المقدس الرابع

خالد منتصر في الجمعة ٢٥ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

فى الفن والأدب العربى هناك ثلاثة مقدسات كلاسيكية تعتبر خطاً أحمر، ممنوع التصوير والاقتراب، «الدين والسياسة والجنس»، ولكن النقاد يتناسون أن هناك مقدساً رابعاً على نفس درجة الخطورة بل أحياناً أشد وهو الذات، فالأدب العربى يخلو تقريباً من السيرة الذاتية الصريحة التى لا تكذب ولا تتجمل إلا باستثناءات هامشية تؤكد القاعدة ولا تنفيها، مثل رواية الخبز الحافى،

ولذلك يجب ألا نندهش من رداءة وكذب ومبالغات جميع مسلسل&Ccedte;ات السيرة الذاتية للشخصيات أو بالأصح ما يكتبه المؤلفون العرب والمصريون عن حياة نجومنا من الأدباء والفنانين.

جرّب عزيزى القارئ أن تغلق باب غرفتك بـ«الترباس» من الداخل فى عز الليل، وتغلق الموبايل وتختلى بأوراقك البيضاء وتأخذ نفساً عميقاً وتنوى نية صادقة وتتكل على الله قائلاً سأكتب سيرتى الذاتية بكل صدق وصراحة وشفافية وبكل ما فيها من حلو ومر وصح وعيب وحلال وحرام ثم أمزقها وأحرقها وأنثر رمادها فى الهواء، رغم وحدتك وعزلتك، ورغم أن أحداً لن يطلع على أسرارك، ورغم أن فضفضتك خاصة جداً وحميمة جداً، إلا أننى أراهنك- وبكل ثقة- أنك ستفشل فشلاً ذريعاً، ولن تتعدى نسبة صدقك وصراحتك نصفاً فى المائة !!

هذا يرجع لسبب بسيط، هو أن مجتمعاتنا قامت بتربيتنا على النفاق والكذب، وزرعت فينا أن السر غير العلن، وخلطت مفهوم الستر بالتمويه والتضليل، وعلمتنا أن ظلام سندرة الذاكرة ورطوبة بدروم الذكريات أهم وأكثر صحة من ضوء باحة الفضفضة ونقاء أكسجين ساحة الشفافية، علمونا الخوف من الكلمة والصورة والرقم، أدمنّا ارتداء الأقنعة حتى صرنا مهرجين، وشوهنا وجوهنا بألوان الماكياج الصارخة حتى أصبحنا بهلوانات.

كاتب السيرة الذاتية عندنا لايخطئ، ملاك يمشى على الأرض، مرت فترة مراهقته بلا شهوة، أما فى شبابه فهو القدوة، وفى شيخوخته صاحب الفضيلة، الأَلْفة دوماً، الصح غالباً، الطاهر على طول الخط، وإذا زل لسانه مثل سعد زغلول وقال إنه مقامر، أو صرح مثل نجيب محفوظ بأنه عرف طريق بيوت الدعارة فى شبابه، أو صرخ على الورق شاكياً من عقمه الوراثى مثل لويس عوض!!

فإن كل ذلك يُستغل للتجريس وتصفية الحسابات وغسل الخطايا والتطهر على جثث من جاهروا بالفضفضة وقرروا أن يتخلوا عن قناع الكذب ولو لثوان قليلة.

لم نسأل أنفسنا: لماذا تحظى برامج الفضفضة عندنا بنسبة إقبال هائلة ومكتسحة؟

ولماذا تحارب هذه البرامج وتمنع وتراقب وتحظر بطريقة هستيرية من إذاعاتنا وفضائياتنا وكأنها رجس من عمل الشيطان؟ إنه الجوع إلى البوح والعطش إلى الفضفضة، إنها الرغبة فى تخفيف حمل كاهل ذكرياتنا الأحدب المنهك، وتجديد بئر أسرارنا المتعطنة من الركود، ثم نأتى بعدها ونحاول واهمين التعويض والاعتذار بإنتاج كم هائل من مسلسلات السير الذاتية التى تتحدث عن قديسين لا بشر، وتتناول يوتوبيا لا وطناً!

ويظل الكاتب والمخرج والمنتج يقصقص ويهذب العمل حتى يُفصّله على حجم ذوق الورثة الذين يعترضون على كل تفصيلة ويمنعون ما يظنونه مساساً بالذات العليا لدرجة منع ظهور شخصية مثل الزعيم عبدالناصر بالبيجاما احتفاظاً بقدسيته!!

غُدة الفضفضة عندنا معطلة عن العمل لأنها تعانى من فيروس النفاق.

 

 

اجمالي القراءات 12091