حين يصبح المرض وصمة.. وتهمة (1/2)

نبيل شرف الدين في الثلاثاء ٠٣ - نوفمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

لأسباب محض قدرية دهمتني فجأة دون مقدمات أعراض الاشتباه بالإصابة بفيروس (A/H1N1)، وكان أول ما فكرت به هو الاتصال بالرقم الهاتفي، الذي خصصته وزارة الصحة المصرية، وبعد محاولات متكررة رد الموظف أخيراً، فشرحت له الأعراض التي أعاني منها، فنصحني بتناول مضاد حيوي والراحة بالمنزل، فقلت له إن معلوماتي حول الفيروس أنه يمكن محاصرته إذا ما اكتشف مبكراً وكشفت له عن هويتي الصحافية مؤكداً أنني لا أتحدث عن "أنفلونزا موسمية" إنما عن تلك الوبائية الجديدة، فرد الموظف ب&Ccedicedil;ستخفاف وسخرية قائلاً: "ما دمت صحفي وعلى راسك ريشة روح مستشفى الحميات"، ولم يشأ الاستطراد في مزيد من المناقشات، بل أغلق الهاتف في وجهي بمنتهى السخف.
إذن لنتصرف بطريقة عملية، استعنت بصديق يعمل في جهة متنفذة ليصطحبني للمستشفى المذكور، وهذه بالمناسبة سيئة السمعة، ويعلم الشعب المصري كله أن "الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود"، فلا ضوابط رقابية جادة، ولا معاملة آدمية، ولا إمكانيات تفي بأبسط احتياجات علاج المرضى ناهيك عن تلال القمامة التي تحيط بالمستشفى في كل مكان، والمخلفات الطبية التي تشكل مخاطر بالغة، لأنها بالتأكيد تحتوي على ميكروبات وفيروسات من كل نوع.
ورغم عراقة المبنى التاريخي لتلك المستشفى الذي كان ذات يوم ثكنة لقوات الاحتلال البريطاني غير أنها وكما اعترف وزير الصحة حاتم الجبلي في تصريح شهير له أصبحت "زبالة"، ولا أفهم إذا كان الاعتراف بالجرم يعفي الوزير من المساءلة، وماذا فعل معاليه ليغير الحال وينتشلها من "الزبالة" لتكون مؤهلة لاستقبال آلاف الحالات من المرضى والمشتبه بإصابتهم، ومن يمكن أن يتدارك هذه الأوضاع السلبية خلافاً للوزير، هل ننتظر أيضاً تدخل رئيس الجمهورية شخصياً كما يحدث في كل الكوارث والأخطاء التي أرى أنها تستوجب محاكمة كل المسؤولين عن هذا التدهور الذي لا يعني سوى الاستهتار بصحة الناس.
المشهد داخل أروقة المستشفى يشبه ما يجري في كافة المستشفيات التابعة لوزارة الصحة، مرضى يجلسون على الأرض، ومرافقوهم يفترشون الحديقة، وممرضات بدينات يشبهن "أمنا الغولة" يمارسن الابتزاز على المرضى الفقراء الذين اضطرتهم محنة المرض للذهاب لهذا المكان المسمى على سبيل الخطأ "مستشفى" ويصفه الوزير المسؤول بأنه "مزبلة"، ويسخر منه المصريون كعادتهم حتى في أحلك الظروف بتسميته "مش تشفى"، وأطباء يتعاملون مع المرضى بمنتهى الاستعلاء والإهمال، شأن ملايين الموظفين المنسحقين والمغلوبين على أمرهم، يجمع بعضهم نزاهته المبعثرة في الممرات، ويخلع عمره، راية للاستسلام للخيبات والمرارات، وينام عاريا على الأرض ترقباً لوهم الترقي في الدرجة الوظيفية، وانتظار الراتب التقاعدي بعد عمر طويل، فالموظف في مصر يكاد يكون الفريد من نوعه ـ على حد علمي ـ الذي يعمل منذ مطلع حياته على أمل التقاعد، ويسعى للوظيفة الحكومية لأنها تؤمن هذا الأمل البعيد.
بالطبع لا يتطلب الأمر كثيراً من الذكاء ولا العناء لندرك أن أبرز أسباب ذلك الوضع البائس ترجع لإحساس هؤلاء الأطباء والممرضات وبقية العاملين في تلك المشافي بالغبن لضآلة رواتبهم قياساً بزملائهم في مواقع أخرى، رغم خطورة عملهم في التعامل اليومي مع أخطر الأوبئة، لدرجة أن كل ما يتقاضاه الطبيب تحت بند "مخاطر العدوى" لا يزيد عن عشرين جنيهاً مصرياً، أي أقل من أربعة دولارات أميركية شهرياً، وفي ظل هذه الظروف الضاغطة، وتدني مستوى دخلهم، مع كثافة مهامهم وقسوة ظروفهم، فلماذا نتوقع منهم بعد كل ذلك أن يكونوا قديسين، أو من أولياء الله الصالحين؟
المهم طلبت أخذ "عينة" لتحليلها، ففوجئت بأنهم يعاملونني باعتباري متهماً بالاشتباه بالمرض، ولولا تدخل صديقي بقوة لاحتجزوني في عنبر بالغ القذارة به عشرات المرضى، وعافانا الله وإياكم يعانون "توليفة" من أسوأ أنواع الأوبئة وهو ما يعني أن من سيدخله بمجرد اشتباه سيخرج بحزمة أمراض كفيلة بالقضاء على ديناصور، ناهيك عن تلال القمامة التي تحاصر المستشفى، والحراسات المشددة التي تجعل المرء يظن أنه أمام ثكنة عسكرية، وليست مجرد مستشفى حكومي.

على عتبات الوجد
انتزعني صديقي من "غيلان الحميات" بأعجوبة وعدت للمنزل لأتدبر حالي، وما لا يعرفه كثيرون أن الحكومة المصرية ممثلة في وزارة الصحة تحتكر حق تحليل عينات المرضى وتحظر على كافة المختبرات الخاصة إجراء هذا التحليل، كما تحتكر أيضاً توزيع دواء "تاميفلو" فلا يسمح ببيعه في الصيدليات ومن يشتبه في إصابته ليس أمامه سوى اللجوء إلى "مستشفى الحميات"، أو غيرها من المستشفيات الحكومية في مصر، التي تعاني إهمالاً إجرامياً حولها لما يمكن وصفها بمع بمستودعات للأمراض والأوبئة وشتى صنوف المعاناة.
في الوقت الذي كنت أغادر فيه "معتقل الحميات" كانت رأسي في حالة سيولة من فرط ارتفاع درجة الحرارة، وكنت أشعر بحالة من الخدر والانسحاب تشبه تلك اللحظات التي تعقب الإفاقة من التخدير بعد إجراء الجراحات، وقد خضت هذه التجربة ثلاث مرات من قبل، وساعتها كنت أعيش حالة نادرة من التصالح مع النفس والكون جميعه، وأستمع إلى موسيقى ملائكية تتردد أصداؤها في الآفاق، وتغمر كياني بمزيج من النشوة والخشوع والطمأنينة والسلام في أكثر درجاته وضوحاً، حالة من الوجد قد يعيش المرء ويموت دون أن يجربها أكثر من مرة، تتراجع فيها كل عوارض الدنيا أمام شعور عميق بالرضا وكأني قد اقتربت من ملامسة كافة حقائق الحياة والممات، وألقيت جميع أمري بيد المهندس الأعظم صانع الوجود ومدبره.. فحينها لا يرحم العبدٌ بعد الله من أحد.
في تلك اللحظات الاستثنائية النادرة لمحت على أبواب المستشفى ريفياً يرتدي جلباباً رثاً وهو يدس نقوداً في يد حارس لا يقل رثاثة عنه، بينما كانت عصافير ملونة تغرد فوق أشجار عتيقة بحديقة المبنى ـ عذراً سيدي القارئ لا تطاوعني يدي لكتابة كلمة مستشفى أكثر من ذلك ـ وكانت أنفاسي لاهثة وأشعر بدقات قلبي متسارعة كأنها إيقاع صاخب..
ساعتها لا أدري لماذا مثلت في مخيلتي صور سياسيين ومسؤولين كبار، لست مستعداً للتورط بتسميتهم، لكنهم كانوا في تلك اللحظات المحمومة وقد أمسك بعضهم "طبلة" وراح ينقر عليها بمهارة الطبالين المحترفين المهرة، كما رأيت آخرين يمسكون الصاجات وهم يتقافزون في دوائر تتسع وتضيق، بينما كان كبارهم يلفون حول خصورهم "علم مصر" وهم يرقصون بكروشهم المتدلية، وأجسادهم المترهلة، وتصدح الأجواء كلها بنشيد عبد الوهاب الشهير أيام الناصرية والذي تقول كلماته "حرية أراضينا فوق كل الحريات.. وتاريخنا وماضينا في كتاب المجد آيات"، وتوقفت طويلاً أمام فقرة تقول كلماتها "أيامنا بطولات.. ليالينا تضحيات"، وإذا كان يمكن أن أفهم كيف "أيامنا بطولات"، فلم أستوعب كيف كانت "ليالينا تضحيات".
مازلت في قلب تلك الفنتازيا التي رأيتها حين كنت محموماً، فوسط حلبة الرقص التي يمارسها السادة الكبار، كانت هناك في جميع الاتجاهات حشود غفيرة لا حصر لها، تصفق تارة وتصفر تارات، وتهلل وتكبر أيضاً، باختصار كانت لحظة هلوسة عبقرية لعلها أجمل ما في تلك التجربة المرة، أن تقترب من الحقائق لدرجة تختزل معها كل التنظيرات والسجالات في مشاهد رمزية معبرة لا تخلو من الصدق والطرافة والإثارة معاً.
نهايته، فما حدث بعد ذلك أنني بطريقة ما ـ أنا في حلّ من الخوض في تفاصيلها ـ اتصلت بوحدة "النميرو" الأميركية في القاهرة، وبعد نحو ساعة حضرت سيارة مجهزة لمنزلي لتحصل مني على عينة هي "مسحة زور"، وبعد ساعات أبلغوني بأن نتيجة التحليل للأسف إيجابية، وأنني مصاب بالفعل بالفيروس الخطير، وأرسلوا لي الدواء ومعه كتيب إرشادي بالعربية والأنجليزية يشرح بلغة مبسطة ودقيقة كيفية التعامل مع الأمر ثم طلبوا أن أتابعهم بتطور الحالة على مدار الساعة، وبعد أيام سوف يحصلون على عينة أخرى للتحقق من القضاء على الفيروس... كل هذا بمنتهى البساطة والجدية ومن دون الاضطرار للاستعانة بصديق متنفذ، ولا الاستغاثة ببرامج "التوك شو" لعل وعسى يشاهدها مسؤول فينقذ المرضى والمظلومين، بعد أن باتت هذه البرامج "دواوين مظالم" يومية تُعبر عن آلام الناس ومظالمهم، وتنغص أمسيات المسؤولين وتقض مضاجعهم ولو لمجرد لحظات عابرة.
والله المستعان

اجمالي القراءات 9635