وقائع مباراة مصر وإسرائيل

نبيل شرف الدين في الإثنين ٢٣ - نوفمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

على سبيل الفنتازيا، دعونا نتخيل أن «المباراة الأزمة» بين منتخبى مصر والجزائر، كانت مع فريق إسرائيل على استاد تل أبيب، وأراهن بما تبقى من عمرى، على أن توابعها لن تكون أسوأ مما حدث للمصريين على يد أشقاء فى العروبة والإسلام، وعلى أرض السودان الذى كان ذات يوم قريب جزءاً منا.

والسبب، ببساطة، أن الأمن الإسرائيلى مدرب على التعامل مع أحداث العنف ونحن بالتأكيد لا نتهم الأشقاء السودانيين بشبشىء، إذ انفلت الأمر منهم لأنهم معذورون، فالشعب السودانى سمح لا يميل للعنف.

من جهة أخرى فإن المشجعين الإسرائيليين لن يكونوا أكثر عدوانية ووقاحة من سلوك مشجعى الجزائر، بل على العكس، وأراهن مرة أخرى بما تبقى فى رأسى من شعيرات، على أن المصريين كانوا سيستقبلون بكل مودة وأريحية، ولن يسمع مصرى فى إسرائيل مجرد لفظ يخدش مشاعره، أو يتعرض لسلوك يؤذيه، خلافاً للأحجار التى رشقنا بها جمهور الجزائر رغم فوز فريقه.

وقطعاً للطريق على المزايدين من «دراويش العروبة»، فهذه المقارنة الافتراضية ليست تصيداً فى الماء العكر، بل لتأكيد صحة مواقف مريرة بدا فيها من يتشبث بمصريته، كأنه مطعون فى وطنيته و«بعيد عنكم» عروبته المزعومة. فأى أخوة هذه التى تجعل حصول المصرى على تأشيرة أمريكا أسهل من دبى أو الكويت، ويحصل معها المرء على جنسية أوروبية لو عاش هناك بضع سنوات، بينما لن يحلم بها حتى لو أفنى عمره فى معظم الدول العربية.

دعونا نعترف، ببساطة، ودون انفعالات عاطفية، بأن المسألة أبعد من مباراة كرة، بل تمتد لسؤال الهوية، ودائماً كنت أحتمل عشرات الشتائم والسخائم، حين كنت أؤكد أن هويتنا المصرية هى الأقدم والأعرق والأكثر تحضراً فى المنطقة، فلماذا نتسول إذن هويات الآخرين؟.

نحن كنا هنا على ضفاف النيل منذ فجر التاريخ، وللمصريين «كود نفسى»، لا يجيد معظم الأعراب قراءته واستيعابه، فالمصرى مثلاً عاطفى بامتياز، يغضب ويصفو كالنسمة، ويكرم ضيفه ولو كان فقيراً يجد قوت يومه بالكاد، حتى العادات البغيضة كالثأر، فهى نتيجة للتغيير الديمجرافى الذى حدث للصعيد منذ استوطنته قبائل بدوية عبر قرون، فنقلوا هذه العادة من أسطورة «العنقاء» الشهيرة.. التى لا ترتوى إلا بدماء الخصم.

حين كنا «المملكة المصرية»، كان كل عربى من مشرقها ومغربها يحلم بزيارة القاهرة، وكانت سيداتهم تقلدن أمهاتنا فى الملبس والذوق العام، وحين أصبحنا «الجمهورية العربية المتحدة»، وألغينا اسم مصر من أوراقنا وليس من وجداننا مُنيت المحروسة بواحدة من أسوأ الهزائم التى كسرتنا جميعاً عام ١٩٦٧، أما عندما أصبحنا «جمهورية مصر العربية»، فلم تكن أكثر من محاولة تلفيقية بائسة، حولتنا إلى «ملطشة للى يسوى واللى مايسواش»،

 فتارة يقتل جنودنا بيد الفلسطينيين فى رفح، وأخرى تدهس كرامتنا فى دول الخليج، وثالثة نتعرض للترويع والإهانة من برابرة كرة القدم، الذين بدا واضحاً أنهم مدعومون من أجهزة رسمية جزائرية، ولم يكن الأمر مجرد تصرفات فردية لبعض الحمقى والمعتوهين، بل أقلت طائرات حربية آلاف الجزائريين المنتقين بعناية لمهمة بدت كأنها «جهادية».

حين يكون لدى المرء ما يقدمه، يحتفى به الجميع، وهكذا الأمم والدول، ونحن للأسف صرنا أحوج ما نكون لوقفة مع الذات، قبل الصديق والشقيق، لنحدد أولوياتنا فتكون مصر ومصالحها أولاً، ولكى يحدث هذا فلابد أن نتجاوز خرافة «القومية العربية»، فنحن، المصريين، لسنا أمة لقيطة حتى ننتحل هويات جيران لا يحترموننا، بل تحكمهم «عقدة الدونية» تجاهنا، فيتعمدون إهانة المصريين الذين اضطرتهم لقمة العيش للسفر شرقاً وغرباً، بعدما كنا مقصد اليونانيين والإيطاليين والأرمن وغيرهم من الشعوب المتحضرة، التى لم تزل بقايا جالياتها حية لليوم.

أرجوكم، أقبل أياديكم يا أهلى وعزوتى المصريين، أن تجربوا الرهان على أنفسكم مرة واحدة، وأن تثقوا بأنكم لستم فقط «خير أجناد الأرض»، بل خير صنّاع الحياة من زراع وصنّاع وأدباء وفنانين وغيرهم، صدقونى مستقبلنا ليس مع المشرق العربى ولا المغرب، بل مع العالم المتحضر هناك فى الغرب، كما فعل محمد على باشا وأولاده، حينما وضعوا باريس وروما ولندن نصب عيونهم، وابتعثوا إليها المصريين.

هذا البلد لم يكن عنصرياً أبداً، فبين المصريين ستجد ملايين يشبهون النوبى الأسمر محمد منير وآخرين كالأشقر القوقازى حسين فهمى، واتسع صدر مصر للشوام والمغاربة والطليان واليونان وكلشينكان فمصر فكرة.. وبستان يتسع لكل الزهور والأشواك، وعروس تمنح نفسها لمن يحبها ويستحقها، أقول هذا حتى لا يقفز مزايد فيتهمنا بالعنصرية،

 فنحن فى مصر تصدينا لتمصير اليهودية فكانت طائفة «القرائين»، وكذا تمصير المسيحية فامتلكنا براءة اختراع «الرهبنة»، كما مصرنا الإسلام فبلورنا «الدين الشعبى» الرائع، لأنه متصالح مع السنة والتصوف والحياة، والآن ينبغى علينا أن نكف عن إعادة تدوير نفايات الآخرين، سواء كانت قطع غيار من نوعية «استعمال الخارج»، أو الأفكار التى لفظتها بيئتها الأصلية كالسلفية الجهادية، والقومية وهى النسخة العربية من النازية، فنعيد إنتاجها فى مصر.. التى أحسب أنها تستحق أبناء أفضل.

 

اجمالي القراءات 13040