلامية الحقيقية التى تطبق شرع الله جل وعلا إلا من خلال الشراء من الخارج لمن سبق استرقاقه بغير المسلمين، وهذا ما كان سائدا وقت نزول القرآن .

4 ـ تبقى مشكلة تحرير الرقيق المشترى ، فأوجب الله جل وعلا تحريره من خلال بنود كثيرة مذكورة فى الكفارات والفدية، مع جعل تحرير الرقيق وعتقه من أبرز أنواع البر والصدقات . فإن لم يقم المالك بتحريره فعليه أن يتعامل معه على اساس التساوى فى الرزق ، أى يعطى الرقيق نفس المخصصات التى يتمتع بها المالك ، وإلا كان ذلك المالك جاحدا لنعمة الله جل وعلا حين فضّله فى الرزق الى درجة استطاع بها شراء أخ له فى الانسانية .

5 ـ وهذا هو معنى قوله جل وعلا : (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)(النحل 71). وبالتالى يكون جاحدا لنعمة ربه من يبخل ولا يعطى الزكاة العادية مالا للفقراء والمحتاجين وفق شرع الرحمن جل وعلا . وجحود النعمة يتساوى مع الكفر .

ثالثا : ـ أسلوب الترغيب والترهيب فى الحث على الصدقة والتحذير من البخل

ولأن التفاضل فى الرزق بيد الرحمن جل وعلا ، ولأن البشر قد خلقهم ربهم أحرارا فى الطاعة أو المعصية فى التصدق أو البخل ، ولأن شرع الله جل وعلا مرتهن فى تطبيقه أو عدم تطبيقه بارادة البشر فإن الله جل وعلا يستخدم اسلوب الترغيب والترهيب فى حث البشر والمؤمنين بالذات على تقديم الزكاة المالية أو الصدقة ابتغاء وجه الله جل وعلا وحده.

وهنا نلاحظ الآتى :ـ

التفاضل فى الرزق قرين الإخلاف الالهى للمتصدق

*يقول جل وعلا :(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( سبأ 39 ) ، فبعد إقرار حقيقة التفاضل فى الرزق يأتى الحث للأغنياء على الصدقة والزكاة المالية بوعد بأن الله جل وعلا سيخلف لهم مالا وثوابا مقابل ما دفعوه .

* ويقول جل وعلا :(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ) ( سبأ 36 : 37 )،أى إن للتفاضل فى الرزق حسابات لا يعلمها البشر ،أى لا يعلمون لماذا جعل الله جل وعلا فلانا فقيرا وجعل أخاه فلانا ثريا ، ولماذا كان هذا أميرا وكان ذاك أجيرا. وفى النهاية فليس الغنى والجاه رخصة للبشر كى يحوزوا مكانة عالية عند الله جل وعلا ، أى ليس رب العزة منحازا للأغنياء كما ينحاز أرباب الأديان الأرضية لأصحاب الثروة و السلطة ، رحمة الله جل وعلا ستكون قريبة من المحسنين المقربين الأبرار يوم القيامة من الفقراء الصابرين والأغنياء المتصدقين . وهنا يشير رب العزة الى أن جزاء المتصدق سيكون الضعف بالاضافة الى الجنة والأمن من عذاب يوم القيامة.

* ويقول جل وعلا :(مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (البقرة 245 ) أى فلأنه جل وعلا ليس منحازا للفقراء ضد الأغنياء أو للأغنياء ضد الفقراء ، ولأن أوامره ونواهيه هى للجميع على قدم المساواة ، ولأن الذى يختار التقوى و الطاعة منحازا لرب العزة هو فقط الذى يرضى عنه ربه ، من أجل ذلك يأتى هذا الخطاب الالهى للبشر جميعا بصيغة مؤثرة تدعو صاحب المال لأن يقرض الله جل وعلا ـ بتقديمه الصدقة للفقراء ـ وبعد هذا الأسلوب شديد التأثير يأتى الوعد بأن يخلف الله جل وعلا عليه أضعاف هذا المال فى الدنيا حيث أن التفاضل فى الرزق بيد الله جل وعلا ، ونفهم هنا أن من حسابات التفاضل فى الرزق فى الدنيا هو تقديم الصدقة ، فمن يتصدق يبسط الله جل وعلا فى الرزق فى هذه الدنيا قبل الآخرة.

ومن حيث البلاغة والفصاحة يتنوع أسلوب الترغيب فى جزاء الصدقة

* مثل ضرب الأمثلة واستعمال اسلوب التشبيه شديد الدلالة كقوله جل وعلا :( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة 195 ). التشبيه هنا واضح وشديد الاغراء.

* ومنها الاسلوب التقريرى بالأمر المباشر مصحوبا بالاغراء باخلاف المال فى الدنيا: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) ( الأنفال 60 ) أو يأتى الأمر مصحوبا بالاغراء بالغفران فى الآخرة :( وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (النور 22 )

* أو يتحول الأمر الى صيغة الجملة الاسمية التى تفيد الثبوت والدوام:( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة 261 : 274 ).

2 ـ وهذا الترغيب فى تقديم الصدقة يتوازى معه ترهيب من منع الصدقة و البخل .

ولهذا الترهيب أنواع وأقسام على النحو الآتى :

* ـ العقاب الالهى الفردى فى الدنيا

كما حدث لقارون الذى بسط الله جل وعلا له فى الرزق فطغى وبغى وجحد فعوقب على رءوس الأشهاد بالخسف فى الأرض :(فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)(القصص 81 : 82 )

* ـ العقاب الجماعى فى الدنيا

ويأتى التحذير للمؤمنين الصحابة فى عصر النبوة حين رفض بعضهم الانفاق فى سبيل الله ، وجاء الوعيد لهم بأن يحيق بهم عاقبة بخلهم ، يقول جل وعلا لهم ولنا وللبشر جميعا : (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ) ( محمد 38 ).

وتحقق هذا الوعيد بعد وفاة خاتم المرسلين . نعرف ما قاموا به من فتوحات تخالف شرع الله جل وعلا ، وما صحب هذه الفتوحات من سلب ونهب وسبى واسترقاق ، وتكدست الثروة المسلوبة المنهوبة فى أيدى كبار الصحابة ، مما أدى للنزاع على الثروة وتحول النزاع الى حرب أهلية أو ما يعرف بالفتنة الكبرى ، وأسفرت عن قتل عشرات الألوف منهم، ولا نزال نعيش فى هذه الفتنة حتى الآن ، فلا زلنا نعيش مسبباتها من تكدس الأموال بالظلم والقهر فى أيدى فئة قليلة، واستخدام اسم الله جل وعلا فى أكل اموال الناس بالباطل وتبرير السلب والنهب والقتل بزعم الجهاد . وهنا يأتى العقاب للجميع ، يعمّ الظالم والمؤيد للظلم والساكت عن الظلم . وقد حذّر رب العزة من تلك المحنة فقال : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(الأنفال 25).

وليس هذا العقاب فى الدنيا فقط ، بل فى الآخرة أيضا.!

العقاب فى الآخرة

يأتى أسلوب الترهيب فى تحذير للمؤمنين من عذاب الآخرة لو بخلوا . يقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (الحشر 9 ) . فقد كان من الأنصار من وصل به العطاء والكرم الى درجة الايثار على النفس مع معاناة الفقر. وأولئك قد نجوا من مرض يسميه رب العزة ( شح النفس). والمفلحون فى الآخرة هم الذين نجو فى الدنيا من هذا المرض : (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).

ويتكرر هذا المصطلح ضمن أوامر بالتقوى والطاعة والانفاق فى سبيل الله جل وعلا علاجا من شح النفس ووقاية منه، يقول جل وعلا : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ )(التغابن 16).

ومن يأتى نصح المؤمنين بالتصدق فى هذه الحياة قبل أن يأتى الموت ويتمنى المؤمن لحظة الاحتضار لو كانت لديه فسحة من الوقت ليتصدق وليكون من المحسنين ، وهى أمنية فات موعد تحقيقها ، لذا يأتى مقدما الوعظ والتحذير :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( البقرة 254 ).

ويأتى تحذير آخر للمؤمنين باقامة الصلاة والتصدق فى هذه الدنيا سرا وعلانية قبل أن تأتى الآخرة ( قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ )(ابراهيم 31)، فالآخرة ليست دار العمل الصالح بل دار الثواب والعقاب والجنة والنار لمن أحسن أو عصى، ولمن تصدق أو بخل .

ويقولها رب العزة بكل حسم أن المؤمنين لن ينالوا درجة الأبرار يوم القيامة إلا بعد أن ينفقوا أحب ما لديهم فى سبيل الله :(لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( آل عمران 92 )، فهناك من يتصدق بالفائض عنده ، أو بالزبالة ، لا يدرك أن الله جل وعلا عليم بما ينفق ، وهذا لن ينال البرّ حتى ينفق لوجه الله جل وعلا أثمن وأفضل مما عنده .

ونظير ذلك أن تطعم الفقراء فى سبيل الله جل وعلا أحب أنواع الطعام وأحب ما تشتهيه ، وهذا هو ما يفعله الأبرار فى الدنيا : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) (الانسان 7 : 11)

رابعا : عناصر الاختبار فى موضوع التفاضل فى الرزق والزكاة ـ :

1 ـ عدم وجود عقوبة على من يمنع الزكاة المالية فى تشريع الاسلام :

( قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة 53 : 54 )، فالزكاة المالية فرض واجب ، ولكن من يمتنع عن تأديتها لا عقوبة عليه من الحاكم ، فيكفيه أن الذى يتولى عقوبته هو الله جل وعلا الذى يبسط الرزق ويقدره ، والذى يعزّ منن يشاء ويذلّ من يشاء . وهذه حقائق تاريخية وانسانية موجودة فى كل مجتمع .

2 ـ لاوجود للنصاب ، بل عليك أن تنفق من أى رزق يأتى اليك مهما بلغت ضآلته، فهذه من ضمن صفات المتقين :(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)(البقرة/ 3 : 4 )

3 ـ معنى المحسن : وهكذا فالفقير عليه أن يتصدق بما يستطيع ، وأن يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة أو حاجة ، وهذا هو منتهى الكرم ونبل الأخلاق فى الاسلام . فإذا لم يجد الفقير ما ينفق منه فعليه أن يتمنى ذلك مخلصا فى قلبه ، أى يتمنى أن يعطيه الله جل وعلا مالا لكى ينفق منه ويتصدق. وهنايكون عند الله جل وعلا محسنا بمجرد النية الصادقة.

نفهم هذا من قوله جل وعلا عن بعض الصحابة الأبرار الفقراء الذين كانوا يبكون لعجزهم عن التبرع فقال الله جل وعلا عنهم يرفع عنهم الحرج : (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ) ، أى جعلهم محسنين مع أنهم لا يجدون ما يتبرعون به ، والسياق القرآنى هنا يقول :(لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ)( التوبة 91 ـ ).

4 ـ وفى المقابل يكون الجزاء عنيفا مع االذى يعاهد الله جل وعلا وينذر إن أغناه الله جل وعلا أن يتبرع ويتصدق ، فلما أغناه الله وأوسع عليه فى الرزق حنث بعهده. هذا ما حدث من احد الصحابة ونزل فيه قوله جل وعلا يحكم عليه بسوء المصير يوم القيامة : (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( التوبة 75 : 78 )

5 ـ ونظير ذلك تلك العقوبة الهائلة لمن يسخر من المتصدقين المخلصين ، وهذا ما حدث من بعض المنافقين فى عهد خاتم المرسلين ، وقد استغفر النبى لهم فلم يقبل الله جل وعلا استغفاره لهم :(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)( التوبة 79 : 80 ).

أخيرا

1 ـ تلك بعض مظاهر الاطار التشريعى لتفصيلات وأحكام الزكاة المالية فى الاسلام . يتضح فيها أن زمام الأمور فيها بيد الله جل وعلا ، فهو الذى جعل البشر متفاضلين فى الرزق وهو الذى شرع تأدية الزكاة المالية واجبا وفرضا لعلاج هذا التفاوت فى الرزق ، وهو الذى خلق البشر احرارا فى الطاعة أو المعصية، وهو الذى يستخدم معهم اسلوب الترغيب والترهيب، وأخيرا هو الذى يتولى عقابهم ومكافأتهم فى الدنيا والآخرة.

2 ـ ولأن للزكاة المالية وصفا أخلاقيا هو ( الكرم ) فإن لها إطارا أخلاقيا آخر يربط بين التشريع الاسلامى فى الزكاة وبين الجانب الخلقى فى الاسلام . وموعدنا فى الحلقة التالية مع هذا الاطار الأخلاقى لتشريعات الزكاة المالية فى الاسلام.

اجمالي القراءات 16590