الحلال والحرام في تشريع الطعام فى الإسلام

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٢ - أكتوبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :
أثار مقالى السابق ( التدخين لا يفطر الصيام ) ردود أفعال قوية فى موقعنا ( أهل القرآن ) ، فوعدت بنشر عدة مقالات تتعرض للحلال و الحرام فى الاسلام ، وصلة ذلك بالدخان. وأبدأ بهذا المقال البحثى .
أولا : إختبار الحلال والحرام في قصة آدم وحواء : تكررت قصة آدم وحواء في القرآن الكريم في جملة مواضع منها:( البقرة 34- ) ( الاعراف 11- 25) و (طه 115ـ ). ولم تستفد البشرية من قصة ابيهم آدم ، لذا يعيشون في شقاء مستمر .
والمستفاد من دروس قصة آدم وحواء الآتي .
1 حين امر الله تعالي الملائكة بالسجæig;د لآدم ،سجدوا كلهم جميعا الا ابليس الذي عصي واستكبر ثم اخذ يبرر ويعلل عصيانه بأنه خير من آدم وكيف يسجد لمخلوق من طين .
ونحن هنا امام موقفين بالنسبة لطاعة الآمر وهو الله تعالي صاحب الامر، فالملائكة سرعان ما اطاعوا امر الله رغم غرابته فنجحوا في اختبار الطاعة اما ابليس فقد عصي ثم اخذ يبرر عصيانه فأصبح عصيانه بدون امل في أي توبة ،فحقت عليه اللعنة والطرد من الملكوت الاعلي .
2 ـ وحين عاش آدم وحواء في الجنة يتمتعان بكل ما فيها جاءهما اختبار الطاعة ايضا ،فقد اباح الله تعالي لهما ان يأكلا من كل اشجار الجنة الا شجرة واحدة نهاهما عن الاقتراب منها، وتسلل لهما الشيطان وأغواهما واخذ يسألهما عن سبب النهي عن تلك الشجرة بالذات وما زال بهما حتي اكلا من الشجرة المحرمة ،فخرجا من الجنة وهبطا الي الارض ولكنهما عندما وقعا في الخطأ استغفرا ربهما فتاب عليهما الله .ونحن هنا امام موقف جديد من مواقف الطاعة وهو ان يقع المخلوق في المعصية ولكن يبادر بالتوبة فيتوب الله عليه.
وعلي ذلك فان البشر امام قضية الطاعة لله تعالي ينقسمون الي ثلاثة مواقف :
1 ـ اما المبادرة بطاعة الامر مهما بلغت غرابة هذا الامر ،وهذه درجة المتقين الأبرار ،وهكذا فعل الملائكة عند السجود لآدم وهكذا يفعل المؤمنون عند تأدية الاوامر مع ما قد يكون فيها من غرابة ، والله تعالي يأمرنا بالأكل والشرب ( الاعراف 31)ولكنه يأمرنا بالصيام خلال شهر رمضان ،وعلي المؤمن ان يبادر بالطاعة دون ان يسأل عن السبب.
2 ـ ويقابل ذلك المبادرة بالمعصية والإصرار عليها وتبريرها بحجج وأسانيد ،كما فعل إبليس فاستحق اللعنة ،مثل هذا العاصي الذي لا أمل في توبته طالما برر العصيان بأدلة عقلية.
3 ـ والموقف الثالث هو العصيان ثم المبادرة بالتوبة والاستغفار …
وعلي الإنسان الصالح ان يفهم هذه الحكمة من قصة آدم في جزئيها (أي في اختبار الملائكة في السجود أمام آدم ،او في اختبار آدم وحواء في عدم الأكل من الشجرة المحرمة)، وعليه ان ينجح في الاختبار بالمبادرة بالطاعة ،و اذا حدث ووقع في الخطأ عليه ان يبادر بالتوبة .
ولكن ما صلة آدم وحواء في موضوع الحلال والحرام في الاسلام ؟
في الحقيقة هي بداية القصة وأساسها ،ونكتفي بالاشارات التالية ..
1 ـ في موضوع الحلال والحرام نري ان الله تعالي أباحّ لآدم وحواء كل الجنة ما عدا شجرة واحدة ، أى إن الأصل هو الاباحة والحلال ،والمحرم لا يكون إلا استثناء يذكر بالنص .
2 ـ ان التشريع الذي جاء لآدم وزوجه كان بالامر والنهي معا، ان يأكلا من الجنة حيث شاءا وألا يقتربا من هذه الشجرة حتي لا يكونا من الظالمين .اذا هي شجرة واحدة يحرم الاقتراب منها وباقي الشجر حلال لهما .أي إن الامر والنهي من الله هنا (افعل او لا تفعل )هو تلخيص للشرائع السماوية التي جاءت فيما بعد ، وكل انسان عليه ان يختار ويتحمل نتيجة اختياره.
3 ـ انهما اطاعا امر الله في الاكل من المباح الحلال ولكن تسلل لهما الشيطان، ظل يوسوس لهما ويخدعهما ويزين لهما الاكل من الشجرة المحرمة حتي وقعا في الخطأ، ثم نزلا الي الارض ومعهما الدرس لأبناء آدم، ومن هنا كان التحذير الالهي لأبناء آدم ان لا يخدعهم الشيطان كما خدع أبويهم من قبل (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (الأعراف 27 ).
4 ـ ان نفس القصة تتكرر في التشريع الذي نزلت به الرسالات السماوية، فالله تعالي اباح لنا الاكل من كل ما تخرجه الارض ونهانا عن اتباع خطوات الشيطان في تحريم هذا الحلال بقوله تعالي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )( البقرة 168 ـ )( كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (الأنعام 142 )ويقول تعالي بوجه عام(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) (النور 21 )
فما معني خطوات الشيطان ؟؟ وكيف يتبعها أغلبية البشر ؟؟ هذا ما نفهمه من سورة الأعراف ..
ثانيا : استعراض الحلال و الحرام في سورة الأعراف : الشيطان وتحريم الحلال و تحليل الحرام :
حين طرد الله تعالي إبليس من الملأ الأعلى توعد إبليس أبناء آدم بالغواية بشتى السبل حتي لا يكون اكثرهم مطيعين لله تعالي (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ )(الأعراف 17)
وعلي الفور بدأ خطته مع غريمه آدم وزوجه حواء حين كانا في الجنة ، وكما عصي ابليس ثم اخذ يبرر ويفلسف المعصية في عدم طاعته لربه في السجود لأدم اتبع ابليس نفس الطريق في خداع آدم ،فأخذ يوسوس إليه ليجعله يتساءل عن الحكمة في تحريم هذه الشجرة؟ واستخدم معهما أسلوب الترغيب والترهيب وان يقسم لهما بأنه ناصح لهما وما زال بهما حتي ذاقا الشجرة المحرمة .
وقد قلنا ان الطاعة هي تنفيذ الأمر أو الامتثال للنهي استجابة لصاحب الأمر جل وعلا ، يكفي ان يقول كذا فنسمع ونطيع دون جدال أو اعتراض أو استفهام او تردد .ولأن الحياة الدنيا قد جعلها الله تعالي اختبارا فإن من عناصر هذا الاختبار هو طبيعة الاوامر السماوية بإفعل او لا تفعل ، وغرائزنا التي لا تحب الاستجابة لهذا الأوامر ،ووجود الشيطان الذي يزين العصيان لأوامر الله تعالي ويجعل معصية البشر للخالق جل وعلا طاعة له بالتزوير والبهتان .
ومن هنا فإن الرسالات السماوية تأتي بافعل او لاتفعل ولكن كيد الشيطان يلاحق هذه الاوامر بالتزييف والاختراع ويزين للبشر تحريم ما احل الله واستباحة ما حرم الله، ولا يزال بهم حتي يؤسس للبشر أديانا مزيفة بوحى مزيف
.أى هي خطوات مختلفة تؤدي الي نفس النتيجة وهي الغواية ، وذلك ما حذر منه الله تعالي حين قال بعد ان روى قصة آدم :(يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ :الاعراف 27).
وفي غوايةآدم استخدم الشيطان خطوات خاصة استغل فية تشوق ادم الي معرفة كنه هذه الشجرة ، ولماذا حرمها الله، فكان ان استحل ادم ما حرمه الله عليه واكل منها حباّ فى الاستطلاع .
وبنفس المنطق فكثيرون من أبناء آدم يستحلون الحرام في الطعام والشراب والنساء والأقوال و الأفعال والتصرفات ، فيأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر ويرتكبون الزنى ، مع القتل والتقاتل طمعا فى المزيد ، ثم يتطور فعل المعصية الي تبرير المعصية ثم تسويغ التبرير بتحويله الى استحلال بتشريعه عن طريق وحى مزيف فيتولد دين أرضى يكون مناخا للفساد فى الأرض إذا تحكم وسيطر .
وهذا هو تحليل الحرام، وهو كثير فى تشريعات الأديان الأرضية للمسلمين مثل القتل خارج القصاص، اى القتل بتهمة حد الردة و الزنا المحصن وترك الصلاة..الخ ..
وقد يغير الشيطان خططه من تحليل الحرام الى تحريم الحلال .
فاذا كان سهلا عليه ان يقنع العصاة باستحلال المحرمات فانه يفعل العكس مع المؤمنين المتدينين ،اذ لا يزال يحثهم علي المبالغة والتطرف في التدين الي درجة تحريم الحلال تحت دعاوى مختلفة مثل الزهد فى الطعام والنقاب فى الزى، وهذا ايضا انتهاك لشرع الله قد يزيد علي استحلال الحرام لأنه مزايدة علي شرع الله وتشريع بغير ما انزل الله. والأمثلة كثيرة فى تشريعات أديان المسلمين الأرضية مثل تحريم الحلال فى الطعام و تحريم الزواج ممن أحل الله تعالى الزواج منها مثل الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها .
على أن خداع الشيطان يجعل البشر المتدينين الذين يريدون المبالغة في الطاعة يبحثون عن الحكمة في التحريم وطبقا لتلك الحكمة فى التشريع يضيفون محرمات اخري ،تكون في شرع الله تعالي مباحة وحلال، ويخترع بعضهم القياس فى التحريم ، وبمرور الزمن يزداد تحريم الحلال حتي يصبح التحريم هو القاعدة والحلال هو الاستثناء خلافا لشرع الله ،وهذا بالضبط ما يريده الشيطان حين توعد أبناء آدم امام الله تعالي بان يحول بينهم وبين الصراط المستقيم (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)(الاعراف 16:17)
من اجل ذلك حذر الله تعالي الناس جميعا من تحريم الحلال ،وكرر تحذيرهم من اتباع خطوات الشيطان (البقرة 168) (الانعام 142)( النور 21). ومن اسف فان اغلبية البشر ينسون هذا التحذير، لأنهم إما عصاة أو متدينون تدينا فاسدا مغلوطا،وهما معا ضحايا للشيطان.
ونأتي الي بعض التفصيل.
في سورة الاعراف بعد ان قص الله تعالي قصة ادم وبعد ان حذرنا من مكر الشيطان بنا حتي لا يغوينا كما خدع ابوينا من قبل يقول تعالي (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) :الاعراف 31) فهنا امر بالتزين الحلال عند كل مسجد او موضع للسجود هو امر لنا بالاكل والشرب دون اسراف .
ثم تأتي الاية التالية تستنكر تحريم الحلال:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .):الاعراف 32)أي لا يجوز تحريم الزينة التي خلقها الله واخرجها لعباده من الارض، ولا يجوز لأحد تحريم الطيبات من الرزق، أي كل رزق يحصل عليه الانسان بطريق مشروع بدون سرقة او سلب او غصب ،ويؤكد الله تعالي ان هذا الرزق وتلك الزينة حلال للمؤمنين في الدنيا ويشاركهم فيها غيرهم من كل ابناء آدم سواء آمنوا او كفروا، ولكن في يوم القيامة حيث يتمتع المؤمنون بنعيم الجنة فان ذلك التمتع سيكون خالصا للمؤمنين فقط .
وبعد ان استنكر الله تعالي تحريم الحلال من الزينة والرزق جاءت الاية التالية تحصر المحرمات اجمالا في خمسة اشياء :(-الفواحش وهي العلاقات غير الشرعية ، الاثم أي السيئات ـ - البغي أي الاعتداء والظلم .- الإشراك بالله . الكذب علي الله بغير علم .)يقول تعالي :(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) :الاعراف 33)
وتحريم ما احل الله يدخل ضمن تلك المحرمات في البغي وفي الاشراك وفي التقول علي الله تعالي بالكذب والافتراء .
ثالثا :استعراض الحلال و الحرام في سورة الأنعام لارتباط دور الشيطان فى حث البشر على تحريم الحلال و تحليل الحرام ـ فقد بدأت سورة الأنعام بالحديث عن دور الشيطان وأتباعه فى نشر الوحى الشيطانى الذى يعادى الوحى الالهى ، ووصف الله تعالى أولئك الناس بأنهم أعداء الأنبياء .إذ يؤكد رب العزة جل وعلا علي وجود اعداء لكل نبي ينشرون وحي الشياطين بين اتباعهم ، ويؤكد علي ضرورة الاحتكام الي القرآن لأثبات زيف ذلك الوحي الشيطاني الكاذب ، ويؤكد علي ان القرآن قد تمت كلماته ولا مبدل لكلمات الله ويحذّر الله جل وعلا النبي من طاعة أكثرية البشر ،بل عليه ان يلتزم بسبيل الله تعالي والله اعلم بالمهتدين.
يقول جل وعلا : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ .)(الانعام 117:111) .
وبعدهذه المقدمة الضرورية يأمر الله تعالى المؤمنين بالاكل مما يذكر اسم الله عليه طالما هم يؤمنون بالله (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ.)(الانعام 118).
معنى ذكر اسم الله فى قوله تعالى : (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ)
بداية التشريع أكدت دور الوحى الشيطانى فى تغيير شرع الله تعالى بما يفعله أعداء كل نبى ، وهذا يؤكد أن الوحى الالهى الحق فى الطعام هو الأولى بالاتباع ،وأن ما قرره رب العزة حلالا يمتنع تحريمه لأنه هو الطيبات الحلال فى الأكل ، لأن عليه التصريح الالهى بالأكل ، أو عليه ـ بمفهومنا ـ الختم الالهى بالحلال ـ أو بالتعبير القرآنى عليه (إسم الله ) .
وبهذا نفهم معنى قوله تعالى (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِين). فهنا حقيقة قرآنية لم يلتفت اليها أحد وهى أن الحلال فى الطعام الذى شرع الله تعالي الاكل منه هو ما ذكر اسم الله عليه ولنتأمل ثانيا قوله تعالى ( فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ) فليس المقصود (هنا ) وجوب ذكر اسم الله تعالى على الحيوان المذبوح حتى نأكل منه ، ولكن المعنى أن الله جل وعلا قد أحلّه ، أى وضع (توقيع ) جواز الأكل منه، والدليل أن الكلام هنا على كل الطعام وليس مجرد الذبائح. أما غيره من المحرمات المنصوص عليها فليس عليها إسم الله اى التصريح بالأكل منها.
هذه المحرمات مثل (الشجرة ) المحرمة فى قصة آدم وزوجه. لم يوضع عليها اسم الله كبقية ما كان فى جنة آدم وحواء. هنا نعيد قراءة هذا المقطع من قصة آدم وحواء فى الجنة : ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ) فالرغد الطيب هو الحلال الذى عليه اسم الله جل وعلا. أما الشجرة فهى محرمة وليس عليها اسم الله تعالى بالحل.
ونعود الى سورة الأنعام :
بعد قوله تعالى (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ) أوضح رب العزة أنها نعمة جليلة من الله جل وعلا أن أباح الأكل من جميع الأطعمة عدا المحرم منها فعلي المؤمنين ان يشكروا الله علي هذه النعمة ، يقول تعالى : (وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ )
فهنا تعجب ممن لا يأكل مما احل الله له ،وتأكيدا علي المعني القرآني المجهول وهو ان معني (ما ذكر اسم الله عليه )هو (ما احله الله )أي ان كل ما احل الله اكله هو ما ذكر عليه اسمه .
و يتجلى هذا المعني حين تقرأ الايات فى سياقها (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ. وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ) (الانعام 118: 119 ). أي كلوا مما احل الله لكم ان كنتم بآياته مؤمنين ثم ينهي عن تحريم الحلال ويشير الي انه قد فصل المحرم لغير المضطر ،ويؤكد علي ان الذين يحرمون الحلال انما يضلون الناس بغير علم ويعتدون علي حق الله تعالي في التشريع. ونعيد هنا التأكيد علي ان الاكل مما ذكر اسم الله عليه يعني الاكل مما اباح الله ، وما اباح الله تعالي اكله انما يقع خارج المحرم المحدد تفصيلا لغير المضطر …
ونعود الي سورة الانعام وهي تؤكد في الاية (121 ) علي ان من الفسق او الخروج عن الايمان ان نأكل من المحرمات،وأن تلك المحرمات معناها التي لم يذكر اسم الله عليها، يقول تعالي (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ )أى أن الأكل من المحرمات هو فسق،وأيضا فان تلك المحرمات هى التى لم يذكر اسم الله تعالى عليها.
وحتي نتأكد من ان المقصود بما لم يذكر اسم الله عليه هو المحرمات المحددة نقرأ الآية الكريمة (145)في نفس السورة والتي تحدد المحرمات وتكررها بقوله تعالي (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )ففي الاية الكريمة وصف المحرمات بأنها فسق وهو نفس الوصف للمحرمات في الاية السابقة.
والمستفاد من الآيات الكريمة السابقة أن شرع الله تعالى هنا هو امر ونهي :
*أمر بالاكل مما احل الله ،ونهي عن الاكل مما حرم الله ،والتعبير جاء بصيغة مخصوصة:(فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ )( وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ )وهنا الامر بالأكل من الحلال والنهي عن تحريمه.
*ثم يقول تعالي(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق ) وهنا نهي عن اكل المحرم.
* وبقية الاية السابقة تنهي المؤمنين عن اتباع خطوات الشيطان ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) بنفس النسق الذي جاء في سورة البقرة 168)في قوله تعالي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )( البقرة 168 ـ )وقوله تعالى ( كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (الأنعام 142)، وهذا ما اشارت إليه ايضا الاية 121 من سورة الانعام ونذكرها كاملة (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) أي اننا اذا دخلنا في جدال مع المشركين الذين يحلون الحلال ويستحلون الحرام فاننا نسير معهم في نفس طريق الشيطان وعلي وقع خطواته .ذلك انه استطاع -الشيطان- خداع( ادم وحواء)وسألهم أسئلة تبدو منطقية، وقد حذرنا الله تعالي في نهاية القصة من هذه الفتنة الشيطانية فى سورة الاعراف (20:27).
* والشيطان لا يزال يمارس دوره ولم يقدم استقالته وهو يوسوس لنا ، ويجعلنا نجادل باسلوب منطقي لماذا حرم الله هذا ؟واذا كان قد حرمه للضرر اذا فكل ما هو ضار يكون حراما، وعلي ذلك يتكاثر تحريم الحلال وينسي الجميع ان التحريم هنا حق لله تعالي وحده وعلينا ان نطيع دون ان نسأل عن السبب .
* وهذا هو الاختبار الابدي لأبناء آدم وقد سبق ان تعرض الملائكة و ابليس ثم آدم وحواء الي هذا الاختبار، والنتيجة الهامة ان المؤمن يطيع امر الله دون ان يناقشه لأن الله تعالي هو وحده الذي لا يسأل عما يفعل (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) ( :الانبياء 23 )ولا يليق بالبشر ان يسألوا الله تعالى لماذا احل ولماذا حرم كما لا يليق بهم ان يحلوا ما حرم أو أن يحرموا ما أحل .
* وبعد ذلك بآيات عديدة تدخل سورة الأنعام (136: 144 ) في حوار مع مشركي قريش حين كانوا ينذرون النذور لغير الله تعالي وحين كانوا يحرمون بعض الأنعام افتراء علي الله تعالي ، ويتكرر في الايات الكريمة وصفين للافتراء (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)( سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) ، كما يتكرر في الحوار النهي عن اتباع خطوات الشيطان (كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ )(:142) والنهي عن الافتراء علي الله (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ :الأنعام 144).
* ثم يقول تعالي :(قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )(الانعام 145)في الاية تأكيد بالقصر والحصر علي ان المحرمات في كل ما نتناوله من طعام ليست الا الميتة والدم المسفوح من الحيوان الحي ولحم الخنزير والمقدم نذرا لغير الله تعالي، وهذه المحرمات تكون مباحة عند الاضطرار طالما لا يبغي المضطر ولا يعتدي احد علي حق الله تعالي في التشريع ويقول باستحلالها .
* ثم تأتي الآية التالية لتتحدث عن اليهود الذين حرموا أشياء فعاقبهم الله بأن جعلها عليهم حراما وجزاهم ببغيهم علي الله صاحب الحق وحده في التحليل والتحريم ،يقول تعالي : ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) ( الانعام 146).
* وتأتي الآية التالية بالرحمة للمؤمنين والتهديد للمجرمين (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (الانعام 147) ، لتؤكد ان موضوع التحليل والتحريم متصل تماما بالعقيدة لأن من يحرم حلالا او يستحل حراما فانما هو مجرم ،والاجرام من صفات الشرك بالله تعالي.
* وتأتي الاية (148من سورة الانعام ) لتجعل تحريم الحلال قرينا للشرك وان من يفعل ذلك سيندم يوم القيامة: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ) أى يتحداهم رب العزة : هل عندهم من علم ليستدلوا به ، ويؤكد أنهم لا علم لديهم بل إتباع الظن والافتراء.
* ويؤكد رب العزة فى معرض التحدى لهم أن له جل وعلا الحجة البالغة ، ولكنه جل وعلا ترك الناس أحرارا فى الطاعة و المعصية ، ولو شاء لجعلهم مطيعين بالسليقة و الغريزة ، ولكنه إختبار الطاعة ، يقول جل وعلا فى الآية (149 ) من سورة الأنعام :( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)
* ويستمر التحدي لمن يعتدى على حق الله جل وعلا فى التحريم ، فيقول جل وعلا : (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )(الأنعام 150). التحدى هنا يبلغ ذروته بأن يطلب الله تعالى شهادتهم لتكون حجة عليهم يوم القيامة ، فلو استمروا فى تحدى رب العزة وشهدوا على الباطل والافتراء فان الله تعالى يحذر النبى محمدا من ان يشهد معهم ، لأنها ليست مجرد تحريم الحلال ولكنها قضية عقيدية محضة ، تعنى التكذيب بآياتت الله جل وعلا و اليوم الأخر، والاعتداء على حق الله تعالى فى التحريم الذى لا يشاركه فيه أحد من خلقه . ولنتامل قوله تعالى عنهم (وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ )
* ثم تأتي الآيات( 151: 153 ) لتحدد المحرمات خارج الطعام والشراب وهن عشر محرمات او الوصايا العشر وكل ذلك منعا لأي اعتداء علي حق الله في التحريم .وآخر تلك الوصايا هى الوصية العاشرة التى تأمر و تنهى : تأمر باتباع القرآن الكريم وحده ، وتنهى عن اتباع غيره : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وفى أتباع القرآن الكريم النجاة من الوقوع فى تحريم الحلال و تحليل الحرام .
رابعا : استعراض الحلال و الحرام في سورة البقرة : * يأمر الله تعالي جميع الناس بالأكل مما في الارض حلالا طيبا ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان لأنه لنا عدو مبين ،اذ يأمرنا بالسوء والفحشاء وان نقول عن الله تعالي اكاذيب لا نعلم عنها شيئا :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )( البقرة 168 ـ ) أي تأكيد علي ان الحلال هو القاعدة وهو الطيبات ،وان تحريم الحلال هو اتباع لخطوات الشيطان.
* وقد كان الجاهليون فى تحريمهم الحلال قد اتبعوا عادات أرساها السابقون الذين كانوا إذا كرهوا شيئا أو رغبوا عنه قاموا بتحريمه ، لذا يجعل الله تعالى من علامات الكفر إتباع العادات والثوابت المتوارثة التى تخالف شرع الله ، لأن المفروض الاحتكام الى رب العزة فى كل ما ألفينا عليه آباءنا ، فما خالف منه كتاب الله علينا ننبذه فورا ، وما يتفق مع كتاب الله جل وعلا ولا يخالفه فهو مباح.
أما المشركون ـ فى توضيح قرآنى لملامح عقليتهم ـ فهم يتبعون المتوارث أو التراث أوما قاله السلف أوما يسمونه بالثوابت وما ألفوا عليه آباءهم ، ومنه تحريم الحلال ، لذا ففى هذا السياق عن الطعام يصف الله تعالى بالكفر وعدم التعقل كل من يحرم الحلال (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ . )(البقرة 170 :171) .
* ثم يعيد الله تعالي الخطاب للمؤمنين يأمرهم بالأكل من الحلال الطيب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) (البقرة :172 )أي تأكيد اخر للمؤمنين علي الاكل من الحلال وهو الاصل والاساس ، وهنا تأكيد على وصف الطعام الحلال بأنه (طيبات ) وبالتالى فان ما حرمه الله تعالى على وجه الاستثناء هو الخبائث .
* ثم في الاية التالية يحصر المحرمات في نفس الاشياء الاربعة (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (البقرة 173) ، وهي نفس المحرمات المذكورة ،ويجعل الاكل منها حلالا للمضطر طالما لا يفتي بأنها حلال ويبغي ويعتدي علي حق الله تعالي في التشريع .
* ثم تأتي الآية التالية وما بعدها (البقرة 174 ،175 ) تتوعد الذين يفتون بغير ما انزل الله يحللون الحرام ويحرمون الحلال ويكتمون الحق الالهي ، يقول تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ.).وهناننصح بالتدبر فى العذاب الذى ينتظر أولئك الذين يكتبون فى تشريعات الاسلام بغيرعلم، يكفى ان الله جل وعلا ـ وهو القاضى الأعظم يوم القيامة ـ يجعلهم خصوما له ،لأنهم اعتدوا على حقه فى التشريع بالحرام والحلال ، لذا لايكلمهم ولا ينظر اليهم ولا يزكيهم ،بل يتعجب من صبرهم على النار.
ويتضح مما ذكرته سورة البقرة المدنية(آية 170،171)وما ذكرته من قبل سورة الانعام المكية (121-136-155) أن مشركي العرب واليهود اعتادوا تقليد الأسلاف في تحريم الحلال ونزل القرآن فى مكة ثم المدينة يرد عليهم ويتحداهم ويحذرهم ويصفهم بالشرك وقد استمر هذا الجدال مما استلزم تكرار التأكيد الالهي علي تفصيلات المحرمات والتحذير من اضافة أي شئ حلال الي قائمة المحرمات تحديدا وتفصيلا ..
خامسا : قواعد التشريع في الحلال والحرام في سورة النحل ( سورة مكية ): : يمكن تلخيص هذه القواعد في الآتي: (1) الحلال هو القاعدة والحرام هو الاستثناء.(2)النهي عن تحريم الحلال(3)إعتبار تحريم الحلال شركا بالله تعالي واعتداء علي حقه في التشريع .
وللقرآن منهج رائع في ربط هذه القواعد بعضها البعض.ونأخذ امثلة علي ذلك في سورة النحل :
يقول تعالي (فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ .وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (.النحل 114:117 )
* ففي الاية 114 جاءت قاعدة ان الحلال هو الاساس وان الطعام الحلال هو الطيبات ،فأمر الله تعالى بالاكل مما رزق حلالا طيبا مع الشكر علي نعمة الله وربط ذلك بالعبادة: (فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون).
* وفي الاية التالية 115 جاء التحريم بالاستثناء ،وهو بالتحديد الميتة والدم ولحم الخنزير والقرابين المقدمة لغير الله الي الأوثان وغيرها ،وما عدا هذه الاشياء الاربعة فهو حلال طيب. بل ان الاكل من هذه المحرمات تكون حلالا للمضطر طالما لا يفتي بتحليل هذا الحرام لأن تحليل الحرام مثل تحريم الحلال هو بغي وعدوان علي الله تعالي صاحب الحق الوحيد في التشريع وهذا معني (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )( النحل 115 ).
* وفي الاية التالية (116) نهي الله تعالي عن تحريم هذا الحلال خارج المحرمات الاربع، واعتبر تحريم الحلال افتراء علي الله تعالي بالكذب ، وأكّد ان الذى يفترى الكذب على الله تعالى لا يفلح (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ )
* ثم توعدالله جل وعلا من يحرم الحلال بالعذاب الأليم في الآخرة أي اعتبره من المشركين (. مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ :النحل 117)
* وحتي لا نقع في ما وقع فيه اليهود حين حرموا الحلال فكان عاقبتهم بأن جعله محرما فعلا عليهم فان الاية التالية (118)تقول( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) أي حرم عليهم الاربعة اشياء فقط واحل الباقي، فقاموا بتحريم بعض ما احل الله فجعله الله تعالي حراما عليهم ..وجعل من ضمن ذلك تحريم السبت وهذا ما ذكره في نفس السورة (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ـ النحل 124).
* وفى موضع سابق في نفس السورة أكّد الله جل وعلا ان تحريم الحلال شرك بالله (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ )( النحل 35.).
* وجاء في سورة يونس أن تحريم الحلال و تحليل الحرام هو افتراء على الله ، أى هو تاكيد للآية (116 ) من سورة النحل (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ) ،يقول تعالى فى سورة يونس( 59 : 60): (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ )
هنا يجعل الله تعالي من الافتراء عليه تعالي تحريم الحلال وتحليل الحرام دون اذن ،أي ان كل رزق انزله الله تعالي هو حلال، والذي خلق هذا الرزق هو الذي يملك وحده التشريع بشأنه ، وهذا الرزق يشمل كل شئ نأكله أو نشربه او نتزين به، أي كل ما نستهلكه، وليس من حق احد ان يجعل هذا حلالا وهذا حراما لأن الله تعالي لم يأذن لأحد في ان يشرع في الدين بالتحريم لأن التحريم حق له وحده ، كما حدث حين حرم شجرة معينة على آدم وزوجه ، وليس لأحد أن يسأل الله جل وعلا عن الحكمة فى التحريم ، وإلا سقط كسقوط ابليس . ومن هنا جاء هذا السؤال الاستنكاري من رب العزة عن هذا الرزق الذي انزله الله كيف تجعلون منه حراما وحلالا دون اذن الله؟اليس هذا افتراء علي الله ؟ وكذبا عليه ؟ثم ما هي عقوبة اولئك المفترين علي الله تعالي يوم القيامة ؟.
ونلاحظ الصلة الوثيقة بين آيتي سورة يونس(60:59)وبين آيتي سورة الاعراف( 33:32)فكلتاهما تتحدثان عن نعم الله التي انزلها لعباده وتستنكر تحريمها وتجعل ذلك التحريم كذبا علي الله تعالي .
*ولأنها قضية عقيدة ـ أى التحريم ـ ولأنها تخص مقام الألوهية فقد جاء اللوم والتأنيب للنبى محمد فى سورة التحريم حين امتنع النبي عن تناول بعض الطعام وحرمه علي نفسه ، فنزل الوحي إليه يؤنبه قائلا (يا ايها النبي لم تحرم ما احل الله لك :التحريم 1)أي ان التحريم حق لله تعالي وحده ويقوم الرسول بتبليغه عن الله ولا يملك النبي الا ان يتبع الوحي ويطيعه.
والرسول هو النبى حين ينطق بالوحى القرآنى ، ولذا فطاعته طاعة للوحى ،وبعد موته فان الرسول هو الرسالة أى القرآن القائم بيننا محفوظا من لدن الله جل وعلا ، وهو النور الذى يتبعه المؤمنون الى قيام الساعة .وهذا الرسول أو تلك الرسالة ـأو القرآن الكريم فيه تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ، وسبق التاكيد على أن الطيبات لا تعنى سوى الحلال من الطعام ن وبالتالى فان الخبائث هى المحرمات الأربع المحددة . وهذا معنى قوله جل وعلا عن الرسول محمد خاتم النبيين :(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )( الأعراف 157 ). وبمقارنة هذه الاية الكريمة من سورة الأعراف مع الآية الأولى من سورة التحريم التى تؤنب (النبى ) على تحريم ما أحل الله له ، يتضح لنا الفارق بين النبى و الرسول ، فالنبى هو شخص محمد وعلاقاته و تعاملاته فى المجتمع الذى يحيط به ،أما الرسول فهو النبى محمد حين كان ينطق بالرسالة ويطبقها،لذا فان الطاعة تأتى للرسول وليس النبى ، ولذا فان التأنيب يأتى للنبى وليس الرسول. والتفاصيل فى كتابنا ( القرآن وكفى ).
سادسا : تفصيلات أخيرة فى الحلال و الحرام فى سورة المائدة :* لأن جدالهم استمر حول تحريم الحلال في الأنعام فان اول آية من سورة المائدة جاءت تؤكد ما سبق تأكيده وتخاطب المؤمنين فتقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ) :المائدة 1 ) والانعام هي الحيوانات المستأنسة والصيد هو الحيوان البري الوحشي، والحيوان مقصود به الحيوان والطيور وكل ذلك حلال ويستثني منه الأربعة المعروفة وهي حرام دائما الا عند الاضطرار بدون بغي او عدوان علي حق الله في التشريع. ويضاف الي ذلك عدم قتل الصيد عند الاحرام في الكعبة، وتلك حالة استثنائية اذ انه بعد انتهاء مناسك الحج يجوز الصيد .
اذن فالاصل هو الحلال (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ ) والاستثناء هو (إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) ما يتلي من المحرمات المذكورة بالنص والتفصيل الذى جاءت به الآية الثالثة من نفس السورة. ونفس المعنى جاء ايضا في قوله تعالي (واحلت لكم الانعام الا ما يتلي عليكم، فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور :الحج 30)وكل ذلك التأكيد المتكرر انما جاء للنهي عن تحريم الحلال واعتباره قول زور. ويضاف حكم آخر استثنائى هو عدم استحلال الصيد فى الحرم (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) .
*فى ألاية الثانية يقول تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( المائدة 2 ). وهنا نهى عن استحلال شعائر الله فيما يخص الحج والحجيج ، وفيما يخص الطعام قال تعالى (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ). أى بعد انتهاء الاحرام يحل الصيد . وهذا الايجاز فى أول آيتين فى سورة المائدة جاء تفصيلهما فى آيات أخرى فى نفس السورة ، أهمها الآية الثالثة التالية:
* وفيها يقول تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( المائدة 3 )
سبق ذكر المحرمات الأربع من قبل وهى ( الميتة ، الدم المسفوح من حيوان حى ، لحم الخنزيرفقط دون الدهن مثلا ، ما أهلّ لغير الله جل وعلا به ). وجاءت هنا تفصيلات تشرح ، فالميتة المحرمة تشمل (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ) ، وهى أسباب للموت يحرم بها أكل الميتة إلا أن نلحقها بالتذكية أى بالذبح قبل الموت . والمنخنقة اى التى تموت بالخنق، والموقوذة أى التى تموت بالضرب الشديد ، والمتردية اى التى تسقط فتقع ميتة ، والنطيحة اى التى تموت بسبب عراك مع حيوان مثلها ، وما اكل السبع أى التى ماتت بافتراس حيوان مفترس.
ويأتى تفصيل آخر لقوله تعالى (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) هو قوله تعالى (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) أى النذور الحيوانية المقدمة للقبور المقدسة والأضرحة المقدسة والأولياء المقصدوين بالتقديس والبركة وطلب المدد ، أحياءا كانوا أو أمواتا. هذا فى الأصل من الطيبات الحلال ويتم ذبحه شرعا ، ولكن يصبح حراما إذا تم تقديمه لضريح أو ولى صوفى مقدس . وهو لا يقتصر على الذبائح بل كل طعام آخر ..ثم يتكرر التأكيد بأن لا حرج على المضطر الجائع الذى لا يستحل ما حرّم الله تعالى .
* فماذا إذا تم الصيد بحيوانات أو طيورمدربة كالكلاب أو الصقور، الاجابة فى الآية الرابعة : (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ( المائدة 4 ).
هنا وصف للحلال من كل الطعام بانه ( طيبات ) وهو مقابل لوصف المحرمات بالخبائث. أى أن الطعام نوعان من حيث الحلال و الحرام : طيبات أحلها الله تعالى ، وخبائث حرمها الله تعالى وهى تلك الأربع المستثناة بتفاصيلها فى الاية الثالثة من سورة المائدة. والمعنى أنها ( طيبات ) ليس لأننا نستحسنها أو نستطيبها ولكن لأن الله تعالى أحلها ، أو ذكر اسمه جل وعلا عليها ، والأخرى خبائث ليس لرداءة طعمها ولكن لأن الله تعالى حرمها و ليس عليها اسم الله . وقد ألحق الله تعالى هنا ـ فى هذه الاية الكريمة ـ بالطيبات الحلال ما يتم صيده بحيوانات الصيد أو طيور الصيد ، فما يقتله حيوان الصيد فهو حلال بشرط أن نذكر اسم الله تعالى عليه . أى إن حيوان الصيد يقوم بدور السكين الذى نذبح به ، ولكن مع شرط أن نذكر اسم الله تعالى على الفريسة قبل أكلها.
* الآية الخامسة تقول :(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )( المائدة 5 ) . وهنا يأتى شرح آخر ، فمن المضاف للطيبات الحلال طعام أهل الكتاب . يحل لنا أكل طعامهم ويحل لهم أكل طعامنا على قدم المساواة ، وبنفس التعامل والمساواة يحل لنا أن نتزوج من نسائهم ويحل لهم أن يتزوجوا من نسائنا ـ زواجا شرعيا .
* ولا تكتفي السورة الكريمة بذلك بل تنهي مكررا ومجددا عن تحريم الحلال وتعتبره اعتداء علي حق الله تعالي في التشريع والتحريم، وتأمر المؤمنين بالاكل مما رزق الله حلالا طيبا، ويقول تعالي(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ) )(المائدة 87 : 88 ). ويتكرر هنا وصف الحلال بأنه (طَيِّبَاتِ) لا يجوز تحريمها . فكل لحم أو طعام خارج المحرمات فهو حلال من الطيبات ، يستوى فى ذلك إن كنا نستسيغه أو نستقذره . لا فارق بين لحم الديدان والكلاب والحمير والفئران والحشرات وكل ما هو خارج الأربع المحرمة. من حقنا أن نستقذره ونعرض عنه بسبب ما تعودناه وما ألفناه فى ثقافتنا ، ولكن ليس لنا أن نحرمه ..فهو أصناف من اللحوم وتحتوى على نفس البروتين والدهون والأملاح ، بغض النظر عن رؤيتنا له . رؤيتنا له ذاتية ، وتختلف من شعب لآخر بل من شخص لآخر ، بل تختلف لدى الشخص الواحد ، ومثلا فانك تنظر الى اللحم المعلق عند الجزار فتشتهيه وتشتريه فاذا قيل لك إنه لحم حمير أو كلاب تقيأت .. لم يتغير اللحم ولكن نظرتك هى التى تغيرت. وربما تأكل لحم ثعبان وتستطيبه فاذا عرفت أنه لحم ثعبان أو لحم سحلية هاجت أمعاؤك ..الصراصير والحشرات تستقذرها ولكن لا تختلف كثيرا عن الجنبرى وغيره من الأحياء البحرية . والملاحظ ان حيوانات البحر نستطيبها ولا نستقذرها ، ولكن ما يشبهها ويعيش بيننا نكرهه ونعرض عنه. من حقك هذا وذاك ولكن ليس لك أن تحرمه ،فإن فعلت فقد اعتديت على حق الله جل وعلا فى التحريم.
* وتأتي الاية (90 ) من سورة المائدة لتحرم ـ تحريما باتا ـ الخمر والميسر والاضرحة أوالقبور المقدسة والاعتقاد في معرفة الدجالين للغيب :) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). فإذا أمتثل المؤمن لذلك واطاع فله أن يمتمع ما شاء بالحلال ، وهذا هو معنى الآية 39 من سورة المائدة.
* تقول :(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(المائدة93).هنا تؤكد الآية علي انه ليس علي المؤمنين أي حرج فيما يتناولونه من أي نوع من الطعام والشراب خارج نطاق تلك المحرمات المذكورة ، أي طالما اجتنبت الاكل من الميتة والدم ولحم الخنزير والطعام المقدم كقرابين للاوثان و الاولياء المقدسين وطالما اجتنبت شرب الخمر فليس عليك جناح في ان تأكل وان تشرب ما تشاء بشرط ان تحصل عليه بطريق شرعي دون سرقة او نهب،وذلك معني اشتراط التقوي والايمان والاحسان (ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .
* ونعود الي أوائل سورة المائدة وهي تتحدث عن المحرمات وتضع لها اشارتين :الأولى هو المحرمات التي نزل بها القرآن وهي الاربعة المعروفة وتفصيلاتها (الميتة والدم ولحم الخنزير والقرابين المقدمة للأوثان و الاضرحة )والاشارة الاخري هي عدم قتل الصيد عند الاحرام في الحرم :(أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ) .
ومن هنا تتوسع سورة المائدة في الايتين (94، : 95) في تحريم الصيد عند الاحرام بالحج والعمرة عند البيت الحرام :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) . هنا التاكيد على تحريم قتل الصيد عند الاحرام وفى البيت الحرام ، وتجعل غرامة علي من يفعل ذلك متعمدا.
* ثم تأتي الاية (96 )لتستثني من الميتة المحرمة كل ما يصاد من البحر، ومعلوم ان الاحياء المائية تموت بمجرد خروجها من البحر تقول الاية (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) ، أي ان كل صيد بحري او طعام بحري فهو حلال حيا كان او ميتا، ويحرم صيد البر في حالة الاحرام فقط ..
وهذا هو الشرح التفصيلي الذي جاء في اخر سورة نزلت في القرآن الكريم في الحلال والحرام في الطعام والشراب وبها اكتمل الاسلام . ومع ذلك فقد تناثر في سور اخري من القرآن تأكيدات اخري تؤكد علي نفس القواعد القرآنية .
أخيرا : بذلك نكون قد استقصينا ـ في ايجازـ معظم آيات القرآن الكريم في ما يخص الحلال والحرام في الطعام والشراب. ونخرج منها بالحقائق التالية :
1 ـ الحلال هو الطيبات والحرام هو الخبائث .
2 ـ الحلال هو الأصل والحرام هو الاستثناء
3- لا يجوز تحريم الحلال .
4- تحريم الحلال يعتبر شركا بالله واعتداء علي حقه سبحانه وتعالي في التشريع .
والسؤال الان : اين موقع التدخين فيما سبق ؟
هنا أيضا نؤكد: 1 ـ ليس التدخين طعاما ولا شرابا ، ليس شيئا (نأكله أو نشربه ) بل هو ( دخان ) نستنشقه ،وليست له علاقة بالجهاز الهضمى بل بالجهاز التنفسى . صحيح إنه لا يلببث أن يذوب فى الدم ويجرى فى الجهاز الدورى ولكن ذلك لا يجعله ضمن الطعام و الشراب ، فليس كل ما يجرى فى الدم محسوبا من الطعام والشراب ، فنحن نشم العطور وينفذ أريجها الى دمائنا ولا نقول إننا نأكل العطور أو نشربها ، والطاهى فى المطبخ ومن يمر بأوانى الطعام ومن يشم رائحة الشواء تتسلل كل تلك الروائح الشهية الى رئتيه ثم الى دمه ولا يؤثر ذلك فى صيامه إن كان صائما لأنه لم يأكل ولم يشرب. وغير الطيبات من الروائح الشهية والعطرية فنحن نستنشق عوادم السيارات ونبتلع ملايين الجراثيم ، منها النافع ومنها الضار، ويتعرض جلدنا للشمس فيحصل على فيتامين (د ) . ولا يؤثر هذا فى صوم الصائم لأنه ليس طعاما ولا شرابا.
2 ـ أما علاقة التدخين بالحلال والحرام فلا بد فى معرفتها من التعرف على فقه القرآن فى التحريم .. وهو موضوع آخر نتوقف معه فى المقال التالى ، بعونه جل وعلا.

اجمالي القراءات 120087