استعمال خارج

نبيل شرف الدين في الإثنين ٢٢ - مارس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

الجديدة تعمل خمسمية جنيه، لكن ممكن تشتريها استعمال خارج بخمسين».. قالها الأسطى «عبده الميكانيكى» لأحد زبائنه فى معرض «إسداء النصيحة» لشراء قطعة غيار لسيارته المعطلة، وهذه لعبة مصرية شهيرة أصبحنا ننفرد بها على خلق الله فى شتى أصقاع الكون، وتمددت حتى أصبحت تجارة ضخمة صنعت أباطرة ممن جنوا الملايين من وراء بيزنس «استعمال الخارج»، الذى لم يقتصر على قطع غيار السيارات، بل امتد للملابس والأثاث ومكونات الكمبيوتر وغيرها.

<>والفكرة باختصار لمن لا يعرفها تقوم على إعادة تدوير نفايات «الخارج»، بغض النظر عن هوية هذا «الخارج»، سواء كان أوربياً، أمريكياً، عربياً، أو حتى هندياً، المهم أنه «خارج»، وبالتالى يفترض عرّابو هذه التجارة أن استعمالهم للأشياء كان راقياً، مما يجعلها لم تزل صالحة لإعادة الاستخدام فى مصر، ولهذا فقد ترعرعت «تجارة البالة» فى الملابس التى تخلى عنها الآخرون فى الشرق والغرب، وانتعشت تجارة قطع غيار السيارات التى تحطمت فى حوادث سير ولم يعد من المجدى إصلاحها فيستوردها البعض ليجرى تفكيكها وتنظيف أجزائها، ثم عرضها للبيع.

ويبدو أن «بيزنس المخلفات» لم يعد مقصوراً على «الهاردوير»، أو الأشياء الملموسة فحسب، بل امتد إلى «السوفت وير»، أو الأفكار والسلوكيات أيضاً، ففى الوقت الذى تخلت فيه مجتمعات الجوار كدول الخليج والسعودية مثلاً عن الالتزام الصارم بمناهج «السلفية المدرسية»، التى تعول على شكليات التدين كاللحية والنقاب وغير ذلك، وجدت مناخاً مواتياً لإعادة تدويرها فى مصر، وخلقت طبقة من «تجار المخلفات»، الذين أصبحوا نجوماً وأثرياء بفضل تسويق هذه النفايات الفكرية التى تخلى عنها أصحابها، ولفظتها بيئتها الأصلية التى أنبتتها، بعد أن اكتشف هؤلاء أنها تصطدم بقيم الحداثة وقوانين التطور الطبيعى للمجتمعات التى تنشد التقدم وتسعى لتحسين أحوالها.

يمكن الآن لأى متابع لأحوال المجتمع المصرى أن يرصد سوقاً هائلة لإعادة تدوير مخلفات الآخرين فى شتى مناحى الحياة، فلدينا مثلاً الحجاب «الاسبانش»، والتركى والخليجى والفارسى «الإسدال» أو «الشادور»، ولدينا النقاب السلفى الذى أدخلت عليه جماعة «الإخوان المسلمين» بعض التعديلات ليكون «إخوانياً»، ورأيت بعينى إحداهن ترتدى نقاباً من «البلوجينز»، أى والله، كان الجلباب وغطاء الرأس والوجه كله من قماش الجينز الخشن، الذى لم يفكر مخترعوه أن هناك من سيستخدمه فى هذا الغرض، لأن هذا القماش بطبيعته للعمل الشاق، وكان بالأساس للعمال بالمصانع الأمريكية، حتى أصبح موضة وأيقونة فى العالم كله.

وبقليل من التأمل بعقل بارد، سيكتشف المرء أن هذه المنتقبة على «مذهب البلوجينز» ليست سوى ضحية صراع نفسى وضغوط اجتماعية أكبر من قدرتها على الاحتمال، فبحكم عمرها كشابة تحلم بارتداء «الموضة»، وتتمسح فى كل ما هو حداثى، ولكن فى المقابل فهى ابنة مناخ ضاغط يدفعها نحو الماضى والانسحاب من الحياة، ويصنفها فى خانة الشبهات إن لم تذهب لأقصى مدى ممكن فى التعامل مع ذاتها باعتبارها «عورة»، وبالتالى تلجأ لمحاولات التلفيق الممسوخة تلك.

كان الإنسان المصرى هو نفطنا وثروتنا الحقيقية، حينما كنا نصدر للآخرين فى الشرق والغرب المعلم والطبيب والمهندس والصحفى وكل المهن التى تصنع مجتمعات متقدمة، لكن الآن يؤسفنى الاعتراف بأن «سعر المصرى» فى المهن كافة انحدر ليصبح الأدنى بين أقرانه من شعوب المنطقة فى سوق العمل.

وما يثير المرارة أكثر أن سمعة المصريين ارتبطت بأسوأ الصفات كالاحتيال والإفراط فى الحديث واللغو والنفاق والابتذال، لدرجة أن الشركات الكبرى حتى داخل مصر باتت تفضل الأجنبى على المصرى، وهنا لا ينبغى أن نلوم أحداً فهذه هى قوانين السوق، وكل صاحب عمل فى الدنيا يسعى لاستخدام العناصر البشرية الأفضل التى تؤدى مهامها باحتراف، وما يجب أن نسعى إليه ألا نكتفى بجلد الذات، بل نحاول بإصرار إعادة تأهيل أبنائنا وفق «فورمات» جديدة، تعتمد الجدّية وروح الابتكار، وتطلق العنان للخيال الخلاّق بدلا من الاحتيال والتهريج الرخيص، ولعبة إعادة تدوير النفايات، فهذا الوطن الجميل يستحق أبناء أفضل.

والله المستعان

اجمالي القراءات 13760