خريف العم هيكل

نبيل شرف الدين في الإثنين ٢٦ - أكتوبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

يبدو الاقتراب من الكاتب والسياسي المصري الشهير محمد حسانين هيكل، مثل السير في حقل ألغام، ليس خشية من رد فعله، فالرجل عادة لا يكلف خاطره عناء الرد على أحد، لكن الأمر يتعلق بتلك الجوقة التي تربط اسمها بالأستاذ، لقناعة منهم أو مصلحة ما أو لأي سبب، فهؤلاء "الدراويش" يتصرفون كملكيين أكثر من الملك، مع أنهم لا يمتلكون منطقاً متماسكاً، ولا حتى مجرد أدوات الحوار الأساسية، فتراهم يرفعون في وجه أي محاولة لنقد أطروحاته راية الحرب، ويتساءل معظمهم بسماجة: ومن أنÊrc; حتى تناقش الأستاذ؟!
لهذا في البداية أرجوك سيدي القارئ أن تعتبرني مجرد "مواطن حر، لا ينفع ولا يضر"، وخذني "على قد عقلي"، متحلياً بالصبر الجميل، لنطرح بعض التساؤلات التي لا تخلو من الوجاهة، عما فعله هيكل طيلة مسيرته الصحافية والسياسية على مسرح السياسة في مصر وربما المنطقة بأسرها، وهي بلا شك أدوار بالغة الخطورة، لكنها أيضاً ليست موضع إجماع بل كانت ولم تزل موضع سجالات لا تنتهي، فالرجل يحمل شخصية جدلية وخلافية تمثل مرآة لتطور الحياة السياسية ليس في مصر فقط، بل في العالم العربي كله، خاصة وأنه كان قريباً من زعماء أثروا على المنطقة كالرئيسين الراحلين عبد الناصر والسادات وغيرهما.
لن نخوض في تفاصيل دور "البروباجنديست" الذي لعبه هيكل لصالح مشروع القومية العربية الذي دفن في رمال سيناء بعد أن احتلتها إسرائيل إثر واحدة من مهازل التاريخ، وأكثر فصول المواجهة عبثية، ولن نتحدث أيضاً عن مغالطاته وأحكامه المتعسفة على وقائع وشخصيات دون استناد لتوثيق منهجي، مستفيداً من إتقانه لآلية ذكية في تسويق أفكاره، بما يملكه من لياقة ذهنية وحالة كهنوتية داخل الوسط الصحافي.
لكن أجدني هنا مضطراً للتصدي لتلك الحالة النرجسية التي تدفع الرجل لإطلاق ألعاب نارية كلما انسحبت عنه الأضواء، ودخل بحكم الزمن خريف الحياة، سواء على الصعيد الشخصي كرجل في العقد التاسع من عمره، ومدى إلمامه العميق بما استجد على مصر من ملامح ثقافية وسياسية، فبعد أن ساهم في تشويه وعي جيل ـ وربما أجيال ـ بالتاريخ المعروف للكافة عن مصر الليبرالية قبل 1952، وحاول أن يسقط عنها كل ميزة، كان يفترض أن تضعها في مصاف مستوى دول الجنوب الأوروبي، أو كوريا الجنوبية على أدنى تقدير، لولا ذلك السطو المسلح على مقدرات البلاد والعباد، الذي حمل إلى رأس السلطة شباباً من الضباط النزقين، الذين قطعوا التطور الطبيعي للحياة السياسية والبرلمانية في مصر، وهدموا المعبد على رؤوس الجميع، وما أن بدؤوا يفهمون قواعد اللعبة السياسية حتى كانت المصيبة قد حلت بالأمة كلها .
وهاهو العم هيكل الآن يسعى لممارسة دور "راسبوتين السياسي" بكل ما أوتي من قدرات هائلة على التأثير والتدجيل السياسي، ليضع حزمة من الألغام في مستقبل مصر وحاضرها، مستغلاً خالة السيولة التي تمر بها البلاد ليطرح عدة أسماء لقيادة مصر بعد انتهاء ولاية الرئيس حسني مبارك الحالية .
وبقليل من التدبر سنكتشف أن أيّاً من هذه الأسماء المرشحة من قبل هيكل لن تصمد طويلاً أمام أبسط مناقشة جادة، فعمرو موسى مثلاً هو ابن النظام وربيبه، ولم يكن يوماً خارج قواعد اللعبة، ولن يكون، أما محمد البرادعي فهو رجل تنحصر خبراته في العمل لدى المنظمات الدولية كخبير قانوني، ولم يمارس السياسة بمعناها الاحترافي يوماً في حياته، فكل تاريخه اقتصر على العمل الدبلوماسي وفي منظمات دولية وهذه بالمناسبة لا تعمل بالسياسة، بل تنفذ بطريقة احترافية سياسات مجلس الأمن والجمعية العامة .
ثم يأتي اسم أحمد زويل، الحائز على نوبل، وهو عالم جليل لاشك في ذلك، لكن هل يصلح مجرد معلم "شاطر" للفيزياء أو الكيمياء لقيادة بلد كبير مثل مصر، ويحمل إرثاً من المشكلات، ويحتاج لحيوية شاب في قمة عطائه، ويختزن خبرة عريضة تجعله مطلعاً على الكود النفسي لأكثر شعوب المنطقة عدداً وتعقيداً في علاقته بالسلطة عبر الأزمان .
باختصار شديد لو كنا في دولة قانون "بجد"، لأصبح مصير هيكل وحوارييه مثل مصير "جوبلز" وزير الدعاية النازي، ولكان قد حوكم أمام محكمة الوطن والتاريخ بتهمة الإسهام في تزييف وعي شعب، فلم يقتصر دوره إبان حكمي ناصر والسادات على التنظير، بل كان شريكاً في صناعة الأحداث وبالتالي وضع نفسه أمام عدة تساؤلات عن علاقته بالعديد من حكام المنطقة، فضلاً عن الأجهزة الأميركية والسوفيتية .
قصارى القول فإن هيكل يبدو في خريف عمره مسكونا بثقافة الاجترار ولغة الاستقطاب وذهنية الوصاية على المستقبل وعقول الناس، وغاية ما نأمله هو الدعوة لنقل تفكيرنا إلى أرض الواقع، بعد أن ظل عقوداً معلقا بين الأرض والسماء، ولن يعفي رجلاً في قامة هيكل وتاريخه المهني والسياسي، أنه يمتلك أدوات الصنعة وفنونها، فبراعته في فقه الأسلوب ونحت العبارة ولعبة المناورة واستدراج الجمهور لحالة النشوة والطرب، كل هذه تحسب ضده، فأن يكون الشرير حاذقاً.. لا يعفيه ذلك بالطبع من مسؤوليته بل يضاعفها.
والله المستعان،

اجمالي القراءات 11381