حين يطمئن الفاشلون

نبيل شرف الدين في الإثنين ٢٣ - فبراير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

حين يطمئن الفاشلون



نبيل شرف الدين

اعترف مسؤولون كبار صراحة وتلميحاً بأن الصحف الحكومية ومحطات التلفزيون الرسمية فشلت بامتياز في تسويق الموقف السياسي المصري خلال أزمة غزة الأخيرة، بل وحتى مجرد الدفاع عنه، وانتهى الأمر لظهور القاهرة بمظهر "إللي على راسه بطحة"، وهذا غير صحيح، لأن حدودنا قرار سيادي يخضع لحساباتنا، وليس من الحكمة أن تجرنا عصبة دينية مثل "حماس" لمواجهة خرقاء نحن في غنى عنها.

إذن فالأزمة في مصر الآن لم تعد خلافاً حول الãilde;واقف الفكرية والتقديرات السياسية، بل انحدرت إلى العجز عن امتلاك أدوات المهنة، ولعلي لا أتجاوز الحقيقة حين أزعم أن هذه السمة باتت متكررة في كافة مناحي الحياة بمصر، فنحن نعاني من ندرة وتراجع المهني المحترف، بدءاً بالسياسي "الشاطر"، وصولاً للعامل الماهر، مروراً بالطبيب والمهندس والصحفي والمحامي وغيرهم، حتى أصبح البحث عن سباك جيد مهمة صعبة، وهذا يؤكد خللاً فادحاً وخطراً محدقاً بمجتمعنا، وينذر بيوم قد نضطر فيه لاستقدام عمالة أجنبية لإنجاز أمورنا التي لا تحتمل أداء الهواة والفاشلين.

وليس اكتشافاً جديداً أن الإعلام كان لاعباً مهماً يقف بجانب الساسة والدبلوماسيين في أزمة غزة، ولعل دراسة جادة تتصدى لإجراء "تحليل مضمون" للخطاب الإعلامي الحكومي، ستضع أيدينا على حجم التدهور الذي انحدرت إليه الآلة الإعلامية المصرية التي اقتصرت اجتهاداتها على أسلوبين لمعالجة المسألة: إما الخطاب الإنشائي الفارغ، أو الانزلاق للغة "الردح" والانفعالات المتشنجة.

ومع ذلك أطمئن هؤلاء الفاشلين بأن أحداً لن يقدم على محاسبتهم بل على العكس، فربما ينكل بمن يجرؤ على الاقتراب من دوائر نفوذهم ومصالحهم، ولو بمجرد طرح تساؤلات عما قدموه للنظام الذي حملهم على أجنحته لمربع المليونيرات والنجومية، في غفلة من المعايير وغياب الضوابط، واقتصار المنافسة على مدى الصلة بالأجهزة والمسؤولين، وفق علاقات تبعية، وليست ندية يحترم فيها الكاتب نفسه وقلمه، ليتحول لمجرد "موظف علاقات عامة" لصالح هذا المسؤول، أو أداة بيد ذلك الجهاز.

لن نتحدث عن وسائل إعلام رسمية تفتح منابرها لفلول البعث وجبهات المزايدة على مصر، ولن نخوض في مظاهر اختراق الإخوان والمهووسين دينياً لمؤسسات إعلامية حكومية تتكبد خسائر فادحة من المال العام، ولن نقترب من حقل الألغام الذي يتهامس عليه كثيرون في مجالسهم الخاصة عن وقائع فساد ومظالم باتت تتفشى في المؤسسات الإعلامية الحكومية، بل سنكتفي بالتساؤل عن أسباب تدني المستوى المهني رغم أن صناعة الإعلام في مصر هي الأغلى في المنطقة، فلو قارنا حجم ما ينفق على الإعلام الحكومي، مقابل ما ينفق على نظيره بالدول العربية، أو حتى في الإعلام الخاص داخل مصر، سنكتشف حجم الكارثة، لأن فضائية كالجزيرة لا يتجاوز عدد موظفيها مائتي شخص.

بينما مؤسسة كالأهرام بها أكثر من 1200 صحفي، ولو كان هذا العدد يعمل بنصف طاقته لأخرج كل صحف الدول العربية، ومبنى ماسبيرو يعمل به نحو أربعين ألف موظف، وهو رقم يتجاوز عدد العاملين بالجهاز الإداري لدول كالإمارات وقطر، وتبجح الفساد حتى وجدنا أسراً كاملة تعمل في تلك المؤسسات، فأصبح هناك ما يمكن وصفه بحالة "التواطؤ العام" فالأب الذي يشغل منصباً قيادياً يقصر فرصة العمل على أبنائه وأزواج بناته، ناهيك عن الأقارب والمصالح المتبادلة، حتى أخرج الفساد المهني الإعلام المصري الرسمي من دائرة التأثير، كإحدى الوسائل العصرية المهمة في التنوير وتطوير المجتمع وترشيد عمليات التنمية إلى دائرة "العمل الدعائي الفج"، الذي يسهم في التضليل وتكريس قيم السفه والتعصب.

في فمي ماء كثير، وقد قُيض لي شخصياً أن أرى المشهد السياسي المصري من أكثر من زاوية، من داخل السلطة وخارجها، لكن ربما يحين الظرف المناسب ذات يوم لتسمية الأشياء بمسمياتها، لأن مصالح الأمة ومستقبلها ليس مما يسمح الضمير الحي لنفسه بقبول دور الشيطان الأخرس حياله.

والله المستعان

اجمالي القراءات 10357