صفوت الشريف.. أخطر رجل في مصر
صفوت الشريف.. أخطر رجل في مصر

نبيل شرف الدين في الثلاثاء ١٨ - نوفمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

وحدها المصادفة التي قادتني ذلك الخميس المشؤوم إلى وسط القاهرة في ذلك الوقت الذي كانت زجاجات المواد الحارقة تنهمر فيه على مكتب المعارض السجين أيمن نور، بينما كانت تتصاعد ألسنة اللهب وسحب الدخان من النافذة لتغطي تمثال طلعت حرب باشا، أحد أبرز صُنّاع نهضة مصر الحديثة، ولا أدري لماذا ألحتّ على مخيلتي ساعتها صورة صفوت الشريف، وهنا يجب الاعتراف بأنني لا أدري حتى الآن تفسيراً لهذا الهاجس الشرير، إذ لا أمتلك بالطبع رفاهية توزيع الاتهامات مجاناً ودون دليل على خلق ال&aacucute;ه.
تزاحمت في رأسي الأسئلة: هل كان يجرؤ أحدهم أن يُقدم على هذا التحرش الخشن باطمئنان وثقة، لولا أنه رأى ضوءاً أخضر أنار طريقه، وهوّن عليه تبعاته، خاصة وأن هناك سوابق تعزز هذه الظنون، يعرف بعضها قادة أحزاب الوفد والأحرار والعمل وغيرها، وكان البطل الحقيقي الواقف خلف الكواليس هو "أخطر سياسي في مصر"، والذي سيمنحك للوهلة الأولى شعوراً بالاطمئنان إليه، لا يلبث للمرء أن يكتشف مدى سذاجة الانطباعات التي لا تليق بالأسلوب الذي ينبغي أن يتعامل به العاقل مع حنكة رجل كهذا، والتي جعلته دائماً يتصدر المشهد العام ويفرض نفسه على الجميع حتى من لا يضمرون له أي قدر من الارتياح.
بالطبع لا يمكن لصاحب ضمير يقظ، أن يحمّل المعارضة وحدها، المسؤولية عما شهدته تلك الأحزاب من أزمات ومعالجات خرقاء لمشكلاتها الداخلية، فالمعارضون على دين حكوماتهم، وهذا لا يعني أن المعارضة بالضرورة جزء من منظومة الحكم في بلادنا، لكنها بالتأكيد جزء من النظام السياسي، لأن المعارضة في شتى دول العالم المتحضر لا تبقى في مقاعدها إلى الأبد، كما يحدث في مصر وغيرها من دول المنطقة التي تخضع لحكم الأنظمة الشمولية، بل تتبادل الأدوار مع الحكومة عبر انتخابات نزيهة وفرص متكافئة.
وبعيداً عن هذا التنظير السخيف، دعونا نعترف بداية أن الحزب الوطني (الحاكم) لم يعد في حاجة لخدمات رجل من طراز كمال الشاذلي، فقد انتهت حقبة الحرس التقليدي الفجّ وصارت الأمور الآن في عهدة جيل جديد يعتمد "القوة الناعمة" أسلوباً في معالجة الأزمات، كما لم يعد النظام يحتمل أعباء رموز آخرين من قادته القدامى مثل يوسف والي بعد أن احترقت كافة أوراقهم، لكن صفوت الشريف لم يتزحرح عن موقعه خطوة واحدة، لسبب وحيد وهو أنه جعل النظام بحاجة ماسة لمهاراته وقدراته، ولعلنا لا نذيع سراً إذ قلنا إنه بات ينظر إليه باعتباره أحد عناصر التوازن داخل الحزب، كما تسهم طريقته الناعمة في ضبط المعادلات المرشحة للتصادم داخله، وتحول دون حدوث انفلات سياسي غير محسوب العواقب.
"موافي" هو الاسم الحركي للشريف أثناء عمله بجهاز المخابرات العامة، وباستقراء تاريخ الرجل وتراثه السياسي، سوف نكتشف أنه ظل يمتلك ناصية القدرة على نسف كل التوقعات منذ أن ترك العمل بالمخابرات إثر اتهامه في القضية الشهيرة، وكان هناك من كان يظن أن مستقبله المهني والسياسي انتهى للأبد لكنه عاد كالطائر الأسطوري ينطلق من بين الرماد، وبعد سنوات تربع على عرش "هيئة الاستعلامات" إبان زمن مجدها، وبعد ذلك آلت إليه حقيبة الإعلام حيث يجمع أنصاره وخصومه على أن فترة ولايته، التي امتدت لحقبة استثنائية، تبدو تجربة غير قابلة للتكرار، وحين ترك منصب وزير الإعلام عام 2004 تخيل كثيرون أنها نقلة شرفية تستهدف تقليص دوره السياسي، لكن الرجل نجح في إعادة الحياة لدور مجلس الشورى، كما استفاد أيضاً من رئاسته للجنة شؤون الأحزاب وجعل منها لاعباً هاماً على الساحة، فراح يسبغ على حزمة من أحزاب الأنابيب عباءة الشرعية، بغية تسفيه العمل الحزبي وابتذاله، فحين تجد قامات سياسية لها تاريخها السياسي الطويل ـ اختلفنا أو اتفقنا معهم ـ قد أصبحوا يجلسون على طاولة واحدة مع الصبية والمهرجين، الذين أصبحوا ـ بفضل بركات السيد موافي ـ قادة حزبيين، وبالتالي فلن يجد السياسيون المحترفون خياراً سوى الانسحاب من هذا المشهد العبثي، خاصة في ظل تقدم العمر بمعظمهم، ويأسهم من إمكانية التغيير في المدى المنظور.
"هذه الوجوه من رموز الحرس القديم تكلست وتجاوزتها الأحداث، وأصبحت عبئاً على النظام ينتقصون من رصيده ولا يملكون ما يضيفوه إليه"، هذه العبارة المفعمة بالمرارة قالها لي قيادي من العيار الثقيل في الحزب الوطني قبل أعوام، كما تحدث عمن وصفهم بأنهم "يعملون على تلغيم النظام، بعد أن تأكدوا من أنهم صاروا قاب قوسين أو أدني من الرحيل رغم أنهم ظلوا في مواقعهم مدة لا يحلم بها من سيخلفونهم".
وبالفعل تحققت نبوءة أو بشارة قيادي الحزب الوطني ـ وقد سمعته بأذني إذ تربطني به علاقة إنسانية لا ينتقص منها خلاف في الرأي ـ وأزيحت بعيداً عن المشهد وجوه مثل يوسف والي وكمال الشاذلي وغيرهما، وحينها تعمد "الرجل الحديدي" تسريب أنباء وتصريحات تؤكد أن نفوذه لم يتداع بعد، وأن النظام لم يزل في حاجة إلى خدماته، التي لا يملك غيرهم تقديمها ببراعته، خاصة وأن لديه "تراثاً شخصياً" كمهندس للأدوار الخفية، وقد أصبح بفضلها أحد أيقونات عهد مبارك، الذي ورثه ضمن تركة السادات السياسية كأحد الوجوه التي اقتحمت العمل العام انطلاقاً من تمرسها في الخدمة السرية.
ولأن الشريف لم يكن يوماً من طراز الرجال الذين يقبلون أدواراً شرفية، أو يرتضون "نصف حضور" في أي مكان عمل فيه، بل كان دائماً لاعباً مهماً على اختلاف الأدوار وتنوع المهام وحجم المسؤوليات وأهمية القرارات، عبر مسيرة طويلة بدأت منذ خمسينات القرن المنصرم.
وانطلاقاً من هذا فإن الشريف خلال فترة رئاسته القصيرة لمجلس الشورى المصري لم يكن امتداداً لسلوك سلفه مصطفى كمال حلمي، الذي كان معروفاً بقدرته على امتصاص كافة الأطراف، وتمكن بدماثته المعهودة من تفادي الاصطدام بأي من ممثلي القوى بالمجلس الذي لا يتمتع بصلاحيات تشريعية تضارع تلك التي يحظى بها صنوه في البرلمان، مجلس الشعب، لكن مع ذلك فإن مجلس الشورى هو المالك القانوني لكافة المؤسسات الصحفية القومية (الحكومية)، ومن هنا كانت أولى ضربات أو "خبطات الشريف" التي أطاح فيها رؤوساً لم يكن هناك من يتخيل أن يشاهدها تطير في الهواء، في عهد الرئيس مبارك على الأقل، كما كان يردد بعضهم في مجالسهم الخاصة بأن وجودهم في مناصبهم يرتبط بوجود الرئيس ذاته.
وأخيراً تذكر الصحفيون أن هناك كيانا اسمه "المجلس الأعلى للصحافة"، حدث هذا بعد تولي الشريف منصبه بحكم رئاسته لمجلس الشورى، ولم يمض وقت طويل حتى صدرت التراخيص لحزمة صحف خاصة أصبحت تتصدر المشهد المهني، كما تسابق رؤساء تحرير الصحف الحكومية في خطب ود الرجل، خاصة في مثل هذه الأيام حيث تحتدم لعبة الكراسي الموسيقية على أشدها، ألم أقل لكم إنه أخطر رجل في مصر؟.

اجمالي القراءات 33074