فى الكفر السلوكى : قيمة العمل فى الآخرة (3 د )

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٣٠ - يناير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :
عادة سيئة للبشر:
1 ـ يقول رب العزة : (أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى ـ النجم 24 ) أى لا تجرى الأمور وفق مقتضى أمنيات الانسان وأحلامه وأطماعه ، أى لا يصح أن يعصى ثم يكافأ على عصيانه ، فهذا لا يجوز فى تشريع البشر فكيف يجوز فى تشريع رب البشر ؟ ، يقول تعالى : (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ) ( النساء 123 ) أى من يقترف سيئة لا بد أن يعاقب عليها فى الدنيا أو فى الاخرة أو فيهما معا . ولكن بعض الناس يفرض أمنياته على دين الله جل وعلا ، والله جل وعلا يؤكد أن الشيطان هو الذى يزرع هذه الأمنيات الضالة فى أفئدة البشر ، ولقد أعلن هذا بمجرد طرده من الملأ الأعلى فقال لربه جل وعلا عن بنى آدم : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ ) ( االنساء 118 ـ ) والشيطان يمارس هذا مع أكثرية البشر فيضلهم بالأمانى ، لذا يقول جل وعلا عنه وعن أتباعه (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) ( النساء 120 ـ )
2 ـ وأسوأ الأمنيات الشيطانية المهلكة نوعان : الأولى هى أكذوبة الشفاعات الى يخدع بها الشيطان أصحاب الديانات الأرضية ، ولذلك قال جل وعلا مقدما يحذّر من تلك الخدع والأمانى الغرورة التى يستعملها الشيطان الغرور : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) ( لقمان 33 ) أى يوم القيامة لا يستطيع أى نبى أن ينفع أباه أو أن ينفع ابنه فكيف بغير الأنبياء ؟.. والنوع الثانى من الأمنيات هى ما يعيش عليه الملحدون الذين يعتقدون أن لهم الحرية التامة فى الكفر والعصيان دون أدنى مسئولية أمام الخالق جل وعلا . أى أن تلك الحرية (الممنوحة لهم من الخالق جل وعلا والتى يسيئون استعمالها بالكفر وسبّ الله تعالى) هى بلا مسئولية .
وهم هنا أيضا يتنكرون لمعنى الحرية فى تشريعاتهم الأرضية والتى تجعل الحرية صنو المسئولية وقرينا معادلا لها . وترى بعضهم يهش ويبش ويرضى عندما نؤكد أن الاسلام دين الحرية المطلقة فى الاعتقاد والفكر وفى التعبير عنهما ، ولكن يكشر عن أنيابه حين نربط تلك الحرية بالمسئولية المترتبة عليها امام الخالق جل وعلا يوم القيامة.
3 ـ إن وجودنا فى هذه الدنيا وتلك الحياة يعنى الاختبار والاختيار، وهما متلازمان ، فنحن فى اختبار الاختيار بين الكفر والايمان والطاعة والمعصية،ولكنهم يريدونها اختيارا فقط بدون اختبار. وليس الأمر بالتمنى ، فأمر الله جل وعلا هو الغالب : (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) ( يوسف 21 ).
4 ـ وفى القرآن الكريم توازن رائع بين الحرية والمسئولية ، بين الاختبار والاختيار ، بين آيات العذاب وآيات النعيم . وكل ذلك نزل مقدما للبشر كى يقرروا لأنفسهم وهم أحياء يرزقون فى هذه الدنيا . وبعدها فليس لأحد منهم أى عذر أو أدنى مبرر.
ونعطى مثلا بقوله جل وعلا : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) الى هنا يهلل بعضهم لتلك الحرية الممنوحة له فى ان يكفر لو شاء وأن يؤمن لو أراد ، ويتناسى تكملة الآية وهى عن عذاب النار :( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) حين يقرأ العذاب هنا يرتعب وربما ينطلق لسانه بما لا يليق فى حق الخالق جل وعلا ، وأيضا ينسى أن يكمل قراءة قوله جل وعلا عن النعيم فى الجنة : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) ( الكهف 29 : 31 ).
فى الايات الثلاث تقرير لحرية البشر فى الايمان والكفر ،أى الاختيار ، ثم يعقبه مايؤكد أن هذا الاختيار هواختبار فى حقيقته لأنه يتلوه حساب وثواب أوعقاب فتتكلم الآية 30 عن العذاب وتتلوها الاية 31 عن النعيم . وكل ذلك مقدما ومسبقا للوعظ والانذار وللدعوة لدخول الجنة والنجاة من النار. فإذا صمم بعضهم على إساءة استعمال حريته وظل سادرا فى الكفر و العصيان فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
5 ـ ونتوقف مع بعض آيات القرآن الحكيم فى الاختيار والاختبار ونعيم الجنة وعذاب النار فى معرض حديثنا عن الايمان والعمل الصالح والكفر السلوكى يوم القيامة .. وقد يغضب البعض من إصرارنا على بحث هذه القضايا ، ونقول إننا نفعل ذلك من واقع الحب لهم والحرص على مستقبلهم يوم القيامة ، وأملا فى أن يراجع بعضهم نفسه ، وفى النهاية هو قيام بمسئولية الأمر السلمى بالمعروف و النهى السلمى عن المنكر ابتغاء وجه الله جل وعلا ، والمسلمون كما هو معروف أقل الناس فى العمل الصالح ، وأشهرهم فى العمل السيىء ، مع وجود القرآن بينهم وتكراره لارتباط الايمان بالعمل الصالح (الذين آمنوا وعملوا الصالحات ).

أولا : نتوقف مع هذه الآيات الكريمة (فاطر 33 : 37 )
1 ـ يقول جل وعلا عن أصحاب الجنة :(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ).
سبق الاستشهاد بهذه الاية على أن التزين بالذهب ولبس الحرير حلال للرجال فى الدنيا ، ويتأكد هذا مع آيات أخرى ( الأعراف 31 : 33 ) ( الكهف 30 : 31 )( النحل 14 ) (فاطر 12 ).
ولكن يلفت النظر هنا أن الاية الكريمة ترد مقدما على أكاذيب الشفاعة التى جاءت فى حديث سنى يزعم أن الله جل وعلا قد أعطى للنبى محمد عليه السلام المقام المحمود أى التشفع فى البشر ، ويؤلون فى هذا الزعم قوله جل وعلا:(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) ( الاسراء 79 ) ويتناسون ما قبل الآية وما بعدها من أوامر عامة للنبى والمؤمنين مقابل حصولهم على المقام المحمود ، ويتناسون أن المقام المحمود هو الجنة التى تنتظر النبى محمدا و المؤمنين معه ومن قبله ومن بعده . ولأن القرآن الكريم يفسّر بعضه بعضا ويشرح بعضه بعضا فإن هذه الآية من سورة فاطر تفسّر المقام المحمود بأنه الجنة ، حيث سيقول أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ)، ويتأكد ذلك بوصف الجنة بأنها (خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) (الفرقان 76 ) .
هذا النعيم لأهل الجنة يقابله عذاب أهل النار فى الاية التالية :
2 ـ إذ يقول سبحانه وتعالى عن أصحاب النار : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ) ( فاطر 36 : 37).
فى عبارات قليلة ومركزة جاء وصف اصحاب النار فى النار ، فهى أى جهنم (لهم ) أى يملكونها وتملكهم وهم أصحابها والملازمون لها ، ولذلك فلا خلاص لهم منها بالموت ، ولا تخفيف عنهم من عذابها ، ولا مجال للخروج منها . ومن ىشدة العذاب هم لا يصرخون ولكن ( يصطرخون ) وهو تعبير عن الصراخ لم نعرفه بعد فى هذه الدنيا ، لأننا نصرخ فى هذه الدنيا بصوت آخر ، ونصرخ حين نعانى من ألم دنيوى ،أما فى الجحيم فالصوت غير الصوت و العذاب غير العذاب . ولذا جاء التعبير بصراخ غير مألوف وغير معروف . ثم إنه ليس مجرد (اصطراخ ) من الألم بل هو اصطراخ بالقول والاستغاثة يرجو الله جل وعلا بأن يمنّ عليهم بإخراجهم من النار مقابل وعد منهم بأن يعملوا عملا صالحا غير الذى كانوا يعملونه،ويأتيهم الرد بأنهم أضاعوا الفرصة فى الدنيا ، فلقد جاءهم فيها النذير وكان لديهم الوقت للتذكر والتفكير فأضاعوه بالغفلة والعناد والاصرارعلى الكفر والالحاد .
فى موضوعنا عن الكفر السلوكى يلفت النظر هنا قوله تعالى عن أصحاب النار (كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أى وصف لهم بالكفر فى صيغة مبالغة (على وزن فعول )، فهل الكفر هنا سلوكى بالعمل السيىء فقط ،ام هو مركب من كفر بالقلب والاعتقاد مع كفر سلوكى بالعصيان ؟ الواضح هنا أن صيغة المبالغة تعنى وجود النوعين من الكفر السلوكى و العقيدى ، ولكن بقية الآية تؤكد على أن جانب الكفر السلوكى العملى هو الأقوى لأنهم حين طلبوا فرصة أخرى يخرجون فيها قالوا:( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ) أى فرصة للعمل الصالح ، لم يقولوا ربنا أخرجنا نؤمن بل قالوا ربنا أخرجنا نعمل عملا صالحا غير الذى كنا نعمل . أى إن العمل السيىء هو أساس العذاب فى الجحيم ، وبه يتم تعذيبهم وفق آلية التعذيب التى يتحول فيها العمل السيىء الى جسد للكافر فى النار تتم به دورة تعذيبه، فيكون وقودا للنار ، تستمر به النار اشتعالا ويستمر هو بالنار عذابا الى أبد الآبدين .
وأيضا فهنا إنذار مقدما بما سيحدث يوم القيامة أملا فى أن يهتدى من يريد قبل فوات الأوان .


ثانيا : نتوقف مع هذه الايات الكريمة ( الأعراف 35 : 43 )
1 ـ يقول جل وعلا يخاطب البشر جميعا :(يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ). هنا يأتى تعريف المسلم بكلمتين فقط هما كل من يتقى ويصلح من بنى آدم الى قيام الساعة ، وكل من يتقى ويصلح من بنى آدم فهو من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . بعبارة أخرى فإنه بغض النظر عن أسماء الملل والنحل والطوائف من مؤمن ونصرانى ومن الذين هادوا أومن الصابئين الذين صبأوا أى خرجوا عن الدين السائد لأقوامهم ـ بغض النظر عن كل تلك المسميات فإن من يؤمن بالله جل وعلا ايمانا صحيحا ويؤمن بالاخرة ايمانا حقيقيا ويعمل صالحا فانه سيكون من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (البقرة 62 )(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( المائدة 69 ).
أى إن الله جل وعلا ليس منحازا لطائفة أو عنصر أو شعب ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
2 ـ فى المقابل تقول الآية التالية عن مصير الصنف الاخر : (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أى يأتى وصفهم بالمكذبين لآيات الله جل وعلا والمستكبرين عن الايمان بها ، وهى صفة تنطبق على معظم المسلمين أصحاب الديانات الأرضية الذين يكذبون بمئات الايات القرآنية لو تعارضت مع أحاديثهم ، فمثلا الأحاديث المشهورة فى الشفاعة لا تتعدى أصابع القدم الواحدة ولكن فى سبيلها يكذبون بأكثر من 150 آية قرآنية ، وهناك أكثر من ألف آية قرآنية فى التأكيد على أنه لا إكراه فى الدين وعلى الحرية المطلقة فى العقيدة والمسئولية عن ذلك أمام الله جل وعلا وحده يوم الحساب ، ولكن كل تلك الايات التى تتجاوز الألف آية لا عبرة بها لدى أتباع الدين الأرضى الذين يؤمنون ب ( حد الردة ) مع أنه يقوم على مجرد حديثين اثنين فقط .
إذا مات أولئك المسلمون على هذا الاعتقاد فهم ضمن المكذبين بآيات الله جل وعلا وضمن المستكبرين عنها ، ومصيرهم أن ينطبق عليهم قوله تعالى يوم القيامة (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وللتأكيد على أن آيات الله جل وعلا فى كتابه السماوى هى نقطة الفصل والوصل فى موضوع الايمان والكفر تقول الاية التالية عمّن يكذّب بآيات الله تعالى ويؤمن بافتراءات الأحاديث التى يتكون منها دينه الأرضى (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ).
ولو استعرضنا القرآن كله فى موضوع الكفر والتكذيب لوجدنا جانبا أكبر منه ينصب على تكذيب الكفار بآيات الله فى كتابه السماوى ، ولو راجعنا القرآن الكريم فى حديثه عن أشد الناس ظلما لوجدنا معظمه عن ذلك الذى يفترى على الله تعالى كذبا ويكذّب بآياته ، وذلك فى سياقات مختلفة ، منها ما يتحدث عن مصيره عند الاحتضار وموقفه بين يدى ملائكة الموت ، وقد تكرر هذا فى سورة الأنعام ( 93) وجاء هنا فى الآية السابقة من سورة الأعراف ، حيث تسألهم ملائكة الموت عن أوليائهم وآلهتهم ،مثل البخارى ومسلم والشافعى واحمد ومالك وابن تيمية وسائر الأئمة لدى أصحاب الأديان الأرضية الذين اخترعوا الأحاديث وصنفوا تشريعات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ، فيعترف أتباعهم عند الموت بالضلال والكفر .
تنتقل الاية الكريمة الى مستوى آخر ،لأن الحدث هنا خارج الزمان والمكان ، فالملائكة تتحدث معهم وقت الاحتضار ،حين تشرف النفس على دخول البرزخ استعدادا للانتظار الى يوم البعث ، عندها يصرخ الكافر المكذّب بآيات القرآن الكريم والكتب السماوية ، يطلب من الملائكة أن يرجع الى الدنيا ليصحح خطأه ويأخذ فرصة ثانية (يعمل فيها عملا صالحا ) ، وجاء هذا فى قوله تعالى (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )( المؤمنون 99 :100 ).
ونعود الى الآية الكريمة: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) حيث تكمل ملائكة الموت حديثها معهم بتبشيرهم بما ينتظرهم يوم القيامة من الالقاء فى النار مع من سبقهم ومن سيلحقهم من أمم الضلال : (قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ) وينتقل المشهد الى وصف لما سيحدث وقت دخولهم الى النار : (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) . هذا الجدال و النزاع بين أقوام أهل النار السابقين واللاحقين يأتى معه جدال ونزاع آخر بين المستضعفين و المستكبرين القادة من أهل النار.
وفى كل الأحوال فإن أكاذيبهم فى الشفاعة البشرية لن تغنى عنهم شيئا ، ولن يخرجوا مطلقا من النار ليدخلوا الجنة ، وهذا ما تؤكده الآية الكريمة التالية :( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).
وفيما يخص حديثنا عن الكفر السلوكى والكفر العقيدى نجدهما هنا معا ، فأولئك كفروا عقيديا بأحاديثهم المفتراة وبتكذيبهم لآيات الله جل وعلا وجمعوا مع الكفر العقيدى كفرا سلوكيا استحقوا عليه أن يوصفوا بالاجرام وبالظلم :( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا ) ... (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) ، كما إنهم يعترفون بأن عملهم وما كسبت أيديهم من سوء هو السبب فى تعذيبهم ، (فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ) .
3 ـ ثم تقول الآية التالية عن مصير الذين آمنوا وعملوا الصالحات :( وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أى يقال لهم فى الجنة إن عملهم الصالح هو الذى أورثهم الجنة(وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)(الأعراف 43 ـ )
ثالثا :
الايمان الحق هو الفيصل فى تحديد العمل او السلوك ، والجزاء بالجنة أو النار مترتب على نوعية العمل او السلوك

ولكن هل تجاهلنا الايمان والكفر هنا وأصبح العمل وحده هو الاساس فى دخول الجنة أو النار ؟
الواقع أن الايمان هو الذى يحدد ماهية العمل (الصالح ) أوالعمل الذى سيكون صاحبه (صالحا به ) لدخول الجنة ، أو كما قال جل وعلا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) ( العنكبوت 9 ). وبايجاز نقول :
1 ـ عند البعث يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم من خير أو شر ( الزلزلة 6 :8 ). هذا ينطبق على الجميع من مؤمن وكافر ، وعلى كل الأعمال صالحة و شريرة .
2 ـ عند الحساب يتم ميزان الأعمال وفقا للميزان ، فالكتاب السماوى فى كفة وأعمال كل فرد فى الكفة الأخرى . الكتاب السماوى هو الميزان فى الدنيا ( الحديد 25 ) ( الشورى 17 ) ومفروض ان يحتكم اليه المؤمن ويهتدى به لينجو فى الآخرة ، ولكن الشائع اتخاذه مهجورا أوالتلاعب به و تحريف معانيه أوالسخرية به. وهذا ما يحدث عادة فى تعامل معظم البشر مع (الدين) الالهى، وهم بذلك يمارسون حريتهم ومشيئتهم دون أن ينزل الله جل وعلا جندا من السماء لعقابهم . هو دين الله جل وعلا بلا رادع يرغم الناس على طاعته ، ولكنّ لهذا (الدين ) يوما قادما إسمه (يوم الدين ) ، وفيه تتجسد مكانة الكتاب السماوى ،إذ سيكون ميزانا حقيقيا للأعمال ، وعلى أساس الايمان به أو الكفر به سيكون وزن أعمال البشر فى الاخرة يوم الحساب :(الأعراف 8 : 9 )، فمن كان مؤمنا بالكتاب السماوى وله أعمال صالحة و أعمال سيئة فان الله جل وعلا يضاعف أجر أعماله الصالحة ويكفّر له عن أعماله السيئة ويغفرها له ( العنكبوت 7) ومن كان يكذّب بالكتاب وبآياته فهو ايضا لا يخلو من عمل صالح وعمل سيىء ، والله جل وعلا يحبط عمله الصالح ويضيع ثمرته (الزمر 65 ) فيتحول الى سوء محض يستحق به الخلود فى النار ليكون وقودا لها بعمله يستمر يشعلها بجسده .
ولقد حذّر رب العزة من ذلك مقدما فقال لمن يكفر بالكتاب السماوى (فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(البقرة 24 ) وقال لمن يؤمن به ولا يتجسد إيمانه عملا صالحا وتقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)(التحريم 6 ) .

أخيرا
1 ـ تظل قضية الايمان بالكتاب أساسا هنا ، فالواقع يقول إن معظم من يزعم الايمان بالقرآن إنما هو فى الحقيقة كافر به مكذّب بآياته طالما يؤمن بأحاديث البخارى وغيره ، وطالما يؤمن بأن تلك الأحاديث جزء من الاسلام ووحى من الله جل وعلا. هو بذلك يقع ضمن ممن قال عنهم رب العزة (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ).أولئك هم الذين شوّهوا إسم الاسلام وجعلوه ملتصقا بأخطاء وخطايا المسلمين ومعبرا عنهم ، ومعظم كتاباتنا توضح التناقض بين الاسلام وأديان المسلمين الأرضية أملا فى إصلاح المسلمين بالاسلام.
2 ـ ولكن مهما قلنا فلا يزال هناك من لا يرى فارقا بين الاسلام دينا والمسلمين تاريخا وسلوكا وتراثا . هم يتناسون أن الاسلام هو أوامر ونواهى موكول للبشر تطبيقها بحريتهم الفردية وارادتهم الشخصية ، فإن أطاعوا فهذا لهم ولا شأن للاسلام بما أحسنوا ، وإن عصوا وغيّروا وحرّفوا فهذا عليهم ، وأيضا لا شأن للاسلام بهم .وفى كل الأحوال فالاسلام هو الذى يحكم عليهم ، وليس البشر بطاعتهم أو عصيانهم دليلا على الاسلام أو حكما على الاسلام . والله جل وعلا يقول للناس : (قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا)(الأنعام 104) .
3 ـ ودائما ـ صدق الله العظيم .!!

اجمالي القراءات 15233