الالتباس بين الليبرالية والإسلام

نبيل شرف الدين في الإثنين ١٩ - أبريل - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 

قدمنى صديق من هواة التصنيف لعدد من شباب الجامعة بعد ندوة ضمتنا باعتبارى والعياذ بالله ممن بات يصطلح على تسميتهم بـ«الليبراليين الجدد»، وساعتها أحسست أننى أبدو كمتهم على نحو ما، بمخالفة السائد والشائع والمتفشى والمألوف، من الانتماءات الصريحة أو المواربة.

شابة منتقبة بدا من صوتها أنها تشتعل حماساً بادرتنى بسؤال استنكارى، عن مدى اتساق اقتناع المرء بهذه ال&Atiledil;لأفكار «التغريبية»، وصحّة اعتناقه الإسلام.

وكما ترون فهو سؤال ملغوم وافتراضى، ويحتاج لضبط المفاهيم، قبل الانزلاق إلى سجالٍ فارغٍ سيفضى بالتأكيد لملاسنات، وربما مهاترات، خاصة أن الشابة السائلة كانت متوترة كأنها تقف أمام عدوٍ محارب، وحاشا لله أن أكون هكذا، لكن ما عسى المرء أن يفعل حين يتفشى «العُصاب» فنفقد حتى مجرد القدرة على التحدث معاً، عذراً تزعجنى كثيراً كلمة الحوار، وأستعيذ بالله ثلاثاً حين تذكر على مسمعى هذه الكلمة.

«شيطنة المصطلحات»، واحدة من عدة ألاعيب يجيد المأزومون استخدامها، فكما جرت بنجاح إسباغ الكفر والانحلال والفساد على مصطلح «العلمانية»، تعرضت «الليبرالية» وغيرها من المفاهيم لعملية شيطنة منظمة، كانت أخطر نتائجها شيوع اعتقاد لدى العامة بأن هذه الأفكار تتناقض حتماً مع الإسلام، بينما بقدر من التأمل والفهم والصبر، سيكتشف المرء أن الإسلام فى جوهره هو المنظومة الدينية الأكثر ليبرالية،

وكفى أنه لا يعرف كهنوتاً من أى نوع، فكلً يؤخذ من كلامه ويرد عليه، إلا صاحب «ذاك القبر»، الذى انتهى الوحى بصعوده للرفيق الأعلى، وأصبح كل اجتهاد من بعده لا يحمل أى قداسة، وإن كان موضع تقدير وتبجيل كجهد فقهى ينبغى التعامل معه فى سياقه التاريخى، ومراعاة ظروف زمانه ومكانه. الآن تتبلور منظومة كونية متكاملة أصبحت عنوانا للقرن الجديد، يأتى فى صدارتها احترام الحريات العامة وحقوق الإنسان ومراعاة الأقليات والمرأة،

وها هى أنظمة الاستبداد تشهد آخر أيامها، فلم يعد مقبولا أن يحتكر أحد الحقيقة تحت أى شعار، ولا أن يمنح أحد صكوك الوطنية والدين للبعض، ويجرد مخالفيه منها.

بالطبع من الصعوبة بمكان تحديد تعريف دقيق لليبرالية بسبب تعدد جوانبها وتطورها من جيل لآخر، لكن باختصار شديد فإن الليبرالية ليست فى خصومة مع الدين أو حتى مع الأعراف الاجتماعية، بل تصبو إلى التحرر من التسلط بنوعيه: تسلط الدولة (الاستبداد السياسى)، وتسلط الجماعة (الاستبداد الاجتماعى).

ثمة حقيقة أخرى، لا تحتمل التمييع أو التجاهل، وهى أن التيار الليبرالى متجذر فى مصر منذ القرن التاسع عشر، وشكل أحد الملامح الأساسية للحياة السياسية المصرية واستندت عليه الدولة المصرية الحديثة مع صدور دستور ٢٣ وكان هو ممثل الحركة الوطنية ممثلة فى حزب الوفد القديم.ولعل المرء ليس بحاجة للرد على اتهامات خرقاء توجه إلى الليبراليين بخيانة الثوابت الوطنية، فهى تهم مرسلة، لأن أحداً لا يملك سلطة تحديد «الثوابت الوطنية» ثم فرضها على الجميع لأنه يفهمها على هذا النحو أو ذاك.

فهناك مثلاً من يرون أن سياسة التحول لاقتصاد السوق خيانة للثوابت الوطنية، مع أن تاريخ مصر حتى حركة الضباط عام ١٩٥٢ كان يقوم على اقتصاد السوق بشكل صريح، ومع هذا كان الاقتصاد الوطنى مزدهراً على نحو واضح، وكانت ظروف المعيشة للناس ليست أسوأ مما هى عليه الآن، بل العكس.

كما أن هناك من يرون أن مراعاة الوضع القانونى للمرأة خيانة للثوابت الدينية، والبعض الآخر يرى أن الحديث عن معاهدة السلام خيانة للثوابت الوطنية رغم كونها معاهدة دولية ملزمة لمصر، وبمقتضاها عادت لنا أرضنا التى احتلت، بينما تعجز دول لا تجيد سوى الشعارات الزاعقة مثل سوريا عن استعادة أرضها، فهل من الثوابت الوطنية استمرار الاحتلال لأراضينا؟.

أعترف بأن بلورة تعريف واضح ودقيق لمفهوم الليبرالية أمر بالغ الصعوبة وربما عديم الجدوى، وفى هذا السياق أقرت الموسوعات الفلسفية بهذا الالتباس الحاصل فى مفهوم الليبرالية، ومما يزيد الأمر صعوبة استعماله المتداول فى أيامنا للدلالة على الأحزاب أو النزعات السياسيَّة التى تجنح لجانب الحريات، لكن الحاصل بالفعل أن «مسألة الليبرالية» تبدو أبعد من هذا بكثير، وأن النضال لأجلها سيمتد زمناً أطول.

والله المستعان

اجمالي القراءات 11047