وعظ السلاطين : محطات تاريخية: زياد بن أبيه :( 7 )

آحمد صبحي منصور في السبت ٢٧ - فبراير - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة
1 ـ هناك محطات رئيسة فى تاريخ المسلمين تشكل علامات فى الهبوط والانحدار والتباعد التدريجى عن الاسلام وما كانت عليه دولة خاتم المرسلين عليهم السلام. بدأت قريش الانحدار ببيعة السقيفة وتعيين أبى بكر حاكما ، وهبط أبوبكر خطوة جديدة بالفتوحات ، وتأكدت فى عهد عمر ، ثم هبط عثمان درجة أسفل بالفساد المالى ، فأتاح للآخرين الهبوط الى الوقوع فى حضيض الفتنة الكبرى ، والتى أدت بدورها الى السقوط فى مستنقع الديكتاتورية و توارث الحكم وتكوين النظام الملكى الفج بالدولة الأموية.

2 ـ ولأن معاوية هو أول ملك ، فقد استحدث أشياء كثيرة فى تاريخ المسلمين ، ذكرها المؤرخون المسلمون تحت عنوان (أوليات معاوية ) يعنى هو (أول ) من فعل كذا وكذا .
وأهمها على الاطلاق أنه أول من استحدث توريث الحكم لابنه ، وهى سبة وسنة سيئة يتحمل معاوية وزرها من وقته وحتى الآن . وبالتوريث يختلف عصر الخلفاء الراشدين عن عصر الخلفاء غير الراشدين . وهذا (التوريث ) للحكم ينفى الشورى الاسلامية وديمقراطيتها المباشرة .
ومعظم أوليات معاوية ترجع لتخطيطه للتوريث واعداده له حتى يكون الملك حكرا على اسرته .

3 ـ وبعض أوليات معاوية كان يشاركه فيها بطل حلقتنا اليوم ، وهو ( زياد بن أبيه ) .
فمعاوية هو أول من استلحق (إبن زنا مجهول الأب ) الى نسب أبيه ، أى هو الذى ألحق بنسب أبيه ( زياد ابن أبيه ) المجهول النسب ، الحقه معاوية بأبيه أبى سفيان بعد موت أبى سفيان ،فأصبح اسمه رسميا زياد بن أبى سفيان . وتلك ( سابقة ) لم تحدث فى تاريخ المسلمين .

4 ـ ولأن معاوية من (أصحاب السوابق ) فهو أول من فرض (الأحكام العرفية ) فى العراق ـ موطن المعارضة للأمويين . وكان زياد بن أبيه هو شريك معاوية فى هذه السابقة. فزياد ابن أبيه هو الذى أعلن ( قانون الطوارىء ) فى خطبته الشهيرة ( البتراء )، وهو الذى تولى تنفيذه بكل حزم .

5 ـ ومن سوابق معاوية قتل صاحب الرأى المعارض الذى لا يخرج فى معارضته عن حدود القول ، فكان قتل حجر بن عدى الكندى لمجرد اعتراضه القولى على ( زياد بن أبيه )، وكان حجر بن عدى أول قتيل بسبب معارضته القولية العلنية ، أو بتعبير عصرنا (أول شهيد لحرية الرأى ) فى تاريخ المسلمين ، والبطل فى هذه الكارثة هو زياد بن أبيه .

6 ـ والجريمة السابقة ( قتل حجر بن عدى ) تضمنت خطوة جديدة فى الانحدار ، وهى تلفيق التهم ، فكان زياد بن أبيه أول مسئول فى دولة للمسلمين يقوم بتلفيق تهمة سياسية تستوجب القتل ، ويستطيع أن يحصل بها على موافقة السلطان الأكبر معاوية على تنفيذ الاعدام بحق المتهم البرىء.

7 ـ واستلزم هذا التلفيق والتزوير الاستعانة بالقضاء الاستثنائى فى الاحكام العرفية ،أى قانون الطوارىء ، ووجد زياد ابن أبيه بغيته فى القاضى (أبو بردة بن موسى الأشعرى ) الذى شارك فى التلفيق وجمع الشهود الزور ، ليبعث بالمسكين حجر بن عدى الى معاوية فيأمر معاوية بقطع رأسه مع أصحابه .

8 ـ كل ذلك يجعل زياد ابن أبيه محطة لا يجوز إغفالها فى التأريخ لوعظ السلاطين ،لأن زياد بن أبيه هو نفسه محطة هامة فى مشوار الهبوط والابتعاد عن منهاج الاسلام . وهذا الابتعاد عن منهاج الاسلام استدعى وجود ( وعظ السلاطين ) ، وترتب عليه تصنيع بعض الروايات التاريخية التى تخدم الهدف من وعظ السلاطين .
9 ـ ونتوقف فى مقالات مع بعض التفصيل .
أولا : موجز تاريخ زياد بن ابيه :

1 ـ كانت امه (سمية ) جارية مملوكة للحارث بن كلدة الثقفي ، فزوجها الحارث غلاما روميا له اسمه عبيد ، وكان عبيد يعمل في حانة ، فعملت معه سمية بغيا .

2 ـ وجاء ابو سفيان الي الطائف في الجاهلية فنام معها ، فولدت زيادا وهي لا تزال زوجة عبيد .
واقر ابو سفيان أنه ابنه في خلافة عمر ، وذلك عندما اشتهر زياد بالفصاحة والنبوغ . فقد بعث به عمر بن عبد الخطاب لصلاح فساد في اليمن ، فنجح في مسعاه ، وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها ، فقال عمرو بن العاص ، لو كان هذا الغلام قرشيا لساق العرب بعصاه ، فقال ابو سفيان : والله اني لأعرف الذي وضعه في رحم امه ، فقال علي ابن ابي طالب : ومن هو يا ابا سفيان ؟ قال : انا ، قال : مهلا يا ابا سفيان ، فقال ابو سفيان شعرا يعبر به عن خوفه من عمر ابن الخطاب لو اقر بان زياد ابنه .

3 ـ وقد ولد زياد في السنة الاولي من الهجرة واسلم في عهد ابي بكر ، وكان قريبا من عمر بن الخطاب في خلافته ، وعمل كاتبا للولاه مثل عبد الله بن عامر و عبد الله بن عباس والمغيرة بن شعبة ، ثم جعله علي ابن ابي طالب في خلافته واليا علي فارس ، فحفظ له ذلك الاقليم ، مما اقلق معاوية في صراعه مع علي.
4 ـ ولاية زياد بن أبيه بلاد فارس عام 39:
كانت فارس وما يليها شرقا ( كرمان ) تتبع ولاية العراق ، وكان واليها حينئذ هو عبد الله بن عباس ـ قبل أن يخون عليا ابن عمه ويهرب ببيت المال ـ وأدت الحروب الأهلية بين على ومعارضيه الى حدوث اضطرابات فى فارس وكرمان بسبب بعدهما عن مركز خلافة (على ) فطمع أهلها فى الاستقلال ، فامتنعوا عن دفع الخراج وأخرجوا الولاة العرب المعينين من قبل (على ) .
واحتاج ( على ) الى رجل شديد البأس يعيد الأمور الى نصابها ، فاستشار أصحابه ، فقال له جارية بن قدامة‏:‏ ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صلب الرأي عالم بالسياسة كافٍ لما ولي ؟ قال‏:‏ من هو ؟ قال‏:‏ زياد‏.‏ فأمر ( علي ) والى العراق (عبد الله بن عباس) أن يولي زيادًا ، فسيره إليها في جمع كثير فوطىء بهم أهل فارس ، وكانت قد اضطرمت ، فلم يزل يبعث إلى رؤوسهم يعد من ينصره ويمنيه ويخوف من امتنع عليه ، وضرب بعضهم ببعض ، فدل بعضهم على عورة بعضٍ ،وهربت طائفة وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضًا ،وصفت له فارس ، ولم يلق منهم جمعًا ولا حربًا، وفعل مثل ذلك بكرمان‏.‏ وسكن الناس واستقامت له ، ونزل مدينة إصطخر، واتخذها عاصمة له ، وبنى له بها قلعة تسمى قلعة زياد ‏.‏
5 ـ وبعد مقتل (علي ) ظل زياد معتصما بفارس التي تدين له بالولاء ، رافضا البيعة لمعاوية . فاستدعي معاوية الداهية المغيرة بن شعبة وقال له عن زياد ( داهية العرب معه اموال فارس يدير الحيل ، ما يؤمنني ان يبايع لرجل من اهل هذا البيت ( بيت علي ) فاذا هو اعاد الحرب جذعة) فذهب المغيرة الي زياد ، وبعد مباحثات انضم زياد الي معاوية مقابل ان يلحق معاوية زيادا بنسب ابيه ، ويصير أخا لمعاوية يكون اسمه الرسمي زياد بن ابي سفيان .
6 ـ من أجله عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة وولاها زيادًا ، ثم .‏جعله معاوية أمير المصرين ( الكوفة و البصرة ) أى العراق وما يتبعه شرقا ، وكانت ولايته خمس سنين ، وتوفي فى عصر معاوية بالكوفة في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين.

ونتوقف مع المحطات الهامة فى تاريخ زياد :
ثانيا : استلحاق زياد بنسب أبى سفيان:
• الظروف السياسية للاستلحاق :
1 ـ كان (على ) فى العراق يواجه غريمه معاوية فى دمشق ، ومصر كانت تابعة لعلى ، أى حوصر معاوية فى الشام بين العراق شرقا ومصر وشمال أفريقيا غربا .
وعمل معاوية كل الحيل ليفسد الأمر على ( على ) فى مصر ، فاستطاع بالحيلة أن يوقع بين (على ) وواليه القوى على (مصر ) وهو قيس بن سعد ابن عبادة ، ونجحت مكيدة معاوية فعزل (على ) الوالى القوى فى مصر ( قيس بن سعد بن عبادة ) عن مصر ، وولى مكانه شابا متهورا هو محمد ابن أبى بكر . وظهر ضعف محمد بن أبى بكر فى مصر وعجزه وسوء تصرفه فعزله (على ) وأرسل واليا عليها ، أحد قواده الكبار وهو الأشتر النخعى بطل معركة صفين .
وعلم معاوية بتعيين الأشتر عن طريق جواسيسه، فأحسّ بالخطر ،فكان لا بد من الحيلولة بين الأشتر والوصول لمصر ، ولذا تمكن معاوية من استمالة صاحب الخراج على مصر التابع لعلى ، واستطاع هذا الرجل ـ وهو فى (القلزم ـ السويس ) أن يستضيف الأشتر ، ويقتله بشرب عسل مسموم . وجاءت الأخبار لمعاوية ، ومعه عمرو بن العاص ، فقالا فى التندر على اغتيال الأشتر (أن لله جنودا من العسل) .
اضطر على الى الابقاء على واليه ( محمد بن أبى بكر)، واليا على مصر .
2 ـ وكان محمد هذا ابنا لأبى بكر الصديق ولكن نشأ فى كنف (على ) بعد أن تزوج (على) أمه بعد وفاة أبى بكر . وتعصب محمد بن أبى بكر لزوج أمه (على ) فكان من قادة الثوار على (عثمان ). وهناك روايات تؤكد أنه شارك فى قتل عثمان، وروايات تقول إنه تراجع عن طعنه عندما استرحمه عثمان . ولكن المؤكد فى كل الروايات أن محمدا بن أبى بكر كان من قادة المحاصرين لعثمان فى بيته ومن أوائل من اقتحم بيته ، مما جعله على قائمة المطلوبين للأمويين .
وجاء الابقاء على تعيين محمد بن أبى بكر على مصر فرصة نادرة لمعاوية ، ليس فقط لرعونة محمد بن أبى بكر وطيشه وخفته بما يسهل لمعاوية الاستيلاء على مصر وما يتبعها من شمال أفريقيا ، ولكن أيضا لأنها فرصة يشفى غليله من محمد بن أبى بكر بسبب موقفه من عثمان .
وكان معاوية قد عقد اتفاقا مع عمرو بن العاص على أن يستخلص مصر له من قبضة (على ) مقابل أن تكون مصر (طعمة ) خالصة لعمرو ،أى أن يستحوذ عمرو على ايرادات مصر لصالحه ولا يدفع منها شيئا لمعاوية ،لأن كل ما يريده معاوية هو تأمين ظهره باسترداد مصر ليواجه عليا بن أبى طالب فى العراق وفارس.
وبهذا أعاد عمرو بن العاص فتح مصر لصالح معاوية ، وانهزم محمد بن أبى بكر وهرب الى خرابة يعانى الجوع و العطش ، فقبضوا عليه ، وبعد قتله وضعوا جثته فى جيفة حمار وأحرقوها.وكان ذلك عام 38 هجرية.
3 ـ بضياع مصر من (على ) لم يعد له إلا العراق وفارس وكرمان ، ولكن كانت الاضطرابات مشتعلة فى فارس وكرمان تهدد مركز (على )،ولم تكن أصابع معاوية بعيدة عن تلك الاضطرابات ، لذا أسرع (على ) بتعيين زياد ابن أبيه ليضبط له فارس وكرمان ، وليحمى ظهره فى العراق .
وبعد مقتل على والتصالح بين معاوية و الحسن بن على ، واعتراف الحسن بخلافة معاوية فيما يسمى بعام الجماعة ،عام 41 ، ظل زياد على موقفه معاندا لمعاوية رافضا الدخول فى طاعته ، وقد تحصن بفارس ومعه العتاد والجنود يسمعون له ويطيعون ، ويستطيع أن يبايع لأى فرد من آل البيت ليكيد لمعاوية. لذلك كان لا بد لمعاوية أن يسترضيه بكل ما يستطيع .
كان مع زياد كل ما يريده اى انسان من الملك والجاه والمال ، ولكن كان يفتقر الى شىء واحد هو النسب ،إذ كان مجهول الأب ، وهذه نقيصة لا شأن له بها . ومن هنا كان الطلب الوحيد الذى يريده هو أن يكون له نسب شرعى رسمى عريق . وبهذا اتفق على استلحاق زياد بأبى سفيان بعد موت أبى سفيان .
مفاوضات الاستلحاق :
1 ـ والروايات متضاربة ومتداخلة فى موضوع المفاوضات بين زياد ومعاوية والتى أنتهت الى استلحاق زياد بأبى سفيان .
والذى يتسق منها مع الأحداث أن معاوية هو الذى بدأ الاتصال السرى بزياد فى حياة وخلافة (على ) حيث كان يرسل اليه الرسائل لافساده على (على ) ، فلما فشل ارسل اليه يعرض عليه أن يلحقه بنسب أبى سفيان ، فأرسل زياد بالرسالة الى على ، فكتب إليه علي‏:‏ ‏"‏ إنما وليتك ما وليتك‏.‏ وأنت أهل لذلك عندي ولن تدرك ما تريد مما أنت فيه إلا بالصبر واليقين . وإنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر لا تستحق بها نسباً ولا ميراثاً‏.‏ وإن معاوية يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه فاحذره ثم احذره‏.‏ والسلام ‏"‏‏.‏ وفى هذا الخطاب اعتراف من (على ) بأنه سمع من أبى سفيان أنه والد زياد ، لذا تقول الرواية : ( فلما قرأ زياد الكتاب قال‏:‏ شهد لي أبو الحسن ورب الكعبة‏.‏) ومن وقتها صار الأمل لدى زياد فى الاستلحاق .لهذا بعد مقتل على تمهد الطريق للمفاوضات والتى قادها المغيرة بن أبى شعبة ممثلا لمعاوية .
2 ـ وسبقت المفاوضات حركات عدائية من جانب معاوية لجس النبض ولحث زياد المتحصن فى فارس لكى يلتفت لمعاوية ويتحاور معه . اتخذ معاوية من أقارب زياد فى العراق رهينة يعتقلهم ويعذبهم، وتتبع أموال زياد التى استودعها أصحابه فى العراق ليضغط على زياد .وكان المغيرة بن أبى شعبة هو مخلب معاوية فى هذه السياسة لأنه كان والى العراق وقتها .
وأتت تلك السياسة أكلها فمهدت الظروف لمفاوضات الاستلحاق ..
3 ـ جاء المغيرة الى قلعة زياد فى فارس ليفاوضه فى الانضمام الى معاوية . تقول الرواية : (فأتاه المغيرة وقال له‏:‏ إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثني إليك، ولم يكن أحد يمد يده إلى هذا الأمر غير الحسن وقد بايع ، فخذ لنفسك قبل التوطين فيستغني معاوية عنك‏.‏ ) أى بدأ المغيرة بالاشادة بزياد بأن معاوية قد بلغ به الخوف من زياد الى درجة أنه بعث بالمغيرة اليه لينضم اليه ، ثم يدخل فى النصيحة لزياد بأنه طالما بايع الحسن بن على لمعاوية فلم يبق لزياد سوى أن يبايع هو الآخر . وبعد النصح يأتى التهديد المبطن لزياد بأن يسرع فى الخضوع لمعاوية قبل ان يوطد معاوية ملكه ولا يصير فى حاجة لزياد ، وبالتالى يكون خصما له بلا مستقبل . ورد عليه زياد : ( أشر علي وارم الغرض الأقصى فإن المستشار مؤتمن‏.‏) هنا نرى زيادا يجعل المغيرة مستشارا له ، ويطلب منه الدخول مباشرة فى الموضوع (بلا لف ولا دوران ) يعنى (هات م الآخر )، (فقال له المغيرة‏:‏ أرى أن تصل حبلك بحبله وتشخص إليه ويقضي الله‏.‏)
وصل الحبل بالحبل جملة مجازية تحتمل الكثير من المعانى ، من بينها الاستلحاق . أى توالت المحادثات لتحدد المطلوب ولتضع النقاط فوق الحروف . وانتهت المفاوضات بالاتفاق ، تقول الرواية :(وكتب إليه معاوية بأمانه بعد عود المغيرة عنه‏.‏ )(واستأذنه في نزول الكوفة فأذن له فكان المغيرة يكرمه ويعظمه‏.‏ )
تنفيذ الاستلحاق :
وفى عام 42 تم الاستلحاق .
وعقد معاوية مجلسا أحضر اليه وجوه الناس ، وأحضر من يشهد لزياد ، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي. ..(.. فقال له معاوية‏:‏ بم تشهد يا أبا مريم فقال‏:‏ أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغيًا ، فقلت له‏:‏ ليس عندي إلا سمية، فقال‏:‏ إيتني بها على قذرها ووضرها ، فأتيته بها ، فخلا معها ، ثم خرجت من عنده ، وإن إسكتيها لتقطران منيًا‏ . فقال له زياد‏:‏ مهلًا أبا مريم‏!‏ إنما بعثت شاهدًا ولم تبعث شاتمًا‏.‏ )
وهناك روايات تتفق مع هذا المضمون ولكنها أكثر بذاءة فأعرضنا عنها .
ردود فعل للاستلحاق :
1 ـ احتجاج بنى أمية :
1 / 1 وكان من الطبيعى أن يحتج بنو أمية على معاوية أن يدخل فى نسبهم العريق زيادا . تقول الرواية : (ولما ادعى معاوية زياداً دخل عليه بنو أمية ، وفيهم عبد الرحمن بن الحكم ، فقال له‏:‏ يا معاوية لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلة وذلة ؟!، فأقبل معاوية على مروان وقال‏:‏ أخرج عنا هذا الخليع ‏.‏)
ونسبوا شعرا لعبد الرحمن بن الحكم فى الهجوم على معاوية بسبب ذلك الاستلحاق ، وسنتعرض لهذا فى حينه .
1 / 2 ـ وحين وفد زياد الى معاوية ، أرسل زياد أحد أتباعه ليتحسس رد فعل ابن عامر أحد كبار الأمويين ، ومن ولاة معاوية . وكان رسول زياد صديقا قديما لابن عامر ، لذا انطلق ابن عامر فى سب زياد أمامه فقال : ( هيه هيه‏!‏ ..ابن سمية يقبح آثاري ويعرض بعمالي‏!‏ لقد هممت أن آتي بقسامةٍ من قريش يحلفون بالله أن أبا سفيان لم ير سمية‏.‏) ونقل زياد هذا الحديث لمعاوية ، فقال معاوية لحاجبه‏ :‏ إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب‏.‏ ففعل ذلك به‏.‏ فأتى ابن عامر يزيد بن معاوية فشكا ذلك إليه ، فركب معه حتى أدخله الى مجلس أبيه معاوية ، فلما رآه معاوية قام غاضبا تاركا المجلس ، فاضطرب ابن عامر فهدأه يزيد ، فلما أطالا فى الجلوس خرج عليهما معاوية وهو يتمثل بقول الشاعر ‏:‏
لنا سباقٌ ولكم سباق قد علمت ذلكم الرفاق
ثم قعد فقال‏:‏ يا ابن عامر أنت القائل في زياد ما قلت ؟ أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية وأن الإسلام لم يزدني إلا عزًا، وأني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزز به من ذلة ، ولكن عرفت حقًا له فوضعته موضعه‏.‏ فقال‏ ابن عامر :‏ يا أمير المؤمنين نرجع إلى ما يحب زياد‏.‏قال‏:‏ إذًا نرجع إلى ما تحب‏.‏ فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه‏.‏ )
وهكذا اشتد معاوية على قومه ليرتضوا زيادا فى نسبهم ، دون أن يصرح لهم بالغرض السياسى من هذا الاستلحاق .
وكى يجعل معاويه أهله بنى أميه يعترفون بالأمر الواقع وكى يؤكد استلحاق زياد بالنسب الأموى فقد قام معاوية بتزوج ابنته لابن زياد ، وهو محمد بن زياد .
2 ـ الهجوم بالهجاء الشعرى على الاستلحاق:
2 / 1 ـ أشهر الأبيات التى هاجمت معاوية بسبب الاستلحاق هى :
ألا أبلغ معاوية بن صخر فقد ضاقت بما تأتي اليدان
أتغضب أن يقال أبوك عف وترضي أن يقال أبوك زان
فأشهد أن رحمك من زياد كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها حملت زياداً وصخر من سمية غير دان .
2 / 2 ـ وهناك اختلاف فى قائل هذا الشعر ، منهم من ينسبه لعبد الرحمن ابن الحكم ، ولكن الأشهر هو نسبته ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري الشاعر ، وكان مشهورا بالعداء لزياد وأسرته .
وهناك اختلاف آخر فى رواية القصيدة نفسها ، فالأبيات المنسوبة لابن مفرغ الحميرى يقول أولها‏:‏
ألا بلغ معاوية بن حرب ** مغلغلة من الرجل اليماني
وذكر الأبيات كما ذكرناها سواء‏.‏
3 ـ إختراع الشعر فى هجاء الاستلحاق
3 / 1 ـ وهذا الاختلاف فى قصيدة وحيدة مشهورة يعنى أن قصة الاستلحاق استحوذت على اهتمام القصاص فى العصرين الأموى والعباسى فى فترتى الرواية الشفهية و التدوين . ومعروف أن القصاصين ما دخلوا فى حكاية تاريخية إلا أفسدوها وجعلوا الصادق فيها محل شك ، وكذلك يفعلون .
3 / 2 ـ فهناك اشعار أخرى أقل شهرة قيلت فى هجاء الاستلحاق وأصحابه
ومنها :
شهدت بأن أمك لم تباشر أبا سفيان واضعة القناع
ولكن أمراً فيه لبس على وجل شديد وارتياع
ومنها :
إن زياداً ونافعاً وأبا بكرة عندي من أعجب العجب
هم رجال ثلاثة خلقوا في رحم أنثى وكلهم لأب
ذا قرشي كما يقول وذا مولى وهذا بزعمه عربي
ومنها :
أزياد ما للؤم عنك محول ولا لك أم في قريش ولا أب
وقل لعبيد الله مالك والد بحق ولا يدري امرؤ كنت تنسب
ومنها :
فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر هل نلت مكرمة إلا بتأمير
عاشت سمية ماعاشت وما علمت إن ابنها من قريش في الجماهير
واضح أن هذه الأشعار تم صنعها بعد عصر زياد وابنه عبيد الله بن زياد (قاتل الحسين )، فليس لها قائل محدد ، علاوة على ما فيها من ركاكة بما يدل على أن قائلها ليس شاعرا محترفا بل من اصحاب القصص وأصحاب الأخبار الذين عاشوا بعد زوال سلطان زياد وبنيه، يكيدون لهم بالروايات والأشعار . والعادة أن القصص الجيد وقتها كانت تعززه وترصعه روايات الشعر ، فإن لم يوجد فيه شعر اخترعوا له شعرا . والعادة الأسوأ أن يصير القصص المخترع المختلق المصنوع روايات تاريخية و( احاديث نبوية ) و ( أحاديث قدسية ) . (وكله عند العرب صابون )..
واختراع الشعر هو اخ شقيق لاختراع الأحاديث ، وأبوهما شيخ كبير شهير هو الافتراء .!
ووجد هذا الشيخ وولداه سوقا نافقة فى عصر التدوين الذى قام بتدوين كل الروايات الصحيح منها و المصنوع ، وهنا ندخل على جزئية خطيرة تخص موضوع الاستلحاق .
4 ـ صناعة الأحاديث
4 / 1 : تقول احدى الروايات : ( شهد لزياد رجل من البصرة ، وكان الحسن البصري يذم هذا من فعله ويقول‏:‏ استلحق زيادًا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏ الولد للفراش وللعاهر الحجر‏"‏‏.‏ ). الرواية ركيكة ، والحديث المذكور فيها (الولد للفراش وللعاهر الحجر) أكثر ركاكة وسماجة ، وهو يعنى أن ينسب الولد لصاحب الفراش ،أى الزوج . أما الزانى العاهر فله الحجر. بمعنى أن الزوج المخدوع يتم تكريمه بنسبة الطفل له حتى لو كان معروفا والده فى الحرام ، أما هذا الوالد العاهر الزانى فليس له إلا أن يلتقم حجرا .
ومع ركاكة ذلك الحديث وسماجته فهو يخالف القرآن الكريم ، وذلك ما سنعرض له فيما بعد .
ولكن المهم الآن أن حديث ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) تمت صناعته بسبب قصة الاستلحاق ، وتأسست شهرته فى كتب الفقه السنى بعدها ضمن شريعة الدين السّنى. هذا مع أنه فى هذه الرواية منسوب للحسن البصرى ، وهو أحد شيوخ التابعين فى العصر الأموى ، يعنى لم يعش ولم ير النبى محمدا عليه السلام فكيف يروى عنه مباشرة ؟ هذا على فرض أن الحسن البصرى قال ذلك فعلا ، ولم يختلقوا تلك الرواية عنه بعد موته .. وهذا هو الأقرب للتصديق .
ومع ذلك فلم يكن الحديث الوحيد المصنوع فى هذا السياق.
4 / 2 : تقول رواية أخرى : ( ...وأخبرنا ابن الحصين قال‏:‏ أخبرنا ابن المذهب قال‏:‏ أخبرنا أحمد ابن جعفر قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حدثنا هشيم قال‏:‏ حدَّثنا خالد الحذاء عن أبي عثمان قال‏:‏ لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة فقلت‏:‏ ما هذا الذي صنعتم إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول‏:‏ سمع أذني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ ‏"‏ من ادعى أبًا في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ‏"‏ فقال أبو بكرة‏:‏ وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم) . هذه الرواية تمت كتابتها فى العصر العباسى الثانى حسب ترتيب رواتها من ابن جعفر الى ابن احمد بن حنبل ، أى بينها وبين زياد واستلحاق زياد أكثر من مائتى عام . أى ظلت قضية الاستلحاق مشتعلة حتى عصر الحنابلة . لا رضى الله تعالى عنهم .
5 : جدل فقهى فى الاستلحاق
5 / 1 ـ ويقول المؤرخ ابن الأثير صاحب (الكامل ) فى التاريخ بعد تلك الرواية : ( وكان استلحاقه أول ما ردت أحكام الشريعة علانيةً فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر‏.‏وكتب زياد إلى عائشة‏:‏ من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب له‏:‏ إلى زياد بن أبي سفيان فيحتج بذلك ، فكتبت‏:‏ من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد‏.‏ وعظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني أمية خاصة وجرى أقاصيص يطول بذكرها الكتاب فأضربنا عنها‏.‏ )
وابن الأثير امتاز بأسبقيته كمؤرخ فى نقد الروايات واختيار ما يراه صحيحا منها ، ولذلك قام باختيار ما يراه صحيحا من روايات الطبرى المتعددة فى الحدث التاريخى الواحد .
ومع ذلك لم تخل روايات ابن الأثير من التناقض ، علاوة على التقديم والتأخير والاختلاف فى سنوات الأحداث .
وكالطبرى كان ابن الأثير كان من أئمة الحديث والتاريخ معا ، وهو فى روايته السابقة يؤكد على حديث (الولد للفراش وللعاهر الحجر )، ولكنه يعترف بالتأثير الكبير لموضوع الاستلحاق ، وكيف تجلى هذا التأثير فى صناعة أقاصيص كثيرة يطول بذكرها الكتاب فأضرب عن ذكرها .
5 / 2 ـ وطبقا لمنهجه فى الانتقاء فقد ذكر بعض تلك الأقاصيص ورآها صحيحة ، ومنها عدم اعتراف السيدة عائشة بالاستلحاق : (‏.‏وكتب زياد إلى عائشة‏:‏ من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب له‏:‏ إلى زياد بن أبي سفيان فيحتج بذلك فكتبت‏:‏ من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد ) .
وعززها برواية أخرى : (قيل‏:‏ أراد زياد أن يحج بعد أن استلحقه معاوية ، فسمع أخوه أبو بكرة ، وكان مهاجرًا له من حين خالفه في الشهادة بالزنا على المغيرة بن شعبة ، فلما سمع بحجه جاء إلى بيته وأخذ ابنًا له ، وقال له‏:‏ يا بني قل لأبيك إنني سمعت أنك تريد الحج ولابد من قدومك إلى المدينة ولاشك أن تطلب الاجتماع بأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن أذنت لك فأعظم به خزيًا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن منعتك فأعظم به فضيحة في الدنيا وتكذيبًا لأعدائك‏.‏فترك زياد الحج وقال‏:‏ جزاك الله خيرًا فقد أبلغت في النصح‏.‏ ).
وهذه الرواية يغلب في وضعها إفتراض فقهى على عادة الفقهاء فى تصور وافتراض صور فقهية يصدرون بشأنها حكما فقهيا .فإن كان معاوية قد الحق زيادا بنسبه فأصبح أخاه من أبى سفيان ،فبالتالى يكون زياد أخا لأم المؤمنين أم حبيبة زوج النبى محمد عليه السلام لأنها بنت أبى سفيان، فهل يصح لزياد بناء على هذا الاستلحاق أن يقابل السيدة أم حبيبة (أخته )؟
وتأتى الاجابة فى قصة تقول إن أخاه من أمه ( أبا بكرة ) قد نصحه ألا يحج حتى لا يتعرض لمأزق مقابلته لها . وهناك صيغ مختلفة لتلك الرواية ، وروايات أخرى تزعم أنه قام بالحج وطلب مقابلتها فرفضت .
5 / 3 ـ ولا أعتقد أن أيا منها كان صحيحا . هو فقط تعبير عن جدل فقهى لاحق فى العصر العباسى تم التعبير فيه ليس بالحجة الفقهية ولكن بتأليف الروايات ، لذا تناقضت الروايات تبعا لاختلاف المتجادلين.
فالسياق التاريخى لا يرحج صدق هذه الروايات .
فسرعان ما تولى زياد الحكم وانشغل به ، ولم يكن يهمه أحد فى الحجاز ، كل ما يهمه هو موقف أهله الجدد من الأمويين ، وقد أغلظ لهم معاوية على غير عادته فى الحلم والنفاق حت رضوا بالوافد الجديد، وبذلك لم يكن هناك متسع أمام زياد إلا أن ينفذ سياسة معاوية فى حكم العراق وفارس وكرمان بالحديد والنار. وفى مشاكل العراق ومتاعب المعارضة فيه ما يشغل زياد ، وفعلا فقد انشغل به زياد الى آخر لحظة من حياته. .
5 / 4 ـ على أن الجدل فى موضوع الاستلحاق قد تطور وتطرف الى أن أوجد مدافعين عن معاوية والاستلحاق . يقول مؤرخنا ابن الأثير ينقل وجهة نظرأولئك المدافعين : ( ومن اعتذر لمعاوية قال‏:‏ إنما استلحق معاوية زيادًا لأن أنكحة الجاهلية كانت أنواعًا لا حاجة إلى ذكر جميعها ، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح ، إلا أنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه ، ولم يفرق بين شيء منها ، فتوهم معاوية أن ذلك جائز له ولم يفرق بين استلحاق في الجاهلية والإسلام . ) .
ويرد ابن الأثير عليهم فيقول : (وهذا مردود لاتفاق المسلمين على إنكاره ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة‏.‏ ).
وقول ابن الأثير يستحق القهقهة بصوت عال ، فهو يقول (وهذا مردود لاتفاق المسلمين على إنكاره ) فلو كان المسلمون متفقين على إنكاره فهل أولئك المدافعين عن معاوية من أستراليا أم من نفس المسلمين ؟ ويقول : (ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة ) فهل يكون كل حكم جديد باطلا لمجرد أنه جديد لم يعرفه ولم يطبقه السابقون ؟ .
6 ـ ونأتى لرأينا فى الاستلحاق :
6 / 1 . لو استلحقه ابوسفيان فى حياته ما كانت هناك مشكلة . المشكلة فى أن الاستلحاق حدث بعد موت مرتكب الجريمة أبى سفيان، والقائم بهذا الاستلحاق هو معاوية ابنه ، وقد استشهد فيه بالشهود . وبشهادتهم تم العلم بأن أبا سفيان هو الأب المجهول لزياد ابن ابيه. بعدها اصبح من حق زياد أن ينتسب (لأبيه ) أبى سفيان ، طالما تم العلم بالأب وفق ظروف العصر . وهذا جائز شرعا فى رأينا .
6 / 2 : وهنا نستعير بعضا مما كتبناه فى قضية استلحاق بنت هند الحناوى بابيها احمد الفيشاوى حين رفض الاعتراف بها : قلت :
(الفيصل هنا هو كتاب الله تعالى ، يقول تعالى ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله. فان لم تعلموا آباءهم فاخوانكم فى الدين ومواليكم. ) ألأحزاب 5 "
ونستخلص من الآية الكريمة الأحكام التالية :
ِأ ـ ان المجتمع هو المخاطب فى هذه الآية التى تخاطب جموع المسلمين قائلة ( ادعوهم ) ، وينصب الخطاب بالطبع على المختصين بالتشريع والتقنين والقضاء ، أى أولو ألأمر الذين يمثلون المجتمع. عليهم الحاق الأطفال بنسب الأب اذا كان الأب معروفا . الأب ليس مخاطبا هنا وانما المجتمع.
ب ـ ان لم يكن الأب معروفا فيكون المولود أخا فى الدين وجزءا من المجتمع.
ج ـ اثبات نسب المولود لأبيه هو الأقسط والأعدل عند الله تعالى ، لأن من حق المولود أن يرث والده وان يتمتع بكل حقوق البنوة وكل حنان الأبوة ورعاية الأسرة. وحرمانه من تلك الحقوق ظلم لا يرضاه الله تعالى، وأفظع الظلم أن يكون المظلوم طفلا بريئا لا ذنب له .
3ـ ولكن كيف للمجتمع أن " يعلم " أن هذا الطفل من هذا الرجل ؟
مفهوم الآية الكريمة أنها تخاطب المجتمع بأن ينسب الطفل الى أبيه اذا كان الأب معلوما للمجتمع فان لم يكن الأب معلوما فالطفل أخ فى الدين للجميع.
موضوع " العلم " يستحق وقفة . حين نزلت الآية كان علم المجتمع الصريح والضمنى هو المقياس. وكانت الجاهلية تعرف أنواعا مختلفة من الزواج مثل الجمع بين الأختين وزواج من سبق وتزوجها الأب ، وزواج الأم من الرضاعة والأخت من الرضاعة. وهذه الزيجات حرمها الله تعالى ، ولكن أقرّ القرآن ما نتج عن هذه الزيجات من أطفال طبقا لاعتراف المجتمع بهم.
أكثر من ذلك عرفت الجاهلية علاقات غير شرعية مثل السفاح وزواج الأخدان أى العشيقات ، وقد اعتبرهما القرآن زنا ، ولكن أقرّ القرآن الأنساب التى جاءت طبقا لتلك العلاقات غير الشرعية.
والمشهور فى تاريخ المسلمين أن الصحابى عمرو بن العاص جاء ولدا من الزنا ونسب لأحد المترددين على أمه وكانت احدى البغايا . وحمل عمرو نسب أبيه العاص الذى اختارته له أمه من بين عشاقها الكثيرين ، واعترف المجتمع بهذا النسب ، ونزل القرآن فأقرّ كل الأنساب كما هى ومنها نسب عمرو بن العاص.
أكثر من هذا نزل الذكر الحكيم من الله تعالى الذى يعلم الغيوب ليؤكد ان بعض أعداء النبى محمدا هو ولد زنا ، وقد أسلم ابن لهذا الرجل وصار من مشاهير الصحابة ، ولا يزال يحمل نسب والده المزعوم ، لقد قال تعالى عن ذلك العدو الأثيم "( عتل بعد ذلك زنيم ) ( القلم 13 ) جاء فى تفسير الجلالين شرحا لكلمتى (عتل ) ( زنيم ) أى : ّ" غَلِيظ جَافٍ "بَعْد ذَلِكَ زَنِيم" دُعِيَ فِي قُرَيْش وَهُوَ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة ادَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْد ثَمَانِي عَشْرَة سَنَة ) الوليد بن المغيرة هو والد خالد بن الوليد.
ويرى القرطبى انها نزلت فى الأخنس بن شريق ، يقول القرطبى : (وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَس بْن شَرِيق , لِأَنَّهُ حَلِيف مُلْحَق فِي بَنِي زُهْرَة , فَلِذَلِكَ سُمِّيَ زَنِيمًا . .. . وَقَالَ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ : إِنَّمَا اِدَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْد ثَمَانِي عَشْرَة سَنَة. ) وكل من خالد والأخنس يحمل سلسلة نسب أبيه الى النهاية.
المهم ان النسب لم يتغير فى تلك الحالة حتى مع وجود نص على ثبوت الزنا، فطالما اعترف المجتمع وعلم بالنسب وأقرّه فيكون النسب معترفا به.
الأهم ان علم المجتمع بصحة النسب لم تكن يقينية ، بل اقترن بعضها بحق الاهى يقينى يثبت أن الأب نفسه كان " زنيما " او كان الطفل ثمرة لعلاقة زنا من امرأة محترفة تنسب الابن لمن تشاء من عشاقها . ومع ذلك أقّرّ المجتمع ذلك النسب ، فأقرّه الاسلام ، والدليل ان جميع كتب التراث التى تتعرض لتاريخ الصحابة تذكر نسب كل صحابى الى أصل قبيلته وفق المتعارف عليه من نسبه الجاهلى . ونعلم عناية العرب بانسابهم ، وتفاخرهم به برغم انها كلها تدخل ضمن الحقائق النسبية التى تحتمل الصدق والكذب. فالحقيقة الأساسية هنا هى ثبوت النسب ضمن المتاح من علم المجتمع مهما لحقه الشك.
نقرأ الآية مرة أخرى ، يقول تعالى : ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله. فان لم تعلموا آباءهم فاخوانكم فى الدين ومواليكم. ) ألأحزاب 5 " تكملة الآية تقول : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما. "
آخر سطر :
نعود الى بداية الموضوع .
لقد شهد هذا العصر ستة أشخاص من كبار دهاة العالم قل أن يجتمع أمثالهم معا ، وهم معاوية وعمرو بن العاص ومروان بن الحكم وزياد بن أبيه والمغيرة بن أبى شعبة . وهم معا أسس تشييد ملك معاوية . ويضاف اليهم داهية آخر هو عبد الله بن عباس . وقد أسهم بطريق غير مباشر فى تأسيس الاستبداد الأموى .
هؤلاء الستة هم بالفعل ( نصف دستة أشرار ) ، منهم واحد مشهور بالزنا مع زواجه بأربعة نساء وتملكه العديد من الجوارى ، إنه المغيرة بن أبى شعبة . ومنهم إثنان كل منهما أمه عاهرة محترفة،هما زياد بن أبيه وعمرو ابن العاص.
ما قولكم ؟ دام فضلكم ؟

اجمالي القراءات 22145