حين تدافع الشعوب عن جلاديها

نبيل شرف الدين في الإثنين ٢٣ - مارس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

مناقشة السلوك السياسى للرئيس السودانى عمر البشير، عنوانه الصحيح فى لاهاى، حيث تقع المحكمة الجنائية الدولية، ولكن ما استفزنى حقاً، رغم أنه بات متواتراً خلال الأعوام الأخيرة فى المحيط العربى، هو انتفاض الشعوب المقهورة دفاعاً عن جلاديها، وغضبها إلى درجة الاحتقان انتصاراً لطغاتها، ولعل الأمر لا ينطوى على مبالغة حين نرى أن هذه «الظاهرة الماسوشية»، يكاد ينفرد بها ضحايا الثقافة العربية عمن سواهم من خلق الله فى شتى أصقاع الأرض.

رحت أتأمل المشاهد ا&aacلتى تبثها الفضائيات لآلاف السودانيين الغاضبين، أو بدوا لى هكذا، لكن ما استقر عليه وجدانى لاحقاً أن تلك المشاهد تندرج تحت بند «شر البلية»، أو المضحكات المبكيات، فالمشاهد ملتبسة بشكل درامى، وأكاد أجزم بأن أحداً لم يبتسم حين شاهد البشير يلوح بعصاه، وهو يرتدى زياً عسكرياً تارة، وتارة أخرى يرفل فى جلباب سودانى، وثالثة يرتدى قبعة من الريش، وبطريقته الكوميدية فى الخطابة يردد نشيد جماعة الإخوان المسلمين: «فى سبيل الله قمنا، نبتغى رفع اللواء»، ومع ذلك فعلينا أن نحسن الظن بالأخ البشير، فربما يجهل أن هذا هو نشيد الجماعة التى حملته رافعتها الانقلابية للسلطة، وقد لا يزيد الأمر على كونه مجرد إعجاب بكلمات حماسية، كما نعجب بأغنيات فيروز وثومة.

يبدو المشهد السودانى كئيباً لدرجة لا يملك معها المرء سوى أن يبتسم، حتى لا ينفجر من الغيظ، فالبشير الذى اعتلى السلطة عبر انقلاب عسكرى، وتحالف مع الإخوان ممثلين فى شخص «الألعوبان» حسن الترابى، وفتح السودان لتنظيم «القاعدة» واستضاف بن لادن وصحبه الغر الميامين، وأسبغ حماية دولته على الإرهابى الشهير كارلوس، وما أن انفض السامر حتى انقلب البشير على حلفائه واحداً تلو الآخر، فلم يكتف باستبعاد معلمه الترابى بل أودعه غياهب السجن، وفرّ من دياره صديقه بن لادن قبل أن يلقى مصير كارلوس الذى سلمه لفرنسا فى صفقة فاحت منها روائح كريهة، بغض النظر عن الخلاف حول الأمر.

لكن يبقى السؤال: لماذا كانت الاستضافة أساساً؟ ثم لماذا كان الغدر بمن منحه الأمان؟ ولعل المثير فى هذا السياق أن حكومة الخرطوم التى سلمت كارلوس للسلطات الفرنسية لمحاكمته على الجرائم التى ارتكبها، هى ذات الحكومة التى ترفض الآن محاكمة أى مسؤول فيها أمام المحاكم الدولية، حتى لو كان ذلك المسؤول متهماً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وإبادة مئات الآلاف من أبناء السودان.

شأن رفاقه من الطغاة يختطف البشير السودان ويحوله لرهينة، ويصبح ركناً أساسياً من أزمة السودان مع العالم، وليس جزءاً من الحل، فأى حل حقيقى يبدأ بإزاحته، وأتصور أن مصلحة السودان ومصر، وربما المنطقة، تكمن فى إقصاء هذا الرجل عن حكم السودان، لأن المشكلة الراهنة لا يمكن حلها ومحاصرة تداعياتها فى ظل وجوده.

 وبالتالى أنصح بالتعامل مع مسألة البشير ببرود، حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً، سواء بإقصائه أو القبض عليه، فرجل يتحدى العالم بينما بلده يتمزق وتحاصره الأزمات، وتتهدده رغبات الانفصال، وسيادته يرد بوصف قرارات المجتمع الدولى بأنها تحت «جزمته»، ويطرد المنظمات الدولية، ويلوح بطرد السفراء الغربيين، ويرقص بالعصا، بالله عليكم ما الفرق بين سلوك صدام والبشير؟ وما المانع أن تتجه الأمور فى السودان لما حدث فى العراق؟.

ووسط هذا الوضع السياسى المأزوم ها هى أشباح التقسيم تلوح فى الأفق منذرة بكارثة، فالجنوب لا يبدو أنه يتجه للإبقاء على الوحدة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية التى سيقرر بعدها وفقاً لاتفاقية السلام الاستمرار ضمن السودان الموحد أو الانفصال، والغرب يموج بحركات التمرد التى لا تخفى رغبتها فى الانفصال، وهناك حركات فى الشرق تسعى للهدف ذاته، وبالتالى صار السودان أقرب إلى التقسيم لأربع دول: الأولى عربية فى الشمال، وهى التى ستتبقى لنظام الحكم الحالى، وأخرى فى دارفور غربى البلاد، وثالثة فى الجنوب، ورابعة فى الشرق.

اجمالي القراءات 9201