نهاية طاغية، ولكن متى يفرح المصريون؟

محمد عبد المجيد في الثلاثاء ١٦ - مارس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الصَدْمة البرادعية التي فغر لها المصريون أفواهَهم لم تؤثر في المشهد المصري، فالأوراقُُ اختلطتّْ علىَ الجميع، والمعارضة وضعت قدَماً في القصر الجمهوري وقدَمَا في مقار أحزابها، وعزرائيل ينتظر الأمرَ الإلهيَّ بقبض روح الطاغية في هايدلبرج أو علىَ ترابِ الوطن الذي دمّره مبارك خلال ثلاثة عقود أشدّ سواداً وظلاما من أعماق بَحْر لجيّ يغشاه موجٌ من فوقه سَحاب، وثلثا الزعماءِ العربِ هَجَرَ النومُ عيونَهم، فهم يعرفون أنَّ نهاية أسرة مبارك تعني عَدْوىَ التغيير لديهم، وأنََّ تحريرَ مصر من اللصوص والقساة والطغاة وساديي الأمن سيعقبه تحرّرُ الليبيين والسوريين والسودانيين والجزائريين واليمنيين و .. هلم جرا!

طلبُ تغيير بعض موادِ الدستور يسير كسُلحفاة عرجاء ومتكاسلة، ومصريو الداخل لا يُصَدّقون أنَّ مصرياً من الخارج يمكن أنْ يكون مُنقذَهم، وأسرة مبارك تلتف حول فراش أبيض يظن النائمُ فوقه أنَّ يديه ستلتفان حول رقابِ المصريين إلىَ الرمق الأخير من حياته المديدة، وأنَّ ولايته السادسة ستجعل مَلكَ الموتِ ينتظر حتى عام 2017!

مغارة علي بابا التي غرَف منها أوّقح لصوص عرفهم تاريخُ الفراعنة لا تزال مفتوحة، ويسيل لها لعاب الأربعين حرامي، فالآثارُ التي لا تُقدّر بثمن تنتظر من يقوم بتهريبها، خاصة أنََّ كلمة السر للمغارة محصورة في قيادات الحزب الوطني الحاكم ويعرفها أصدقاءُ الوريثِ الشاب كما يعرفون أبناءَهم!

الخيارُ الشعبيُّ المصري بين من يأخذ بأيديهم إلى بَرِّ الأمان، ومن يركب ظهورَهم حتى يُسَففهم ترابَ الأرض لم يتم حسمُه بعد، والأربعة الكبار، زكريا عزمي وصفوت الشريف وأحمد فتحي سرور وعُمر سليمان، يُقسمون لروح الرئيس قبيل صعودها أنَّ الوفاءَ للراحل قريبا لن يختلف عنه عندما كانت أوامرُه تهزّ القصرَ ويتبلل منها سروالُ أيّ كبير تحمرّ عينا مبارك أمام وجهِه، والأربعة الكبار في مستشفى هايدلبرج ( أسرة مبارك) يؤكدون للمصريين أنََّ صحة الزعيم زيّ الفل، وأنَّ مرارَته تَفقع ولا تُفقع، وأنَّ حياة نوح، عليه السلام، لن يُضرب بها المثل طولا وفـُلـَكاً، فمبارك سيتخطاه بقرون طالما حَكَمَ عَبيداً بقرون!

بعد قليل يبدأ بثُ تلاواتٍ من القرآن الكريم، ويتوافد كبارُ الضيوفِ علىَ عاصمةِ المُعزّ لحضور جنازة الرئيس حسني مبارك، وتبكي ملايينٌ من الجموع البسيطة والطيبة، وترقص فرحاً قلوبُ آلافٍ من السجناءِ والمعتقلين الذين حَرَمهم الطاغية من رؤية أحبابهم وأولادهم وزوجاتهم وألقاهم بكل ما في قلبه من حقدٍ وقسوةٍ في زنزانات عَفِنة بعدما ضرب بحذائِه مَنصّة القضاءِ، فالعدالة لم تعرف طريقها إلىَ عهده الأسود.

المعارضة المصرية، باستثناء قِلة تُعَدّ على أصابع اليدين والقدمين، قررت الانحيازَ ضد الشعب، وجنرالاتُ العسكر يكتفون بجملة إكليشية تُدْخِل البهجة في قلوبهم وهي أنَّ الجيشَ خطٌ أحمر، والشجاعة تحاول أنْ تجد لها مكاناً في قلوبِ المصريين لعلهم يخرجون لحماية بلدِهم لكن القلوبَ موصدة، والأسنان تصطك، والسيقان تهتز كأنها جان، وعفاريت ضباط الأمن تتراقص أمام عيون المصريين في اليقظة والمنام وتؤكد لهم أنها ستتناسل أضعافا مضاعفة في عهد الرئيس الشاب، والدكتور البرادعي أعطاه الشعبُ أكثر مما منح الإيرانيون لآية الله الخوميني الذي قاوم عرشَ الطاووس سنوات طويلة ، لكن عاشقَ مصر القادم من النمسا لا يعرف أنََّ الكبارَ قتلة، وأن اللعب معهم في الداخل يحتمل خسارة كبيرة وربحاً غيرَ مضمون، وأنه يستطيع، إنْ أراد، أنََّ يتوجه من المطار إلى القصر وسيهرب اللصوصُ من الأبوابِ والنوافذ وقاعة كبار الزوار.

طلبُ تغيير مواد الدستور لكي تناسب مصريا آخر غير جمال مبارك هو استجداءٌ في غير محله، فالاستقلال والحرية والكرامة والحقوق كلها أمورٌ إنْ لم ننتزعها عنوة من أنياب الطغاة فلن يقدمونها إلينا ولو على طبق من حديد خُردة.

الانتخابات التي سيترشح أمام الوريث الشاب فيها حفنة من الكومبارس لا تحمل أيََّ صفة شرعية، والقولُ بأنََّ الجيشَ لن يرضى أنْ يحكمه رئيسٌ مدني هُراءٌ فجنرالات جيش العبور أكثر طاعة لسيد القصر من عامة الشعب، والذين يختبئون في الثكنات العسكرية أكثرعددا من الذين يرتعشون رعباً في عشش الصفيح والعشوائيات.

مصرُ هي رجل العرب المريض وإذا ماتت صعدت روحُ الأمة العربية إلى بارئها، وإذا شفيت انتعشت كل أقطار الوطن العربي، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وفنيّاً، لذا فإنَّ أيّ دعم عربي لنظام الطاغية مبارك هو في الوقت عينه عملٌ مناهضٌ للشعبِ الذي يمثله الداعمُ، ومساندة مبارك إثمٌ يرقىَ إلى مرتبةِ الكـُفر أو أشدّ!

الأيامُ أو الساعات القادمة حُبلىَ بتوأمين: ملاك وشيطان، والمصريون فقط هم القادرون على اختيار واحد منهما!

أخشى أنْ يهرب اللصوصُ الذين نهبوا نصفَ خيراتِ الوطن، وتنجو من المحاكمة كلابٌ نهشت لحومَ أبناءِ شعبنا لسنوات طويلة، ويصمت المصريون، كما صمتوا لثمانية وعشرين عاما، فربما الأمرُ لا يعنيهم، وعشقُ مصر ليس له مكان آخر غير الملاعب الخضراء، ومن يتزوج أمَّ المصري يصبح عمَّه أو أباه الجديد حتى لو كان أبوه الحقيقي على قيد الحياة!

لازلت أرى الدكتور محمد البرادعي أملا في التغيير ساقته الأقدارُ لشعبٍ يمكن بين عشية وضحاها أنْ يختار اللي يعرفه أحسن من اللي ما يعرفوش، أو تضع له السلطة في صندوق الاقتراع صوتا جاهزا أعدته أجهزة الأمن، وحدّد نسبة النجاح فيه وزيرُ الداخلية بعدما تلقى الأوامر من السيد الجديد أو القديم أو نصف الميت!

مصرُ على فوهة بركان، لكنه قد يكون مثل الحَمْل الكاذبِ لامرأةٍ لم يلمسها إنسٌ أو جان، وتطهى الطبخة بعيدا عن أيّ رأيٍّ شعبيّ، وتغمض المعارضة عيوناً وقـِحَة كانت ترى بها عندما قاوَمَت ورقياً النظامَ الورقي، فلما رأت أنه سيسقط ومعه حنجرتها هاجمت الدكتور البرادعي فهو يرفل في ثياب غربية، وينام على أنغام يوهان شتراوس!

الطاغية الأكثر كراهية لشعبنا المصري منذ سقوط أنف أبي الهول يحتضر الآن، وربما تتناقش عائلته في هذه اللحظات عن تفصيلات الموكب، وصلاة الميّت، وبيان رحيل الرئيس، واختيار من سيقرأ كلمات الوداع!

ولكن ألـَم يأن الوقتُ الذي يستدير القفا مئة وثمانين درجة ليظهر وجهُ المصري الحُرّ، الكريم، المؤمن بالله وبالوطن، وتبدو عليه علائمُ الغضب، وينتزع حَقـَّه في حُكم نفسه، ويختار الدكتور البرادعي بعدما يتوعد أولادَ الكلبِ بمحاكمات عادلة ومَهيبة ليستعيد كرامته، وأمواله، وخيراته، ويكتشف العالمُ أنَّ المصريين مازلوا أحياءً يُرْزَقون، وأنهم ليسوا عبيداً استقدمهم تجارُ الرقيق على سُفـُنِهم، إنما هُم الضلع الأكبر في أمةٍ عربيةٍ واحدةٍ إذا اعوَجّ هذا الضلعُ سقطت كل العظام الهشة من البحر إلى النهر.

المصريون أمام أهم اختبار في التاريخ، فالأربعون حرامي يقفون أمام التركة لتقسيمها، والطاغية على فراش الموت، والوريثُ واثقٌ أنَّ الرقيقَ لا يعترضون إلا من وراء ظهره، وأن كل المحيطين بمبارك خلال سنوات حُكمه ملوثة أيديهم بدماء شعبنا، ومليئة جيوبهم وحساباتهم بما تم نهبه، وهم شهود على أصحاب الاخدود.

المصريون أمام محكمة التاريخ التي إنْ اختاروا ديكتاتورا جديدا، أو وافقوا على اختياره إياهم عبيداً من جديد، فلن ترحمهم أجيالٌ قادمة، وستبصق على قبورهم، وستلعن يوم أنْ قيل لهم بأننا أجدادُهم، وأنهم من صُلبِنا النجس!

إذا لم يغضب المصريون الآن، وينبذوا خلافاتهم القميئة، ويعتبروا أنفسَهم شركاءَ في وطن واحدٍ، فلن يبقى لهم من هذا الوطن إلا صناديق القمامة يأكلون من فضلاتها قبل أن يقوموا لمعارك وهمية يظن الحمقى فيها أن الله، تعالى، سينظر في الرقم القومي، وخانة الديانة، وربما يُقرّب إليه السُنّي أو الشيعي أو القبطي أو الاخواني أو الناصري أو الوفدي أو التجمعي أو الوطني أو منتخب الساجدين!

المصريون الآن ينظرون ببلاهة منقطعة النظير للصوص يقفون صَفـّاً كأنهم بنيانٌ مرصوص، ويدخل كل منهم المغارة، بكلمةِ السِرّ أو حتى بتوصية من ملوك الحديد والغاز والموبايل والأراضي المنهوبة، وبعد تفريغ الوطن تبدأ وصلة لطم الخدود النسوية على وطن لم نحافظ عليه حفاظ الفرسان.

كان ينبغي للدكتور محمد البرادعي أنْ يجتمع في العاصمة النمساوية بأقطاب المصريين المغتربين في أوروبا والأمريكتين، وأنْ يتم التنسيقُ فسبعة ملايين مصري في الخارج يمكنهم أنْ يساهموا في إنقاذ وطن لم يستطع أهلهم في الداخل أن يُحرّكوا أقدامَ الطغاةِ قيد شعرة وهي تدوس على رؤوسهم.

مرة ثانية وثالثة و..عاشرة أقول للدكتور محمد البرادعي، مع تعاطفي الشديد وتأييدي له رئيساً لمصر، بأنَّ الزمنَ لا يعمل لصالحه، وأنََّ الكبارَ في مصر بلطجية وفتوات، وأنَّ الانتخابات تثبيتٌ لشرعيةِ الباطل، وأنَّ ترْكَ حيتان النهب يهربون بأموال فقرائنا جريمة بكل المقاييس، وأنَّ العصيانَ المدني والانتفاضة والثورة الشعبية المنظـَمَة تمَثـّل الطريقَ الوحيد والمختـَصَر لوصوله إلى القصر رئيساً لمصر في مرحلة تـُعيد لها الحياة بعدما كادت تحتضر مع طاغيتها.

حسابات الدكتور البرادعي سَتُخطيء الطريقَ إنْ لم يقابل كل خطوة من شعبنا بعَشر خطوات نحوه، فالمصريون لا يحتاجون رئيسا فقط، لكنهم في حاجة لزعيم، والزعامة مبادَرَة وليست إنتظاراً لتصفيق الجماهير، والرمزُ يأتي لاحقاً، والخوميني كان زعيما قبل العودة فمهدت له الجماهيرُ طريقَ السلطة.

الجماهيرُ كالأفراد تُخطيء وتصيب، واختيارُها البرادعي الآن يُلغي تماما صناديق الاقتراع الجاهزة والمشمّعة في وزارة الداخلية، وأنا أرى أنَّ توجيه نداءٍ علنيّ وأمام مئات من كاميرات وميكروفونات وكالات الأنباء والإذاعات والفضائيات يطلب فيه البرادعي من مبارك مغادرة القصر، فنحن قوم لانورَث ولا نُسّتعْبَد، ولا يتحدث بلهجة ودية ولطيفة، كما فعل مِنْ قبل، فالمستبدُ لا يفهم إنْ تربت على كتفيه أو تعانقه وتطلب منه مغادرة القصر.

إما أنْ يأخذ الدكتور البرادعي مبادرة تسلـّم زمام السلطة الآن أو لن يصل إلى الحُكم أبداً، فمعركة تغيير مواد الدستور باطلة لأنها استجداء لسلطة باغية ومجرمة وحقيرة، والدستورُ يمكن تغييرُه على أسس قانونية ومعاصرة وعادلة وحكيمة بعدما يصل إلى الحُكم، ويلقي بأولادِ الكلب إلى الشوارع أو السجون بعد محاكمات عادلة وشعبية.

الكارثة أنْ ينتظر المصريون والبرادعي حتى يتقاسم اللصوص السلطة وخيرات الوطن، حينئذ تصبح الجنازة جنازتين: واحدة للرئيس مبارك والثانية للشعب المصري!

أيها المصريون،

روحُ الحياةِ في الغضب، وصلواتكم في مساجدكم وكنائسكم لا يقبلها اللهُ إلا مرهونة بالدفاع عن وطنكم، وإذا لم تغضبوا الآن فستغضب عليكم أجيالٌ إلى يوم القيامة.

محمد عبد المجيد

رئيس تحرير مجلة طائر الشمال

أوسلو النرويج

Taeralshmal@gmail.com

16.03.2010

اجمالي القراءات 13787