ظاهرة القـَسَم ِ في القرءان ، و نظرية فراهي في تفسيرها

محمود دويكات في الإثنين ١٧ - نوفمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

في هذا المقال ، سأعرض بشكل مختصر ورقة بحثية للدكتور مستنصر مير يناقش فيها نظرية الباحث حميد الدين فراهي (وهو من الهند) في تفسير ظاهرة القسم في القرءان. و المقال موجود على موقع مجلة النهضة الاسلامية في باكستان ـ التابع لمؤسسة المورد للعلوم الاسلامية.

الورقة البحثية أصلا مكتوبة باللغة الانجليزية  ، و أنصح من يجيدونها ان يطـّـلعوا عليها ( من خلال الضغط هنا) ، و أنا هنا لا أترجم و لكني أسير مع الكاتب في محاولة فهم ما يريد توصيله لنا .

و فيما أعرض هنا يكون اللون الأزرق منقول  "بتصرف"  عن ما جاء في مقال الدكتور مستنصر مير المشار اليه في الرابط. تعليقي دائما باللون الاسود و دائما اللون الاحمر يكون لايات القرءان.

تمهيد بسيط: 

كثير من سور القرءان تحتوي على قـَسَم ،  حيث يقسم الله بالشمس و القمر ، و الليل و النهار ، و التين و الزيتون.. الخ . و مع أن الكثيرين من العلماء المسلمين و الغربيين على السواء انتبهوا لهذه الظاهرة في القرءان ، إلا أن تفسيرا مقنعا لم يحصل الى الان. عدم الحصول على تفسير مقنع لظاهر القسم في القرءان (و الأحرف المقطعة) جعل الكثيرين من العلماء ، من مثل ابن حزم (ت 1064م)، يعتقدون أن الايات التي تحتوى القسم و تلك الاحرف المتقطعة تساوي بمجموعها "الايات المتشابهات" التي تحدثت عنها  آية رقم 7 من آل عمران (بمعنى لا يعلم مغزاها الحقيقي سوى الله بحسب تعريف ابن حزم للتشابه).  و حاول البعض الآخر تفسير لماذا يكرر الله القسم في القرءان على اختلاف المواضع ، من أمثال محاولات إبن القيم (ت 1356م) في كتابه "التبيان في أقسام القرءان" ، إلا أنهم لم يفلحوا في وضع نظرية متناسقة و نظامية لتفسير هذه الظاهرة .

في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وضع الباحث المسلم حميد الدين فراهي "Farahi"  (نسبة الى مولده في قرية Phreha في الهند) (1863-1930م) نظرية أكثر اتساقا و تناسقا و جدّية و أكثر منطقية ممن سبقه في تفسير لماذا يكرر الله سبحانه القسم بالكثير من الأمورفي القرءان.  في البدء قام الاستاذ فراهي بوضع نظريته حول ظاهرة القسم في عدد محدود من آيات القرءان التي تحتوي قسما ، و من ثم تركها لتلاميذه لكي يكملوا مشروعه فحاولوا تطبيق نظريته على باقي الايات .

الرأي القديم السائد حول ظاهرة القسم في القرءان

يعرض كاتب المقال التعريف التقليدي العام لجملة القسم حسب أحد المصادر التاريخية، حيث يقول ناقلا عن الزركشي (ت 1392م) : " القسم جملة يؤكّد بها الخبر"  و هو ما كرره السيوطي من بعده (ت 1505م) حين قال أن القسم "يقصد به تحقيق الخبر و توكيده" ،  و من ثم يعطي (الكاتب) أمثلة حول كيف كان الدارسون القدماء ينظرون الى آيات القسم. باختصار:  يدور الفهم القديم لآيات القسم حول محور التأكيد و التوكيد و إظهار جانب عظمة و أهمية الشيء المقسم  به أو المقسم  عليه أو كليهما.  فعندما يقسم الله بـالأول على الثاني، فمن المحتمل أن الله سبحانه أراد التأكيد على الثاني  و إظهار أهميته و أيضا يريد التأكيد على عظمة الامر الأول و أهميته .. و يسوق الكاتب أمثلة على هذا الفهم من بطون كتب التفسير القديمة من مثل كتاب الرازي (ت 1230م) و الزمخشري (ت 1144 م) و غيره.

و يعطي بعدها تعليقا على هذا الفهم القديم ، فيقول:"و المشكلة في هذا التفسير التقليدي لايات القسم في القرءان هو عدم قدرته على إجابة التساؤل حول طبيعة العلاقة ما بين المقسم به و المقسم عليه" .. فكمثال بسيط: لو اخذنا قوله تعالى (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم ..الخ ) فإن القول التقليدي أن الله قد أقسم بالتين و الزيتون ..الخ لكي يؤكد على الحقائق التالية "خلق الانسان في أحسن تقويم و ما يليه"  هو قول يعجز عن توضيح العلاقة ما بين التين و الزيتون و طور سينين و هذا البلد الأمين "مكة" و ما بين خلق الانسان في أحسن تقويم و من ثم ردّه أسفل سافلين.

يتابع صاحب المقال أنه" إذا لم يكن هناك ثمة علاقة ما بين المقسم به و المقسم عليه ، فإن تبديل كلمات القسم في مكان بكلمات قسم أخرى من مكان آخر يجب أن لا يعطي فرقا في النتائج و ذلك على فرض أن النتيجة النهائية هي تعظيم كلٍ من الامرين منفصلين: المقسم به و المقسم عليه "  . يعني لو كان الغرض من القسم هو مجرد إظهار عظمة و أهمية الامور المذكورة في أيات القسم ، لما كان لدينا مشكلة في قراءة الترتيب الاتي:" و القلم و مايسطرون ، لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم" على فرض أن الغرض من القسم هو فقط إظهار عظمة و التوكيد على أهمية القلم و الكتابة و خلق الانسان في أحسن تقويم.. إن التفسير التقليدي للقسم يفشل في حتى مجرد وضع فرضية تصلح لتفسير الترابط  و العلاقة (إن وجدت) ما بين المقسم  به و المقسم  عليه.

و يذهب صاحب المقال بعيدا فيقول أن عدم قدرة المفسرين التقليدين على فهم طبيعة و مغزى القسم في القرءان كان هو السبب وراء انتشار الاعتقاد السائد أن الله عندما يقسم بشيء فإنه يكون بهدف تعظيم ذلك الشيء و توكيد المقسم عليه. و يذكر صاحب المقال "انه كان هناك نوعان من القسم بحسب ما كان متعارف عليه قبل نزول القرءان: اولهما قسم الشعراء ، و هو ما يستخدمونه في قصائدهم من مثل: لعمرك ، لعمري ، لعمر أبيك ، بربك ، برمحي ـ بسيفي ..الخ و بهذا القسم يبدو أن الشاعر كان يحاول إظهارعلاقة من نوع ما بين طبيعة القسم و طبيعة الكلام الذي يتبع من أجل توكيد وجهة نظره (أي الشاعر) حيال المسألة المقسم عليها. و النوع الثاني من القسم هو ما يطلق عليه قسم الكهّان ، و هو الاتيان بأمور وظواهر طبيعية يقسم بها بغية إشهار التوكيد حول المقسم  عليه .. من مثل أن يقسم بالليل أو النهار ..الخ . و لايظهر أيضا نوعية العلاقة ما بين اختيار المقسم  به و المقسم  عليه ، بل تكون اعتباطا.  و بما أن طبيعة القسم في القرءان كان غامضا للمفسرين القدماء فإنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء عقد مقارنة بين نمط متحدثي اللغة (الشعراء) في إنشاء القسم و بين الكيفية التي يأتي بها القسم في القرءان ، و السبب البديهي لذلك عند اولئك المفسرين أن الشعراء عندما يقسمون فأنهم يفعلون ذلك بدافع رفع شرفهم و إعلاء كلمتهم أمام الخصوم ـ و هو ما لا يحتاجه الله أبدا. لذا فقد أسقط المفسرون من حسبانهم وجود علاقة منطقية ما بين المقسم به و المقسم عليه في القرءان ، و اكتفوا بالقول أن القسم في القرءان هو بمثابة نوع من التوكيد البلاغي فقط للمقسم عليه ، وإظهار عظمة المقسم به.

نظرية فراهي في فهم القسم القرءاني:

يفترض فراهي أن "الهدف من القسم هو تقديم محاورة منطقية استدلالية و دليل إثبات منطقي، حيث يكون  المقسم به بمثابة جملة من الأدلة المنطقية لإنشاء صلاحية المقسم عليه". إن نظرية فراهي هذه تعطي عمقا تاريخيا و لغويا للقسم القرءاني من حيث أن النص القرءاني قد تم إنزاله في بيئة تسيطر عليها عقلية الاعتماد على القسم و الأيْمان لتوثيق العقود و تصديق المعاهدات. و التصديق كان في الغالب يتم بالمصافحة الشديدة باليد اليمين ، و منه أطلق كلمة اليمين على القسم ـ أو غمس الايمان في الماء أو الدماء بحضور شهود لإعطاء قوة للشهادة و الحضورالمشتركين في القسم ، حيث يكون المقسم به (دماء مثلا أو ازلام أو غيرها) بمثابة دليل قائم يشهد على حقيقة المقسم عليه (من أفعال أو اتفاقيات ..الخ).

من خلال نظريته ، فإن فراهي يقدم لنا مسألتين في غاية الاهمية: الأولى هي تقديم طريقة نظامية و تطبيقية في فهم النص القرءاني بعيدا عن الطرق التقليدية و التي تعتمد على النظرة الدينية  او اللاهوتية البحتة ، حيث يبني فراهي نظريته على أسس لغوية و منطقية و تاريخية مدعيا أن فهم الظروف و البيئة الاجتماعية التي أحاطت بنزول النص شيء ضروري لفهم النص المقدس نفسه.  و المسالة الثانية هي أن المقسوم به لا تعدو أهميته عن كونه  أداة  منطقية لإظهار صلاحية المقسم عليه. و بهذا يكون القسم نوع من أنواع التعليل و الاستدلال المنطقي في القرءان ، حيث لا يصبح الهدف من القسم مجرد التأكيد على عظمة المقسم به (أو عليه) و إنما يصبح هدفه إظهار العلاقة ما بين المقسم به و المقسم عليه ، حيث يكون المقسم عليه هو النهاية أو الغاية و المقسم به هو الوسيلة لفهم صلاحية تلك الغاية.

تطبيقات على نظرية فراهي:

قام فراهي (من خلال كتاب له في تفسير بعض السور)  بتطبيق نظريته على ست حالات تحتوي كل منها قسماً معيناً،  و هذه الحالات الستة يمكن تقسيمها الى أربع مجموعات. الأولى قسم متعلق بظاهرة طبيعية ، والثانية قسم تاريخي حيث يشير الى مكان أو حدث تاريخي و الثالثة قسم متعلق بتجربة  أو حقيقة أنسانية ، و الرابعة ما يمكن تسميته قسم ازدواجي ، حيث يتم فيه الاشارة الى شيء على أنه عضو من زوج و بالتالي يتم استنتاج العضو الثاني بناء على التماثل أو التشابه ما بين الازواج المقسم بها

قسم متعلق بظاهرة طبيعية:

من الاقسام المنتمية لهذا النوع قام فراهي بدراسة نوعين ، بالتحديد سورة الذاريات و سورة المرسلات. ففي الذاريات ،  قوله تعالى (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا «1»  فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا «2»  فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا «3»  فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا «4»  إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ «5»  وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ «6») فإن المقسم عليه (الايات 5-6)  جاء يظهر لنا أنه لا بد من جزاء لأعمال الانسان ، و جاء المقسم به (الاية 1-4) كدليل داعم لهذه الفكرة. وهنا نرى أن كاتب المقال و من وراءه الاستاذ فراهي يفترضون ان المقصود بصدق الوعد هو صدق الجزاء أو العقاب على ما يقدمه الانسان من أفعال ، و أن وقوع الدين عند الله هو إيفاؤه بوعوده طالما أوفوا بوعودهم . يتابع صاحب المقال فيقول ما معناه أن الدليل المتوفر من خلال المقسم به هو كون الذاريات و الحاملات و الجاريات و المقسمات (و هو يفسرها بالرياح و المياه و البحار و الامطار على التوالي) قد اشتركت في إحداث جزاء أو عقاب عادلين. فنفس الماء الذي أغرق الله به فرعون و ملأه و قوم نوح ، أنقذ الله به موسى و نوح عليهما السلام ومن اتبعهما. المراد توضيحه هنا ، كما يقول الكاتب هو "أن الله يسير الامور من ظواهر طبيعية بحسب ما يتصرفه الانسان.. فقد يسخر ظاهرة طبيعية في خدمة قوم شكروا و قد يجعلها نفسها عذابا على قوم قد كفروا.. و أيات القسم في سورة المرسلات (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا «1»  فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا «2»  وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا «3»  فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا «4»  فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا «5»  عُذْرًا أَوْ نُذْرًا «6»  إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ «7») يمكن فهمها بنفس العلاقة ما بين المقسم به (ايات 1-6) و المقسم عليه (أية 7). " ...  .. في الواقع لا يبدو لي واضحا ماهية العلاقة التي يحاول الكاتب و من وراءه فراهي توصيلها إلينا ،و لكنها بلا شك محاولة قيمة و مثيرة للأهتمام و المتابعة ، على الأخص في الأسلوب.

- قسم تاريخي:

في هذه المجموعة تقع سورة التين و سورة العصر.  ففي سورة التين قوله تعالى (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ «1»  وَطُورِ سِينِينَ «2»  وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ «3»  لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «4»  ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ «5»  إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ «6»..الخ)  ليس الموضوع مجرد إظهار أهمية و عظمة التين و الزيتون و ما يليهما مقارنة بغيرها من الامور، و لكن هذه الايات تقدم لنا جملة من الادلة المنطقية على ما أقسم الله عليه في الايات (4-6). فمن المعروف أن من عادة العرب تسمية المكان بأكثر شيء مشهور به .. لذا من المحتمل أن مفردتي "التين و الزيتون" إنما يشيران الى أسماء أماكن تاريخية مهمة. فكلمة التين هنا ليس المقصود بها ثمر التين عينه ـ و إنما قد تحمل إشارة الى حادثة وقعت لأبوينا آدم و زوجه عندما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، خاصة وأن التوراة تخبر أن تلك الاوراق كانت من شجر التين (لست أدري عن هذا الزعم و قد ذهب اليه فراهي نفسه)  و بالنسبة للزيتون فقد يكون المراد بها الاشارة الى جبل الزيتون في القدس و هو المكان الذي يعتبره المؤرخون الموضع الذي أصلح فيه عيسى المسيح عليه السلام المعبد لعبادة الله مما أحدث أنفصالا ما بين بني أسرائيل وقتها مؤذنا ببدء رسالته
(
وهذا أيضا مما زعمه فراهي استنادا لأسفار العهد الجديد).  ونفس الشيء يقال عن طور سينين ، فمن المحتمل جدا أن يكون المقصود به المكان الذي تلقى فيه موسى عليه السلام الالواح من الله. و أيضا نفس الشيء بالنسبة لهذا البلد الأمين ، مكة ، و هو نفس المكان الذي تلقى فيه محمد عليه السلام القرءان من الله. .. إذن الاشياء المقسم بها (الايات 1-3) قد تكون أسماء اماكن مرتبطة بأحداث تاريخية جدا مفصلية في حياة الانسان ..و في هذه الاماكن كان الله يجازي الذي أمنوا بالتمكين و يعاقب العاصين و المتمردين من الناس .. فهي بذلك دليل ناصع على إثبات المقسم عليه (الايات 4-6) حيث تقول الايات إن من ينجو هو الذي يؤمن و يستغل طاقته مما أعطاه الله حيث خلقه في أحسن تقويم ..

و أما سورة العصر (وَالْعَصْرِ «1»  إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ «2»  إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ «3» ) فأن كلمة العصر تترجم على أنها وقتٌ تاريخيٌّ منقض ٍ أيضا . فحسب نظرية فراهي في فهم هذه الايات: فإن الله يقدم لنا التاريخ كدليل على الخسران الذي يحصل في الانسان (باستثناء اولئك الذي ينطبق عليهم الوصف في الاية). أي أن القرءان يقول لنا إن قيام و انهيار الامم و الحضارات منوط بمدى التزامها بالقيم و الاخلاق و التواصي ، و يقدم لنا القرءان التاريخ كدليل على هذه الحقيقة.

- قسم متعلق بحقيقة إنسانية:

في هذه المجموعة يأخذ سورة القيامة ، قوله (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ «1»  وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ «2»  أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ «3»  بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ «4»  بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ «5»  يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ «6») . نستطيع القول هنا أن المقسم عليه (رغم أنه غير مذكور في موضع مقسم عليه) هو نفسه المقسم به. حسب ما يقوله فراهي في بعض الاحيان يكون الامر جلي الوضوح لدرجة أن الدليل عليه هو من ذات نفسه. و هذا ما ينطبق هنا. فالله يقسم بيوم القيامة و يقدمها نفسها كدليل على حدوثها نفسها. و نلاحظ أيضا من الاية رقم 2 أن مقسماً به آخرَ (و هي النفس اللوامة) يقدم لنا دليل إضافي على حتمية وقوع يوم القيامة. يريد الكاتب ان يقول هنا إن النفس اللوامة هي ما نسميه نحن هذه الايام بالضمير الداخلي للأنسان و الذي يحاسبه على الكثير مما يفعل .. و هو بهذا (أي الضمير) يشكل محكمة داخلية في قلب الانسان. الله سبحانه يقدم لنا هذه المحكمة المصغرة الداخلية في الانسان كدليل على حتمية وجود محكمة أعظم و أكبر في اليوم الآخر.

و لي تعليق بسيط هنا على الصيغة التي أتي بها القسم ..و هي استخدام " لا أقسم " و هي تحمل معنىً صريحا ظاهريا مفادة أن الله لا يقسم!! بيوم القيامة! فكيف نأتي بعدها و نقول أن الله أقسم!! بيوم القيامة؟ هذا التناقض الظاهري له واحد من أحدى حلين: الاول أن الله أراد الاشارة عن طريق هذه الصياغة الى ديمومة إعادة النظر في القسم الالهي على أنه ليس مجرد قسم ، و إنما على أنه تقديم للأدلة لإثبات حقائق قد تغيب عن الذهن. و بالتالي فإن صدقت نظرية فراهي فأن نظرتنا لتفاصيل القرءان ستكون بحاجة الى إعادة تكرير بعيدا عن المسميات و التعريفات التي تربينا عليها منذ نعومة أظفارنا. و الحل الثاني قد يكمن في إحدى الدلالات اللغوية من جراء استعمال هذا الاسلوب ، و هذا ما لادليل لدي عليه.

- قسم ازدواجي

كمثال على هذا النوع من القسم يأخذ الكاتب سورة الشمس (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا «1»  وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا «2»  وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا «3»  وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا «4»  وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا «5»  وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا «6»  وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7»  فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «8»  قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا «9»  وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا «10»)  مرة أخرى هنا ، يقول الكاتب ، المقسم عليه غير معبر عنه صراحة ، و من الممكن أن نفترضه الاتي: في اليوم الأخر سيحاسب الله الناس. و يقدم الله لنا الدليل على هذه الحقيقة باستخدام "الازاوج المتكاملة" ، حيث إن كل شيء في هذا الكون موجود على شكل أزواج تكون في الظاهر متضادة و لكنها مكـمّلة لبعضها البعض. أمثلة على ذلك هي الشمس و القمر (ولست أرى كيف اعتبر الكاتب هذين من الازواج) ، الليل و النهار، الذكر و الانثى (وهي المقسم به الايات 1-6). فكماهو العالم المادي ، أيضا العالم الروحي (أو النفساني) حيث فيه الخير و الشر (المقسم به آيات 7-10) ـ كل هذه الازواج تظهر علاقة تضادية-تكاملية في نفس الوقت. و بشكل مشابه يمكن استنتاج أن هذا الكون أجمع أيضا جزء من هذه المنظومة الزوجية ، لذا لا بد من وجود الجزء المضاد لكن المكمّل له ، هذا الجزء المضاد-المكمل لهذا الكون هي الحياة الآخرة.

- خلاصة:

مما سبق نلاحظ أنه في قطعة من العمل الألمعي في الهند ، قدم لنا الكاتب حميد الدين فراهي  (إسم غريب! و لكنه نسبة لمكان ميلاده) نظرية مرنة و منطقية لتفسير ظاهرة القسم في القرءان الكريم. ففي تلك النظرية ، يكون الهدف من القسم إبراز علاقة جدلية ما بين المقسم به و المقسم عليه ، و هذه النظرة تخالف ما هو سائد من أن القسم هدفه إبراز أهمية المقسم به و جذب الانتباه و التوكيد على المقسم عليه دون وجود علاقة واضحة ما بين الطرفين.  و كما رأينا فإن نظرية هذا الرجل تنجح نجاحا مبهرا في كثير من الاحيان لكنها لا تعدو عن مجرد كونها حدس أو تخمين للمقصود في آحيان أخرى.  إن سيطرة النظرة التقليدية نحو النص القرءاني (و بالتحديد تكرارظاهرة القسم الالهي في القرءان) لا تنبع من مقدار صحتها بقدر ما تنبع من كونها الوحيدة في الميدان و بسبب عدم وجود نظرية أخرى تنازعها أو تذهب أكثر عمقا في فهم النص. إن الحكم على صحة نظرية فراهي من عدمه ليس مهما بقدر أهمية تغيير النظرة السطحية تجاه النص القرءاني.

اجمالي القراءات 20935