مشكلة حوض النيل- محاولة للفهم

كمال غبريال في الأحد ٢٣ - مايو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

نحتاج نحن المصريين جميعاً أن نفهم حقيقة ما يجري بين دول حوض النيل، ليس فقط نحن العامة الذين ننتمي إلى توصيف "رجل الشارع"، بل أيضاً وبعد الفشل الذريع للمسؤولين والخبراء في اجتماع شرم الشيخ الأخير، وانصراف دول المنبع منه، والمصحوب بتهديدات بدأت بشائر تنفيذها، بتوقيع اتفاقية بواسطة دول المنبع، وتجاهل دولتي المصب مصر والسودان. . بعد هذا يتضح لكل ذي عينين أن المختصين والمسؤولين المصريين أيضاً بحاجة إلى فهم حقيقي لطبيعة ما يحدث، كمقدمة ضرورية &aacu للوصول إلى حل لهذه الإشكالية المزمنة، والمتعلقة بأخطر ما يهم المصريين، وليس هنالك أدنى مبالغة في هذا القول، مادامت مصر وعن حق هبة النيل، ومادام المصريون لم يجدوا مكاناً يتكدسون فيه من بين مليون كليومتراً مربعاً هي مساحة مصر، غير وادي النيل ودلتاه.
ما يزعجني شخصياً ويدفعني لكتابة تلك السطور، ليس تعقد المشكلة في ذاتها، أو صعوبة الوصول لحلول جيدة لها، لكن المزعج هو منهج تناولنا صفوة ومسؤولين لها، فالبعض يهول من حجم المخاطر، والبعض يهون محرضاً على التكاسل والتقاعس، وفوق هؤلاء وأولئك يخيم ضباب أسود مصدره ثقافتنا ونهجنا في تناول كل ما يصادفنا من مشاكل، والذي ينزع أو يهرع لنظرية المؤامرة، ما يجعلنا ندير دائماً ظهورنا لكل ما يتبدى من مسببات ومعالم أي مشكلة أو خلاف، لنجري بعيداً إلى هناك، حيث يجري البحث عن مسببات أخرى، وعن أياد خفية خلف الموضوع، لنجعل منها العامل الوحيد أو الرئيسي لما يحدث، وليس حتى مجرد عامل مساعد أو ثانوي. . نفعل هذا فيما تعبث في عقولنا وقلوبنا دودة لا تهدأ ولا تستكين، اسمها العداء لإسرائيل وأمريكا، والتي تظهر عفاريتها لنا في كل خرابة، فتعمى عيوننا عن رؤية أي شيء، سوى ذلك العفريت الأزلي الأبدي!!
تلك الدودة الفكرية الثقافية تسببت في دخول مصر سلسلة من الحروب بداية من العام 1948 وحتى 1973، ثم تسببت بعد ذلك وحتى الآن في إحباط الآمال التي كانت معلقة بتحقيق السلام، وبالتفات كل شعوب المنطقة للتعاون على التعمير والتنمية، ومن بينها إسرائيل واحة العلم والديموقراطية في قلب صحراء العروبة المجدبة، بدلاً من التفاني في القتل والتخريب المتبادل، أو مقارعة طواحين الهواء الدونكيخوتية. . لابأس من الاستسلام لما ليس منه بد، وليذهب أي حل كان مأمولاً للقضية الفلسطينية إلى الجحيم، خاصة وقد أصبحت هذه القضية تشغل في الواقع حيزاً ثانوياً في السياسة المصرية، رغم التصريحات والدعايات الإعلانية بعكس ذلك، وربما هو الإنجاز الأكيد الوحيد بعد انتهاء الحقبة الناصرية البائدة، أن كاد شعار "مصر أولاً" أن يكون متحققاً بالفعل في السياسة المصرية الخارجية!!
لكن ما لا يُحْتَمَل بالفعل، ولا يمكن بأي حال السكوت عليه، هو انتقال ذات نهج التهريج والمزايدة، ومعه ذات الدودة اللعينة التي تهري بعبثها عقول الصفوة والحكام، إلى قضية حياة أو فناء للإنسان المصري، وهي قضية مياه النيل!!. . هنا يجب أن نتوقف تماماً عن الحديث والمناقشات، لندق بقبضاتنا بقوة على المائدة، حتى يستفيق الذاهلون والمهرجون والمزايدون، فإما أن يثوب هؤلاء إلى رشدهم، إن كان قد تبقى لديهم بقية من عقل يعقلون به، أو يغادرون المائدة غير مأسوف عليهم، لنبدأ بعدها في بحث الأمر بعقلانية وتدبر!!
السؤال الأول نتيجه لما أثاره المتخبطون من ضباب، ويعد البوابة لمعالجة الأمر هو: هل المشكلة بيننا وبين دول المنبع سياسية أم فنية، أم هي خليط بين هذا وذاك؟. . يعني السؤال أو التساؤل أن المشكلة بين دول المنبع ودول المصب يمكن أن تكون مجرد خلاف سياسي، نتيجة تبني دول المنبع لرؤى سياسية تصادمية معادية لدول المصب، كما يمكن أن تكون المشكلة مادية فنية، ترجع لاختلاف المصالح، وبالتالي اختلاف الرؤى في كيفية التعامل مع إيرادات النهر المائية.
لو بحثنا في احتمالات أن يكون الأمر سياسياً محضاً، سنجد أن مصادر الخلاف من الممكن أن تأتي نتيجة لأكثر من سبب:
    تندرج كل دول حوض النيل تقريباً (ماعدا مصر بصورة جزئية) تحت بند الدول المتخلفة في إداراتها السياسية، ولنا أن نتوقع أن يكون أحد مظاهر ذلك التخلف في الإدارة، أن تكون رؤى وتوجهات قادتها السياسيين غير وثيقة الصلة بمؤسسات الدولة المتخصصة ودراساتها الفنية والميدانية للأمور، وأن تكون أقرب للرؤى الارتجالية والانطباعية للقادة ولحالتهم المزاجية ومرجعياتهم الأيديولوجية.
    إمكانية استخدام قادة دول المنبع لقضية اقتسام مياه النيل ومقاربتها بصورة صدامية، وسيلة سياسية ديماجوجية لتسول شعبية والتفاف جماهيري حولهم، ربما كانوا سياسياً في حاجة إليه.
    ربما اتخذ قادة دول المنبع النهج الحاد والتصادمي في معالجة هذه القضية المزمنة، كحيلة تكتيكية لجذب انتباه العالم لما يعانونه من مشاكل تنموية يلعب فيها نقص المياه دوراً رئيسياً، وذلك بهدف جذب استثمارات لتنفيذ مشروعات تنمية موارد النهر (ولا يستبعد هنا أن تكون الإدارة المصرية متحالفة معهم ولو ضمنياً في هذا النهج)، بمعنى أن يكون الخلاف الحادث "اشتغالة" للمجتمع الدولي بتهديده بحرب مياه.
    أن يكون ما لا تمل مصر والسودان من ترديده بأنه "لا تفريط في حقوقنا المائية المكتسبة" والتي تحددت بموجب معاهدة 1959، قد أوصل رسالة إلى قادة دول المنبع بأن هذا يعني أننا لا نكترث إلا بمصالحنا، وليذهب الآخرون إلى الجحيم، وهذا الانطباع إن كان حقيقياً (ونظنه كذلك) كفيل باتخاذ هذه الدول لمواقف حادة، حتى لو كانوا يدركون جيداً استحالة تحققها عملياً لدواع فنية وقانونية ودولية، فللتهديد بلاشك نتائجه تغييراً لمسار مباحثات راكدة طويلة المدى ضئيلة النتائج.
يلاحظ هنا أننا أهملنا تأثير العامل الخارجي على مواقف دول المصب السياسية، ويرجع ذلك لأكثر من سبب، فنحن نستبعد تماماً من عالم السياسة (بالطبع باستثناء دول العروبة والتأسلم السياسي) ما يمكن وصفه بالعداء المجاني، وهو الذي تركز فيه دول وشعوب مجهودها لخلق مشاكل لشعوب ودول أخرى لمجرد عدائها وكراهيتها المجانية، دون أن تجني من وراء ذلك أي فوائد مادية، كما نستبعد أن يكون قادة دول المنبع نهباً لوسوسات شياطين خارجية، تدخلهم وشعوبهم في مشاكل دولية، لمجرد أنهم على قدر من البلاهة يحسدون عليها، علاوة على أن ترديدنا المستمر لمثل تلك الاتهامات لتلك الدول، دونما دليل مادي على فساد هؤلاء القادة وارتشائهم مقابل مثل هذه المواقف الشاذة مثلاً، لهو مبرر إضافي لأن يتخذ هؤلاء مواقف حادة منا. . النقطة الأخيرة هنا، هي أن إسرائيل وليبيا مثلاً، وهما الدولتان ذات الاهتمام بأفريقيا، ليس من صالحهما دفع الدول المنبع باتجاه الاستحواذ على مياه النيل على حساب حصة مصر والسودان فيها، بل من صالحهما الدفع نحو انجاز مشروعات لزيادة موارد النهر، طمعاً في وجود فائض في موارده، يمكن في المستقبل أن يكون لتلك الدولتين نصيب منه، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا عن طريق مصر، وعبر زيادة الموارد المائية المتدفقة باتجاه دولتي المصب.
نأتي إلى العوامل المادية والفنية التي قد تدفع دول المصب إلى التحرك لتغيير الوضع المائي الحالي، لنسأل أنفسنا إن كانت هذه الدول حقيقة تعاني مشكلة موارد مياه وتوليد طاقة كهربائية، أم هي فقط تلهو وتعبث لا أكثر ولا أقل؟
إذا قلنا كما هو الواقع بالفعل بأن هذه الدول لديها مشكلة حقيقية، يكون علينا أن نعود إلى أنفسنا ونتساءل، إن كان من المفروض أن ندير وجوهنا وظهورنا لهذه الدول التي ينبع من أراضيها مصدر حياتنا، أم أن نشاركها وبجدية همومها، وأن نبحث سوياً عن حلول لتلك المشاكل، بدلاً من تركها تضرب رأسها في الحائط، لأنها لا تستطيع أن تمنع عنا مياه النيل، فهي لا تمتلك الإمكانيات الفنية والمالية التي تمكنها من ذلك، إن لم يكن هذا هو المستحيل بعينه، والذي لا تستطيعه أي قوة في العالم مهما عظمت، فمياه النيل ليست بترولاً يمكن أن تحتفظ به هذه الدول في باطن الأرض من قبيل العناد، بل هي طوفان مدمر يبحث عن تصريف وإلا سيغرق كل مناطق المنبع، علاوة على أن المجتمع الدولي لن يسمح أبداً بأبسط مساس بمواردنا المائية؟!!
كان يمكن لكاتب هذه السطور (على الأقل) أن يختار الحل الأكثر مدعاة للراحة والاسترخاء، وهو أن نترك دول المنبع تضرب رؤوسها في أقرب حائط أو صخرة تجدها، "واللى في قلوعها تنفضه" كما نقول بالبلدي، فهي لا تستطيع بالفعل أن تضرنا، ولا تعدو أن تكون اتفاقياتها المنفردة وتهديداتها أكثر من قعقعة بلا طحن، أشبه بتهديداتنا بإلقاء إسرائيل في مياه البحر المتوسط. . كان يمكن أن يكون بالفعل هذا هو الخيار الأفضل لمصر والسودان، لولا أننا بمواردنا الحالية من مياه النيل، وهي 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، قد أوشكنا أو دخلنا بالفعل مع التزايد المطرد للنسل في دائرة الفقر المائي، وتشير التقارير الرسمية أن موارد مصر المائية ستعجز عن الوفاء باحتياجاتها بداية من العام 2017. . هذا يجعلنا نبادر بالعمل مع سائر دول الحوض، ليس لتقاسم موارد النهر الحالية والتشاجر أو الاقتتال حول كيفية تقسيمها، ولكن لزيادة موارد النهر على حساب الفاقد، حيث يقدر حجم المياه المتساقطة على دول المنبع بـ 1600 مليار متر مكعب سنوياً، في حين تبلغ إجمالي إيرادات النهر حالياً 84 مليار متر مكعب، مع الأخذ في الاعتبار بالطبع أن ليس جميع ما يسقط على دول المنبع من أمطار تعتبر فاقداً قابلاً للسيطرة عليه في المستقبل، لكن ولو افترضنا أن 10% فقط من كمية الأمطار الساقطة على دول المنبع قابلة للتحكم فيها عن طريق مشروعات مستقبلية، وكثير منها مُعَدُّ بالفعل، وينتظر الإرادة السياسية والتنسيق مع جهات التمويل، فإن هذا يعني إمكانية مضاعفة إيرادات النهر!!
الخلاصة أن المشكلة بين دول المنبع ودول المصب مشكلة حقيقية مادية وفنية بالأساس، والهامش السياسي فيها لا يتجاوز حث قادة هذه الدول على الالتزام بالنظرة الموضوعية لصالح شعوبهم بالدرجة الأولى، ثم صالح جميع شعوب حوض النيل، وهذا يمكن أن يحدث باحترام هذه الشعوب وقادتها، والكف عن التعامل معهم باستعلاء وغطرسة، والامتناع عن الاتهامات الحنجورية بانسياقهم وراء دسائس خارجية، حتى لو كان في هذه الاتهامات ولو قدر ضئيل من الحقيقة. . فعلينا أن نتوجه مباشرة إلى الجسم الحقيقي والضخم للمشكلة، وألا نتلكأ في علك مفاهيم محبطة لا تحتاج منا لأكثر من الردح والشجب والتنديد، فيما مستقبل شعوبنا بحاجة إلى العمل الجاد والمخلص، فنحن نفتقد للإدارة والاستقامة. . نفتقد حسن إدارة أمورنا وأزماتنا، كما نفتقد الإخلاص والاستقامة في تبني المنهج العلمي، ومواجهة ما يتحتم علينا مواجهته بشجاعة.

 

اجمالي القراءات 34857