تمحيص نظرية النظام القرءاني عند النيلي : القصدية

محمود دويكات في الخميس ٢٧ - نوفمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

يعتمد النيلي اعتمادا قسريا على ما أنتجه في اللغة الموحدة للحفاظ على تماسك ومنطقية القواعد التي وضعها في النظام القرءاني. و اللغة الموحدة عنده قائمة على فرض واحد يشكل العمود الفقري لكامل نظريته في توحيد اللغة ، و هذا الفرض هو ما يسميه القصدية ، وقد جاء بهذا المصطلح في مقابلة (أي معارضة) لما أسماه هو نفسه بالاعتباط . إذن قبل البدء بتعريف كل من الاثنين لا بد أن نفهم أن هذين المصطلحين  كانا من تعريفاته أو من بنات أفكاره نفسه. و أود الاشارة هنا الى أن النيلي نفسه لم يضع تعريفا واضحاً بخصوص القصدية و إن كان قد أكثر من استخدامها ، و لكنه وضع تعريفا واضحا لما أسماه بالحل القصدي ، و هناك فرقٌ كبير بين الاثنتين. على العموم و من استقراء و فهم المراد من أعماله فإن الرجل يأخذ القصدية على محمل ٍ جداً فلسفيّ ٍ  و يعرضها على أنها الحل لمنع و تقليل الاختلافات في تفسير معاني المفردات ليس في القرءان فحسب بل في اللغات جميعها أيضا.

القصدية و الاعتباطية في مقابل الموضوعية و الذاتية:

القصدية تعني أن الشيء قد تم وضعه لذاته (أي بسبب ذاته نفسه فأصبح هو نفسه الموضوع)  و بهذا يكون مقصودا هو عينه ، و لايمكن لشيء آخر أن يسد مسده في أداء مهمته التي وضع لأجلها....و يطرح النيلي تعريفه للحل القصدي كالاتي (الحكم على الموضوع من خلال عناصره الداخلية و الخاصة به من غير تدخل من الحاكم بإخفاء تلك العناصر أو بعضها أو إدخال عناصر غريبة فيها من خارج الموضوع). و يعطي مثال بسيط بعدها بقوله ( فإذا كان الموضوع جملة مفيدة فليس من حق المتلقي إحداث أي تغيير في تلك الجملة مهما كانت أهدافه و غاياته). كان ذلك هو الاساس الذي بنى عليه النيلي كامل القواعد و الاسس في النظام القرءاني ، و الافتراض الجسيم (و الجسيم جدا هنا) هو أن الكلمات (والاحرف) هي أمور ذاتية (أي مقصودة بذاتها) و بالتالي يجب معاملتها معاملة موضوعية. وحقيقة لقد أفرد النيلي كتابا كاملا لتدعيم هذا الافتراض هو كتاب اللغة الموحدة ، و إن كنت أنا شخصيا أتفق مع الكثير من النتائج في ذلك الكتاب إلا أنني آخذ المبدأ على مضض ، و السبب وراء ذلك هو عدم سهولة تعميم مبدأه على باقي لغات العالم و إن كان النيلي نفسه ينادي و يزعم بذلك.  فهو يرى أن الالفاظ إنما تأتي لوصف الحالة الشعورية التي يحملها المسمى أو الحدث عند القائل ، فمثلا : العرب يصفون المسمى الذي يحدث عنده تجمّع و انبثاق بلفظة "باب" حيث أن حرف الباء تفيد هذا المعنى ، في حين عند الانجليز فإن نفس المسمى لا يثير فيهم نفس المشاعر أو الاحاسيس ، بل تثير أحاسيس أخرى لها علاقة بالاندفاع و التكرار ، لذا تراهم يصفونه بلفظة door لانهم يرون أن هذا المسمى يحدث عنده اندفاع بشكل متكرر (و معاني الاحرف هذه - الدال للاندفاع و الراء تفيد التكرار- قد وضحها في كتابه اللغة الموحدة و لم يظهر بشكل واضح من أين قام باشتقاقها و أن كان يزعم أنه اصل اشتقاقها عمل ميكانيكي ) ، و بهذا الشكل نستطيع أن نفهم لماذا يطلق العرب كلمة "باب" على أشياء كثيرة من مثل : باب الرحمة و باب العلم أو الباب الاول من كتاب كذا ، و السبب هو أنهم (أي العرب) قد ربطوا بين تلك المسميات و بين عملية التجمّع و الانبثاق من جديد ، في حين لا نجد غرابة عندما يستسخف الانجليز مثل هكذا ترابطات ما بين الالفاظ  فلا يربطون لفظة door مطلقا مع الرحمة أو العلم أو غيره كما يفعل العرب. و بهذا يكون مثلا اختيار كلمة "شجرة" ليس عشوائيا أو اعتباطيا و إنما بسببٍ مقصودٍ و مبتغىً مصدرُهُ ما تثيره المسميات أو الاحداث في نفس القائل .فلا يمكن أن تحل مفردة أخرى محل مفردة "شجرة" لوصف المسمى عينه.

هنا يجب التفريق ما بين الحكم الموضوعي و الحكم الذاتي على الامور (و الوظائف) . فالحكم الموضوع أو الموضوعية (Objectivity) تعني أن الشيء المحكوم عليه يمتلك خصائص منفصلة و مستقلة عن الشخص الحاكم و بالتالي يكون الحكم محدودا ضمن هذه الخصائص التي تمثل ذات الموضوع ، أما  الحكم الذاتي أو الذاتية (Subjectivity) فهي تجاهل تلك الخصائص التي في الشيء المحكوم عليه و من ثم إطلاق حكم نابع من ذات الشخص على الموضوع. أي باختصار شديد الموضوعية تجعل الحكم مربوطاً و محدوداً في الشيء نفسه المراد الحكم عليه ، أما الذاتية فإن الحاكم يشرك نفسه في (بحسب أهواءه) في الحكم على الموضوع فيصبح الحكم مختلفا باختلاف ذاتية الحاكم (يعني كل واحد يضع حكما على مزاجه). و في مقابل القصدية يعتبر النيلي ان ما هو شائع من قواعد لغوية إنما مردها الى الاعتباط والذاتية في الحكم و أن لا شيء حقيقة يجمع فيما بينها. فهو يرى أن الاعتباط عبارة عن ( حكم ذاتي المنشأ – أي من شخص الحاكم – على موضوع ما منكرا أو متجاهلا عناصره الداخلية كلا أو جزءاُ). فالاعتباطية هي شيء يشبه العشوائية في الحكم على الامور بعيدا عن خصائصها و عناصرها الحقيقة.  وبالتالي فإن القصدية التي يدعو لها النيلي تكون في مجملها نداءاً الى تطبيق الموضوعية في فهم مفردات اللغة (والقرءان) بعيدا عن الذاتية التي سادت لقرون طويلة.

و يطرح النيلي قصة أدم كأول مثال يضربه الله تعالى للبشر من أجل التفريق ما بين الحكم الموضوعي و الذاتي ، ففي تلك القصة كان الشيء المراد الحكم عليه هو السجود لأدم ، فجاء حكم الملائكة موضوعيا أي التزموا بمعطيات الموضوع ولم يقحموا أنفسهم فيه ، في حين جاء حكم إبليس ذاتيا إذ انه أشرك نفسه في الحكم و تجاهل الموضوع الاساسي بعناصره التي ليس له أي مقدرة على تغييرها أو البتّ فيها أبدا.

إذن ؛ القصدية في اللغة تعني أن الالفاظ قد وضعت بشكل مقصود و متعمد و انه لا يمكن ان تسد كلمة مسد كلمة أخرى .. فهي (أي الكلمات) مقصودة لذاتها نفسها. و بالتالي عند تفسير كلمة بكلمة أخرى يكون هذا نوعا من التحريف أو التقريب و إن أقرب تفسير لكلمة يكون بجملة من الكلمات و ليس بكلمة أخرى ، و بهذا الفرض الجسيم جدا ألغى النيلي ما نعرفه بالمترادفات و الكثير الكثير من قواعد اللغة المشهورة (كما سنقوم بمناقشة ذلك في حلقات لاحقة). و أما في القرءان فإن القصدية تعني أن المفردات القرءانية مقصودة في ذاتها و في موقعها و في تركيبها و في ترتيبها و أنه لا يمكن أن يسد أي تركيب أو ترتيب أو كلمة أخرى مسد الكلمات الموضوعة في الأصل.. فهي مقصودة بذاتها من أجل أداء مهمتها. و هذا التعريف للقصدية في القرءان هو نتيجة حتمية لنظرية القصدية في اللغة، و ذلك لأن القرءان مصنوع بشكل عام من نفس الكلمات المستعملة في اللغة العربية. و بالتالي فإن القصدية تعنى أن هناك مقصدا محددا لكل شيء (كلمة)  في القرءان.

النتيجة الاساس لفرض القصدية :

يمكننا اعتبار نقض الترادف بمثابة حجر الزاوية الاساس الذي أقام النيلي بناء النظام القرءاني عليه (من وجهة نظره اللغوية). فاللغة – مثلا -  تفشل في تفسير وجود الترادف في اللغة و لا تعطي له معنى سوى أنه استخدامُ ألفاظٍ مختلفةٍ للدلالة على نفس المعنى ، في حين يرى النيلي ان تلك الظاهرة ليست ترادفا أبدا ـ فيرى أنّ وجودَ ألفاظٍ متقاربةٍ في المعنى إنما هو لأظهار ظلال و تدرجات متفاوتة في المعنى باختلاف الكلمات. فمثلا في قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)حجر:26 فإن التفسير اللغوي لكلمة مسنون يكون بالترادف أي بقولهم (أي علماء اللغة) أن مسنون مرادفة لـ" متغير بمعنى متعفن" و هذا تفسير يعني أن المفردتين تؤديان نفس المعنى و هو ما يراه النيلي عبثاً بالقرءان و باللغة من قبله.  فهو يرى أن مسنون كلمة يجب أن تعامل موضوعيا لا ذاتيا أي يجب البحث عن خصائص و محددات الكلمة في المجال المذكور (القرءان) و ليس أن نحكم بالترادف حكما ذاتيا قائماً على ميول و هوى علماء اللغة ، ففي القرءان نجد أن كلمة مسنون قريبة جدا من أن تكون مشتقة من "السنة" – سنّ يسنّ مسنوناً -  فبالتالي فإن قول الله تعالى "مسنون" أي فيه يوجد سنن مسنونة و محددة على شكل قوانين و سنن (و قد يعطي هذا المعنى إشارة الى تراكب الاحماض الامينية التي كانت اللبنات الكيميائية الأولى لبناء البروتينات و التي يعتقد معظم العلماء بانبثاق الحياة منها) . لاحظ ان الحل القصدي يستلزم العودة و البحث في المجال المذكور فيه موضوع الحكم ،و هو بهذا يرفض اي حكم من خارج الموضوع.  و تتفاقم المشكلة مثلا في نفس المثال أعلاه عندما يفسر اللغويون كلمة "حمأ" بانه متعفن أيضا على الترادف ، فبهذا التفسير الاعتباطي (أي الذي لا يسير على هدىً) ترى أن اللغويين يجعلون كلمتي "حمأ مسنون" كلها مرادفة في المعنى لكلمة طين أسود منتن أو متعفن (إنظر اللسان) فعندها يصبح و كان القرءان يعيد نفس المعنى في قالب لغوي مكرر و مبتذل ممل. و لهذا كان الحل (في نظره) هو نفي الترادف و القول أن كل كلمة إنما لها معنى قد يكون مختلفا جدا أو قليلا عن الكلمات الاخرى المشتبه بترادفها للكلمة الاصل.

و يخوض الاستاذ النيلي لتبيان عدم وجود الترادف فيعطي المثال التالي ، و يقول (فلو أخذت أي جملة تامة المعنى مثل (إني أكتب كلماتي على الورق) وقمت بتثبيت الجملة مع تغيير لفظ واحد أكثر من مرة هكذا:

1- (إني أكتب كلماتي على الورق) ، 2 -  (إني أسجل كلماتي على الورق). 3-  (إني أسطّر كلماتي على الورق) ، 4-  (إني أحفظ كلماتي على الورق) 5- (إني أضع كلماتي على الورق) ، 6-  (إني أرسم كلماتي على الورق)

فمن المؤكد أن كلّ عاقلٍ وبليغٍ يرى اختلافًا كبيرًا بين هذه التراكيب من حيث المراد الأساسي للقائل. ولا يمكن أن يزعم زاعم أن الأمر سواء في جميع هذه العبارات.  فالسامع يفهم من جملة (أحفظ كلماتي) أن القائل يؤكد على الحفظ ،ويتبادر إلى ذهن السامع أن القائل يفعل ذلك لأنَّه يخشى من ضياع كلماته. وحينما يقول (أرسم) فإن السامع يفهم أن القائل مهتم بالخطوط وصورتها وأنه (معجب) بكلماته إلى حد إنَّه يرسمها رسمًا. وحينما يقول (أُسطِّر) فإنَّه مهتم بإظهار محاسن كلماته بل محاسن نفسه وقدرته على (التسطير)، وهكذ ا.. فإن تغيير اللفظ قد غير المفهوم الناتج من التركيب تغييرًا كاملا، فلا يمكن أن تكون الأفعال الستة مترادفة في المعنى أو متساوية فيه مع ثبوت باقي مفردات التركيب على حالها لفظًا وترتيبًا. إن تغيير اللفظ الواحد لا يؤّثر فقط على المعنى المقصود أو الأساسي وحده،بل يؤثر على باقي مفردات التركيب ظهورًا وخفاء. فقوله (أسجّل) أظهر أهمية المركب (على الورق) بشكلٍ أكبر مما في قوله (أرسم) أو قوله (أكتب). لماذا؟.. لأنَّه حينما يكتب فإنَّه يقوم بعملٍ عادي جدًا ويكون ذيل الجملة (على الورق) مجرد إتمامٍ للعبارة ليس مهمًا أهميًة خاصة. ولكن في جملة (أسجل) يفهم السامع أن القائل لا يخبر من خلالها خبرًا عابرًا ولا يقصد الحفظ من الضياع ولا ينوّه عن محاسن كلماته، بل يخشى التحريف والتزوير في كلماته، فلذلك يقول إنّه يسجلها على الورق. فيدرك السامع أن المتكّلم ينفي هنا أن تكون كلماته مشافهةً وحسب بل يسجلها لغرض التوثيق وظرف هذا التوثيق هو الورق. فيكون ذيل الجملة بالغ الأهمية وجزء من المقصود)

بعد أن وضحنا هنا  بشكل مختصر المقصود بالقصدية عند النيلي ، سنبدأ إن شاء الله بعرض منهجه و قواعده في النظام القرءاني ـ و رغم أنه يعتمد على اللغة الموحدة في الكثير من نتائجه في هذا الكتاب إلا أننا لن تخوض بفلسفات اللغة الموحدة كما عرضها هو في كتابه الذي يحمل نفس الاسم ، و بالتحديد لن نخوض في فهم معاني الحروف (و هو مبحث عظيم جدا قد يستهلك عمرا كاملا لتمحيصه ) و لكننا سنعود إن واجهتنا مشقة في فهم ما يريد قوله في النظام القرءاني فإننا سنعود الى اللغة الموحدة لفهم ما يرمي اليه ، و نريد التأكيد هنا أننا لا نأخذ ما أنتجه هذا الرجل على أنه علمٌ صرف مختوم و مبرهن و محكم ، بل نأخذه على أنه مجموعة من الاراء التي وضعت لفهم القرءان فهماً بأقل تكاليف الاختلافات.

اجمالي القراءات 19936