القرآن بين النص الكوني والنص المحلي

اسامة يس في الجمعة ١٩ - مارس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

     يحق لنا أن نتساءل عن أثر القرآن على قلب وعقل المتلقي الأول للآيات، ولأن القرآن الكريم لم ينزل على المتلقي الأول دفعة واحدة، بل نزل منجماً، يحق لنا أن نتساءل متى اكتسب النص القرآني قدسيته الذاتية، هل حدث ذلك وقت تلقي النص مباشرة، وهو الأمر الذي نجزم باستحالته فالمتلقي الأول كان كافراً ثم آمن ، وربما كانت الآيات المتتالية بعد إيمانه هي السبب في ذلك، تلك الآيات التي كانت تعالج في شطر منها موضوع الهداية ، موضوع الإيمان في ذاته، وفي شطر آخر تعالج  له مشكلاته المحلية ، تعالج واقع المتلقي الأول ذاته، إن ذلك يعني في نظرنا أن الآيات الأولى كونية عالمية، فهي تحمل في تركيبتها الخاصة معنى الإطلاق والشمول ، فهي عامة مجردة، قل اعبدوا الله ما لكم من اله غيره، قل هو الله أحد الله الصمد، كذلك قوله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلم تذكرون" 

بينما نجد أن الآيات الأخرى تنحت مفرداتها من واقع المتلقي الأول ومن بيئته ومناخه الذي يعيشه ، لكنها مع ذلك تهدف إلى بناء فكرة كلية هي الهدف الرئيسي من النص.

قال تعالى:

( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب واكثرهم لا يعقلون )

نلاحظ هنا مفردات  (بحيرة/ سائبة/ وصيلة/ حام ) وهي مفردات غارقة في المحلية لا يعلم بها إلا أصحابها، لكن الفكرة الكلية هنا امتناع التحريم من قبل البشر فكل محرم لابد أن يكون من قبل الله.

قال تعالى: ( يا أيها الذين امنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب اليم)

انه الصيد والرماح وبيئة القنص ، إن المعنى الكلي لا يمكن أن يكون في فعل الصيد والرماح لابد له أن يكون في فعل الامتناع عما نهى الله عنه.

ولعلني لا أستثنى من ذلك الأحكام التفصيلية التي تعاملت مع بيئة المتلقي الأول وظروفه المكانية ، إنني لا أتكلم عن الجريمة المرتكبة المعاقب عليها إذا حدثت، فهي ولا شك جريمة في كل زمان ومكان، حيث أن الجرائم التي أقر لها القرآن عقوبات جرائم كلها تأباها الفطرة السوية ويأباها العقل الأخلاقي العام، ذاك العقل الذي يجعل من كليات الأخلاق همه الأول ، فالقتل والسرقة والزنا والشذوذ  الخ.. كلها رذائل لا تختلف من زمان لآخر، بينما عقوباتها اختلفت من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر، إن هذا الاختلاف أمر لا يخطئه عين الباحث في تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، إن هذا الاختلاف ليس من قبيل الترف أو الرغبة في تغيير العقوبة ، بل لتطور المجتمع ونضجه واختلاف آليات تطبيق العقوبة ، وإيجاد بدائل أخرى لها.

ومن هذه النقطة نعود مرة أخرى لنتساءل هل فرض النص ذاته على المتعاملين معه تأبيد الأحكام ( العقوبات) لمجرد انه أطلق العقوبة ولم يحدد لها زمانا أو مكانا للاستبدال، أم ترك الأمر للزمان ليلعب هو هذا الدور دون أن يكون قد تجنى على النص ذاته ذاك الزمان الذي خلق له الله ذلك الناموس.

إن المتلقي الأول للنص كان النص يتعامل معه كما أسلفنا بالهداية والتفاعل الكامل فكان يراه في واقعه ومشكلاته وبيئته ، بينما جاء المتلقي الآني ليكسب هذه الوقائع وذاك المناخ الأول وتلك البيئة الممعنة في المحلية قدسية ومهابة جعلته لا يستطيع أن يتحرك إلا في داخلها، ولكونها ممعنة في المحلية فهي لا تستطيع أن تقدم له حلولاً لزمانه، إن زمن النص الأول لا يمكن أن يكون مرجعاً لنا، فكم من قصة لنبي ورد في القرآن لتحكي لنا عن زمانه ومكانه ومحيطه تقص علينا ذلك كي نأخذ منها العبرة والعظة، إن هذا لا يجعل من زمان هذا النبي رغم وجود قصته في القرآن مرجعاً لأحكامنا، إن زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بوروده في القرآن لا يمكن هو الآخر أن يكون مرجعاً لنا..

إننا نستطيع أن نجزم أن كل ما هو قابل للتغيير والتبديل بفعل الاجتماع، لا يمكن أن يكون ديناً، بل هو تديناً، وأن الثابت المطلق هو وحده الدين، إن ذلك يتجلى في أمرين لا ثالث لهما ( الله وقيم الأخلاق العليا). ذلك لكونهما فقط من لم يستطع الاجتماع أو الزمان تبديلهما أو تغيرهما.

علينا إذن نحن المتعاملين الآنيين مع النص القرآني أن نفرق بين ما كان قابلاً للتطور وما هو ثابت لا يتغير، وهو ما يدفعنا لمراجعة الأحكام الواردة في القرآن الكريم حسب ذات المعيار.

 

اجمالي القراءات 10448