حين تحترق مصر

نبيل شرف الدين في الجمعة ٢٢ - أغسطس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

ستكون لحظة مباغتة كتلك التي احترق فيها المبنى التاريخي البديع لمجلس الشورى المصري، وسيقف الجميع عاجزين حيال الأمر، تماماً كما كانوا يقفون متفرجين على ألسنة اللهب النهمة، وهي تلتهم تلك التحفة المعمارية التي شيدت قبل نحو مائتي عام، مع الإرهاصات الأولى للحياة النيابية ليس في مصر وحدها، بل وفي المنطقة بأسرها.
وما يخشاه كل مخلص لمصر قابض على محبتها، يبدو أنه بات وشيك الحدوث، وساعتها سيتذرع الحكام الفاسدون المستبدون وبطانة السوء التي تلازمهم، بأسباب قدرية كسرعة الريح، كأن المبنى يقع في الصحراء، وليس في قلب القاهرة الإسماعيلية، نسبة للخديوي إسماعيل، وسيحمّلون أخشاب المبنى مسؤولية احتراقه، وبالطبع لن يكلف أحدهم نفسه بالتفكير بقواعد الأمن الصناعي، ومدى التزام القائمين على المبنى بها، وسيصرخون في وجه من يسأل عن السبب بأن الوقت غير مناسب، وأن القانون سيأخذ مجراه، وأن الهدف الآن هو إخماد الحريق، وسوف يزايدون على الجميع بالتغني بعشرات القصائد الكاذبة في حب مصر، وهي لا تعني سوى حب ما ينهبونه من خيراتها.
أتذكر كلمات جدتي ـ رحمها الله ـ التي تقول إن "بيت المهمل يخرب قبل بيت الظالم"، فما بالنا حين يكون المهمل ظالماً، وحين يبلغ الاطمئنان بالظالم مبلغه، فيصبح مهملاً أيضاً، لثقته بأن أحداً لن يحاسبه، فيتوحش ويتبجح ويترهل، وحتى لو احترقت مصر كلها، فسوف يستقل الطائرة ومعه أسرته وبطانته، متوجهين لمنتجعات الغرب والشرق، في انتظار كاميرات الفضائيات ليسردوا أمامها ذكرياتهم عن الشعوب التي لا تستحق ما بذلوه من أجل رفعتها، ووضعها في مصاف الأمم المتحضرة، ولا بأس ببعض العبارات البلهاء عن مكافحة التطرف والاحتقانات والحرائق وتفعيل القوانين واستقلال القضاء، وغير ذلك من الأمور التي لا يحدث سوى عكسها تماماً.
فالتطرف هو صنيعة سياسات تلك الأنظمة الفاشلة، ومعه وفي ظله ترعرعت الطائفية، والاحتقانات هي الابن البكر لسلسلة المظالم التي باتت من فرط شيوعها وتعددها، تستعصي على الحصر، أما الحرائق فهي مجرد محصلة أولية للانفصال التام عن هموم الناس في "الكومباوندات" المغلقة عليهم.
ويبقى القضاء "المستقل" الذي يدين رجلاً كهلاً منفياً مثل سعدالدين إبراهيم، رغم حكم محكمة النقض وهي أرفع المحاكم الوطنية ببراءته من ذات التهم البلهاء، في ما يحظى أباطرة العبّارات، وتجار الدم الملوث بالبراءة تلو الأخرى، ليخرج بعدها متعهدو حملات العلاقات العامة للدفاع عنهم والتغني بمآثرهم.
سيتحدث الشُطّار والحرامية وصبية المجالس عن حكمة القيادة السياسية ـ وهو بالمناسبة الاسم الكودي للرئيس ـ وكيف يتابع بكل اهتمام ما تتعرض له المحروسة من حرائق، بينما ستكون هناك عدة طائرات رابضة في حالة تأهبٍ، حتى تحمل السادة وصبيتهم لبلاد تؤويهم، حين تمتد ألسنة اللهب من بيت لآخر، ومن مؤسسة لأخرى، وسيطالب صفوت الشريف (جداً) المصريين بالتحلي بالصبر الجميل والتماسك في وجه المحنة، وسيؤكد محامي الشعب فتحي سرور أن مجلسه الموقر سيجتمع في موعده، ولو كان ذلك على "قتب بعير"، كأن الناس معنية باجتماعه أو انفضاضه أو حتى بوجوده أساساً، بل لعلهم يدعون في قرارة أنفسهم بأن ينفض سامره، حتى لا يمرر المزيد من القوانين الجائرة، التي تطبق إنتقائياً على البعض دون غيرهم، أو يقر تعديلات دستورية تطال كل شئ، إلا ما يقتضي تعديله بالفعل.
في باكستان يضطر الجنرال مشرف إلى التنحي، ويفر أمام إصرار قوى المعارضة على مساءلته، وفي زامبيا يموت الرئيس ـ كما يحدث للبشر جميعاً ـ وفي واشنطن يلملم جورج بوش أوراقه استعداداً للرحيل المحتوم، وحتى في روسيا يتم تنزيل الرئيس بوتين إلى رئيس وزراء، أما في مصر فلا شئ من كل هذا يمكن أن يحدث، فالحاكم كائن سرمدي، لا يمرض ولا يموت ولا يتنحى ولا يخشى من معارضة أو غيرها، فهذه الأخيرة هي ابنه أيضاً، فإذا كانت الحكومة وأذنابها وأبواقها وكهنتها ابناً رسمياً لفخامته، فإن كافة قوى المعارضة ابناً بالتبني، وقد تحدث تحرشات ومكائد بين الأبناء من زيجة رسمية، وأشقائهم من زيجات عرفية، لكن هذه مجرد مناوشات مأمونة العواقب، كالمعارك السينمائية المصطنعة.
لم تعد المسألة مجرد حريق لعبت الأقدار دوراً في اندلاعه، أو يكفي تحميل الريح والماس الكهربائي المسؤولية عنه، بل هي إرهاصات مبكرة لحرائق أكبر تبدو نذرها في الأفق، فهناك حالة احتقان غير مسبوقة بين المسلمين والمسيحيين، تؤيدها عشرات الحوادث التي تتواتر بشكل متسارع، بينما لا يجد النظام سبيلاً للتعامل معها سوى إنكارها، وهناك "حالة حدية" اقتصادياً، بمعنى أن الفقراء يزدادون فقراً، والأثرياء يزدادون ثراء، وهناك فساد مافيوزي، وهناك استبداد سياسي يختزل الوطن في حزب، والحزب في شخص، وانسداد في شرايين التغيير، لدرجة بلغ معها اليأس بالمصريين درجة يخشون معها رياح التغيير، لأنها لن تحمل لهم سوى الأسوأ، وكما قالت جدتي أيضاً "إللي مارضيش بالخوخ يرضى بشرابه"، وبين الخوخ وشرابه يبقى الأمل معقوداً على معجزة ربانية، فما دون ذلك لا يبدو كافياً للاطمئنان.
Nabil@elaph.com

اجمالي القراءات 10509