وظيفة القضاء بين الاسلام والمسلمين
(10 ) رفض منصب القضاء

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٨ - أكتوبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة
يمكن تلخيص الاسلام فى ثلاث كلمات ( الايمان باليوم الآخر )، ويمكن تلخيص تلك الكلمات الثلاث فى كلمة واحدة هى ( التقوى ). وشرح ذلك يطول. ولكن يمكن أيضا تلخيص الشرح فيما يخص موضوعنا هنا بأن الذى يتقى الله جل وعلا و يؤمن باليوم الاخر على حقيقته ـ أى إنه سيقف أمام الواحد القهّار جل وعلا يوم الحساب ليدافع عن نفسه وحيث تشهد عليه جوارحه وكتاب أعماله ـ لا بد أن يسير على الطريق المستقيم لا يظلم أحدا إبتغاء دنيا لن يعيش فيها طويل&Ccediacute;ا ، و يتعامل مع الناس عالما بأن مصيره الحتمى للموت ثم الحساب بين احتمال الخلود فى النعيم أواحتمال الخلود فى العذاب.
بايجاز، هناك من وجّه وجهه للدنيا أكب عليها ، وهناك من اعتدلت قامته موليا وجهه نحو ربه يرجو لقاء ربه و يتحسب لليوم الاخر ، والبشر بين هاتين الحالتين ، ولا يستوى الفريقان ، يقول رب العزة (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(الملك 22 ).
وعليه فهنا سلطان استخدم كل الوسائل والأدوات ـ ومنها الدين و الكذب على الله جل وعلا و رسوله ـ كى يصل للسلطة و ينفرد بها ، وحوله أمثاله ممن هم على شاكلته ، كل منهم أكب بوجهه على الأرض يحاول أن يستخلص كل خيرها وكنوزها و متعها لنفسه ، وفى المقابل هناك من ولى وجهه نحو ربه جل وعلا لا يعبد سواه ولا يخشى غيره ، ويرى فى الدنيا وسيلة للعمل الصالح كى يفوز فى الاخرة ، وهو فى حياته الدنيا يعمل الخير كى يتزود بزاد التقوى فى سفره الى يوم الحساب و لقاء الله جل وعلا.
الى هذا الصنف أنتمى فقهاء أفاضل رغبوا عن دنيا الحاكم المستبد الظالم ، ورفضوا العمل معه ، ودفعوا ثمن هذا الرفض ، وكان أولهم و أفضلهم الامام أباحنيفة النعمان ، الذى لم ير فى عصره مثل نفسه فى العظمة ولم يلحقه من شخصيات التاريخ من يطاوله فى قامته .
أبو حنيفة النعمان
لقد عاش ابو حنيفة فى العصرين الأموى و العباسى ، وكان فيهما إماما عالى الشأن والصيت ، ولذا أراد الوالى الأموى على العراق وهو ابن هبيرة أن يولى أبا حنيفة القضاء على الكوفة ، فرفض أبو حنيفة ، وصمم على موقفه ، فضربه ابن هبيرة مائة سوط وعشرة أسواط كل يوم عشرةفلما رآه لا يفعل تركه‏.‏ لم يكتف ابو حنيفة برفض العمل مع الدولة الأموية بل شارك فى الثورة ضدها ، ولكى ينجو منهم فقد هرب الى مكة وغيرها حيث عاش متنكرا ، ثم قامت الدولة العباسية لتحقق أمل العدل الذى كان يحلم به الفقهاء والمثقفون أمثال أبى حنيفة ، وأحاط العباسيون أبا حنيفة بالتكريم ، ولكن ما لبث أن أدرك أبو حنيفة أن الحكام الجدد على سنة الأمويين يسيرون ، فكانت محنة أبى حنيفة الثانية وهو فى شيخوخته والتى انتهت بموته مسموما فى السبعين من عمره . وكان من أسباب محنته أنه رفض تولى القضاء . يقول ابن الجوزى فى تاريخه ( ثم إن المنصور أراده على القضاء فأبى ، فحلف ( الخليفة ) ليفعلن فحلفأبو حنيفة أن لا يفعل ‏.‏ ) ( المنتظم 8 / ـ 144 وفيات 150 )
‏ومن بين الفقهاء التقليديين وعلماء الحديث نجد الحنابلة أكبر خصوم أبى حنيفة بعد موته ، وقد تسيدوا الشارع العباسى منذ القرن الثالث الهجرى الى منتصف القرن السابع الهجرى تقريبا. وقام أولئك المحدثون بتشويه تاريخ أبى حنيفة . وأبرزهم المؤرخ ابن الجوزى الحنبلى .
رواة الحديث ( خصوم أبى حنيفة) يقتنصون منقبته فى رفض القضاء
إبن الجوزى ( الحنبلى ) فى كتابه ( المنتظم ) أبرز من مزج التأريخ للحكام بالتأريخ للعلماء خصوصا علماء الحديث . ولقد تحامل فى تأريخه لأبى حنيفة ، وقام بالرد على أراء ابى حنيفة الفقهية بردود غير مقنعة تحمل الكثير من الاتهامات ، أى إن ابن الجوزى خلع رداء المؤرخ المحايد حين قام بالتأريخ لأبى حنيفة و اراتدى لباس الخصم الفقهى فاخذ يرد فقهيا فى كتابه الذى هو فى التاريخ وليس فى الفقه أو الحديث .
وفى نفس الوقت تجاهل جهاد أبى حنيفة ضد الظلم ، وأوجز فى سطور قليلة المعاناة التى عاشها أبو حنيفة بسبب مواقفه الشجاعة. وفى نفس الوقت ( أيضا ) نراه قد أسهب إبن الجوزى فى معاناة ابن حنبل فى قضية ( خلق القرآن ) ،والتى لا شأن لها بالجهاد ضد الظلم أو الوقوف دفاعا عن العدل والقسط ، وإقامة القسط هو الهدف الأسمى من ارسال الرسل وإنزال الكتب السماوية ،(الحديد 25 ). وفى نفس الوقت ( أيضا ) نرى إبن الجوزى قد صنع روايات ( نشكّ ) فى صدقيتها عن علماء حديث رفضوا منصب القضاء، ليسرق الأضواء من أبى حنيفة .
وننقل عنه بعضها :
يقول فى ترجمةعبد الله بن إدريس ( ت 192 ): (‏سمع الأعمش وأبا إسحاق الشيباني وابن جريج ومالك بن أنس وشعبةوسفيان الثوري ‏.‏وروى عنه‏:‏ ابن المبارك وأحمد بن حنبل ويحيى وغيرهم ‏.‏) بعدها يقول ابن الجوزى عنه (وأقدمه الرشيد إلى بغداد ليوليه قضاء الكوفة فامتنع وعاد إلى الكوفةوأقام بها إلى أن مات في هذه السنة ‏.‏وكان ثقة عالمًا زاهدًا ورعًا وكان أحمد بن حنبل يقول فيه‏:‏ نسيجوحده ‏.‏).
أى إن هارون الرشيد قد سمع به فاستقدمه من الكوفة ليوليه قضاء الكوفة ، ولكنه أبى وامتنع ورجع للكوفة . وهذا الخبر يعنى أن عبد الله بن إدريس كان عالى الشأن مشهورا الى درجة أن يستقدمه الرشيد من بلده الكوفة ليعرض عليه تولى قضاء الكوفة ، ويرفض الرجل فلا يغضب الرشيد بل يرده الى بلده .
ذلك الخبر يخالف المعهود عليه من نبض هذا العصر حيث الرهبة الكبرى من الخلفاء خصوصا الرشيد الذى كان مشهورا بنزقه وانفعاله ، وحين كان يغضب كانت تطير الرقاب ، وكان سيف مسرور السياف يرهب الجميع خصوصا الفقهاء . ثم لا يستقيم هذا الخبر مع المعطيات الأموية والعباسية فى أن يبعث الخليفة يستقدم فقيها من بلده ليعرض عليه تولى القضاء فى نفس بلده ، كان ممكنا أن يبعث اليه من خلال الوالى كما حدث من قبل حين عرض والى الكوفة الأموى ابن هبيرة على أبى حنيفة أن يتولى قضاء الكوفة ، ولم يحدث أن استقدم الخليفة الأموى أبا حنيفة الى دمشق ليعرض عليه قضاء الكوفة . لقد كان تعيين القضاء على الأقاليم مهمة ولاة الأقاليم فى الأغلب ، ثم كان من اختصاص قاضى القضاة فى عصر الرشيد ، حيث كان أبو يوسف أول قاض للقضاة . ومن هنا يتبين لنا أن تلك الرواية مشكوك فيها ، وأن ابن الجوزى الفقيه الحنبلى هو مخترعها ، خصوصا وأن ابن الجوزى كان حنبليا ، وقد قرر أن يكافىء بهذه الرواية الفقيه المحدث عبد الله بن إدريس لأن احمد بن حنبل كان تلميذا لعبد الله بن إدريس ، وأنه مدحه فقال عنه (نسيجوحده ‏.‏).
شهرة المؤرخ ابن الجوزى فى الحديث و الفقه لا تعدلها إلا شهرته فى مجال القصص ، حيث كان يجتمع الناس فى مسجده ليخطب و يحكى لهم القصص ، وكان من السهل عليه أن يؤلف الروايات القصصية ويجعل لها إسنادا ، ثم لا يتورع عن كتابتها فى تاريخه على انها تاريخ حقيقى . ولكى نثبت ما نقول ، ننقل عنه تلك الرواية عن رفض عبد الله بن إدريس عرض الرشيد بتولى القضاء ، يقول ابن الجوزى : ( أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا أبوعلي محمد بن الحسين النهرواي حدثنا المعافى بن زكريا حدَّثنا ابن مخلد حدَّثنا حمادبن المؤمل الكلبي قال‏:‏ حدثني شيخ على باب بعض المحدثين قال‏:‏ سألت وكيعًا عنمقدمه هو وابن إدريس وحفص على الرشيد فقال لي‏:‏ ما سألني عن هذا أحد قبلك ... ). هنا سند الرواية وعنعنتها ، وفيها نلاحظ أن ابن الجوزى المتوفى 597 يقول ( أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ) ومهما يكن عبد الرحمن بن محمد هذا فقد كان معاصرا لآبن الجوزى عاش مثله فى القرن السادس الهجرى أى بعد 500 هجرية ، وهو يحكى رواية مفترض أنها حدثت فى القرن الثانى من الهجرة أى بعد 100 هجرية .
وتتوالى سلسلة الرواة والعنعنات لتصل الى صفر كبير أى راو مجهول ، يقول ابن الجوزى (أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا أبوعلي محمد بن الحسين النهرواي حدثنا المعافى بن زكريا حدَّثنا ابن مخلد حدَّثنا حمادبن المؤمل الكلبي قال‏:‏ حدثني شيخ على باب بعض المحدثين ) انتهت الرواية الى صفر ، فمصدرها ومنبعها ( شيخ على باب بعض المحدثين ).أى إن الراوى الأصلى هو شيخ مجهول كان يقف على باب أحد المحدثين المجهولين . بذلك تكون الرواية ساقطة بمنهج المحدثين أنفسهم طبقا لما يسمونه بعلم الجرح والتعديل . ولكن لأننا فى مجال التأريخ وليس الحديث ولأن الكاتب و الراوى والقاص هو ابن الجوزى بمكانته وشهرته فالعادة أن يتقبل الناس كل ما يقوله وكل ما يفتريه.
ثم هناك عامل آخر، هوأن إبن الجوزى محترف فى فنّ التاليف القصصى ، و ضليع فى الحبكة الدرامية و اسلوب التشويق شأن أئمة علماء الحديث و السّنة ، وهم دائما يضعون ( البهارات ) الدرامية و الجمل الشيقة و الجذابة بين سطور رواياتهم واقاصيصهم . ونرى مثلا لذلك فى تلك الرواية لابن الجوزى ، ونعود اليها ، يقول (أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا أبوعلي محمد بن الحسين النهرواي حدثنا المعافى بن زكريا حدَّثنا ابن مخلد حدَّثنا حمادبن المؤمل الكلبي قال‏:‏ حدثني شيخ على باب بعض المحدثين قال‏:‏ سألت وكيعًا عنمقدمه هو وابن إدريس وحفص على الرشيد فقال لي‏:‏ ما سألني عن هذا أحد قبلك ). جملة (ما سألني عن هذا أحد قبلك ) كفيلة بأن تجعل المستمع يجلس مستمعا بكل جوارحه ، خصوصا وأن القصة تتعرض لمقابلة بعض أئمة الحديث للخليفة هارون الرشيد ، الذى كان ـ ولا يزال ـ أشهر خلفاء بنى العباس.
وبعد أن يستولى ابن الجوزى على الاهتمام يحكى القصة زاعما أن الذى رواها هو وكيع الذى كان أحد أبطالها : (قال‏:‏ حدثني شيخ على باب بعض المحدثين قال‏:‏ سألت وكيعًا عنمقدمه هو وابن إدريس وحفص على الرشيد فقال لي‏:‏ ما سألني عن هذا أحد قبلك )،ثم يسرد القصة : ( قدمناعلى هارون فأقعدنا بين السريرين فكان أول مَنْ دعا به أنا فقال‏:‏ أهل بلدك طلبوامني قاضيًا وسمّوك لي فيمن سمّوا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وصالح ما أدخل فيه منأمر هذه الأمة فخذ عهدك أيها الرجل وامض ‏.‏فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير وإحدى عيني ذاهبة والأخرىضعيفة ‏.‏فقال هارون‏:‏ اللهم غفرًا خذ عهدك أيها الرجل وامض ‏.‏فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين واللّه إن كنت صادقًا إنه لينبغي أن تقبلمني ولئن كنت كاذبًا فما ينبغي أن تولي القضاء كذابًا فقال‏:‏ اخرج ‏.‏فخرجت. ) ومطلوب منا ان نصدق أن وكيع يجرؤ أن يبادر الخليفة بقوله ( والله إن كنت صادقًا إنه لينبغي أن تقبلمني ...) وتستمر القصة وقد خرج وكيع ، ولكنه يحكى عن الرجل الثانى كأنه كان حاضرا :( ودخل ابن إدريس، وكان هارون قد وسم له من ابن إدريس وسم - يعنيخشونة جانبه - فدخل فسمعنا صوت ركبتيه على الأرض حين برك وما سمعناه يسلم إلاسلامًا خفيًا فقال له هارون‏:‏ أتدري لِمَ دعوتك ‏.‏فقال له‏:‏ لا ‏.‏قال‏:‏ إن أهل بلدك طلبوا مني قاضيًا وإنهم سمّوك لي فيمن سمّوا وقدرأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة فخذ عهدكوامض ‏.‏فقال له ابن إدريس‏:‏ ليس أصلح للقضاء) من الممكن أن يكون الراوى وكيع قد سمع هذا الحديث من وراء الحائط ، ولكن هل يمكن أن يكون قد رأى من وراء الحائط وهو باعترافه قال من قبل ( أنا شيخ كبير وإحدى عيني ذاهبة والأخرىضعيفة ‏) ولكن هذا الشيخ الكبير يحكى عما جرى فى الحجرة الأخرى كأنه يرى أصابع الرشيد من خلال الجدران ، يقول ( فنكت هارون بإصبعه وقال له‏:‏ وددت أني لم أكن رأيتك قال له ابنإدريس‏:‏ وأنا وددت أني لم أكن رأيتك ‏.‏) فهل يعقل أن يرد الفقيه ابن إدريس على الرشيد قائلا (وأنا وددت أني لم أكن رأيتك)؟وأين مسرور السياف وقتها؟ وتمضى الأقصوصةتحكى ( فخرج ثم دخل حفص بن غياث فقال له كما قال لنا ، فقبل عهده وخرج ‏.‏) .أى رضى الثالث وهو حفص بن غياث بتولى منصب القضاء بينما رفضه وكيع الراوى و ابن إدريس .
وبقية الرواية مدح فى مناقب اهل الحديث : (فأتانا خادم معه ثلاثة أكياس في كل كيس خمسة آلاف ‏.‏فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين يقرئكم السلام ويقول لكم قد لزمتكم فيشخوصكم مؤونة فاستعينوا بهذه في سفركم ‏.‏قال وكيع‏:‏ فقلت له‏:‏ أقرىء المؤمنين السلام وقل له قد وقعت منيبحيث يحب أمير المؤمنين وأنا عنها مستغن وفي رعية أمير المؤمنين من هو أحوج إليهامني فإن رأى أمير المؤمنين بصرفها إلى من أحب ‏.‏وأما ابن إدريس فصاح به‏:‏ مر من هنا ‏.‏وقبلها حفص وخرجت الرقعة إلى ابن إدريس من بيننا‏:‏ عافانا اللهوإياك سألناك أن تدخل في أعمالنا فلم تفعل ووصلناك من أموالنا فلم تقبل فإذا جاءكابني المأمون فحدثه إن شاء اللهّ ‏.‏فقال للرسول‏:‏ إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه إن شاء الله ‏.‏ثم مضينا فلما صرنا إلى الياسرية حضرت الصلاة فنزلنا نتوضأ للصلاة‏.‏قال وكيع‏:‏ فنظرت إلى شرطي محموم نائم في الشمس عليه سواده فطرحتكسائي عليه وقلت‏:‏ تدفأ إلى أن نتوضأ ‏.‏فجاء ابن إدريس فاستلبه ثم قال لي‏:‏ رحمته لا رحمك اللّه في الدنياأحد يرحم مثل ذا ثم التفت إلى حفص فقال له‏:‏ يا حفص قد علمت حين دخلت إلى سوق أسدفخضبت لحيتك ودخلت الحمام أنك ستلي القضاء لا واللهّ لا كلمتك حتى تموت قال‏:‏ فماكلمه حتى مات ‏.‏) (المنتظم 9 / 202 وفيات 192 ).
ولا ننسى أن هذا الفقيه المحدّث عبد الله بن إدريس ينتمى الى مدرسة الأعمش ، فالأعمش هو شيخه وشيخ وكيع ، ولا يمكن لمن تخرج فى مدرسة الأعمش ولازمه أن يكون خصما للدولة العباسية بنفس الطريقة التى تظهره بها تلك الرواية.
ومع عدم التسليم بالرواية إلا إن تأليفها يعكس عرفا سائدا بين الورعين من الفقهاءالزهاد فى الدنيا ، وقد كانوا معروفين وقتها بالبكائين ـ وقد عرضنا لهم فى مقال بحثى ـ وكان من معتقداتهم رفض منصب القضاء ليتفرغوا للبكاء كراهية لأحوال الدنيا والظلم العباسى. وواضح أن أعمدة أهل الحديث أرادوا أن يأخذوا شيئا من الاحترام الذى لاقاه أولئك الناس ، وبمقدرتهم الفائقة على صناعة الروايات كتبوا عن بعضهم روايات لا نملك إلا الشك فيها . والسبب أن أصحاب الحديث كانوا على نقيض البكائين المقاطعين للدولة العباسية ، إذ عمل أهل الحديث فى خدمة الدولة العباسية يروجون لها الأحاديث التى تخدم أهدافهم ، وكان من أعمدة هذا العمل السياسى الأعمش وتلميذه وكيع فى العصر العباسى الأول ، وجاء على أثرهم ابن الجوزى فى العصر العباسى الثانى . وربما نتوقف مع وكيع و الأعمش فى بحث منفصل .
وابن الجوزى يروى فى ترجمة أحد البكائين وهو عبيد بن وهب المتوفى عام 197 انه رفض القضاء ، ونرى الرواية هنا أقرب للتصديق ، يقول : (كتب الخليفة إلى عبد الله بن وهبفي قضاء مصر فجنن نفسه ولزم البيت ، فاطلع عليه رشدين بن سعد من السطح فقال‏:‏ يا أبامحمد ألا تخرج للناس فتحكم بينهم كما أمر الله ورسوله قد جننت نفسك ولزمت البيت ‏.‏قال‏:‏ إني ها هنا انتهى عقلى !. ألم تعلم أن القضاة يحشرون يومالقيامة مع السلاطين ويحشر العلماء مع الأنبياء ) (المنتظم 10 /40 : 41 وفيات 197 ). من المعقول هنا أن يرسل الخليفة الى هذا الفقيه بتعيينه فى القضاء بمصر،ولكنه يرفض لأنه من البكائين ، وخوفا من عصيان الأمر يتظاهر بالجنون ، ويعبر عن عقيدته فى ان القضاة على دين ملوكهم ، وأن العلماء الصادقين هم فى صحبة الأنبياء. وواضح إختلاف هذه الرواية عن سابقتها .
ختاما :
ومع الأسف فإن أساطير أولئك القصاصين أصبحت دينا .. إسمه (السّنة )... كان هو الإطار التشريعى للقضاء فى العصر العباسى وما تلاه. وهو نفس الشريعة التى يرفع لواءها المتطرفون السنيون ..
 

اجمالي القراءات 19156