العابث والمعبوث

محمد حسين في الأربعاء ١٣ - أغسطس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

كلما "اتهفيت فى عقلى" وأدرت مفتاح التليفزيون ، اجد فى غالب الاحيان برنامجا ما ، تتسم ملامح مقدمه (ته) بالجدية التى تخدعنى "دائما" وقد بدا وكأنه يتناول قضية "سخنة" ، وأمامه ترابيزة "من عبد الرحيم عمرو" ، وداخل الاستوديو "جوز عتاقى" ، واحد على اليمين وآخر على الشمال. قد يكبر العدد فى بعض الاحيان ، ولكن الفكرة هو ان هناك مواجهة بين من هم على اليمين ومن هم على الشمال.
تختلف مناحى القضايا المختلفة التى يتعرضون لها من حين لآخر ومن برنامج لآخر ، او تتشابه احيانا. فقد اجد فى نفس اليوم كل البرامج يناقشون نفس القضية "والتى كانوا يناقشونها فى نفس الفترة من العام المنصرم وما قبله وما قبله" ، وقد تمتد فى بعض الاحيان اياما واياما نفس القضية. 

فهنا برنامج اجده يناقش قضية التعليم وبلاويه ، والتى هى ممتدة بأركانها ومشاكلها من ايام "سيدى وستى". ويفضى مقدم البرنامج سلة البلاوى التعليمية "ذات الست عقود من العمر"  امام المشاهدين والحاضرين معه. وكالعادة ، قضايا غش فردى او جماعى ، سرقة امتحانات "اللى هى بتبقى موجودة فى الجيب الورانى بتاعت الوزارة" ، وحضور فلان بديلا عن ابن فلان المسنود ليتلقى الامتحانات بدلا منه "مش فاضى اصله" ، او سماح مراقب ما للجنة ما فى مدرسة ما بالنقل مباشرة من الكتاب "نظام الاوبن بوك" لوجود ابن رئيس حى السيدة فى اللجنة ، وفقر المعلمين من الناحية التعليمية ، والمناهج التى اصاب عمرها طولا مستحقة به مكانا رئيسيا فى المتاحف....الى آخر من مشاكل التعليم اياها. 
بؤجة من المشاكل التى تخص التعليم والمتعلمين ، تتكرر سنويا وتناقش سنويا وتقريبا ، بل ومن الاكيد ، انها موجودة على اجندة هذا البرنامج منذ العام المنصرم لتقدم فى العام الحالى تماما عندما يحين موعد "مولد سيدى" التعليم...الفاتحة له!
وعودة للبرنامج ، يبدأ فلانا بتاع الشمال بوصلة لعن وسخط على نظام التعليم ، ثم يلحقه بمقارنة بين التعليم فى الدول المتقدمة ونظيره فى دولتنا المصونة ، ثم ينتقل بالنقد الى التخاذل فى الوزارات المتعاقبة ، وتتصاعد حدة النقد التى يكاد معها ان "يطقله عرق". وما يكاد ان ينتهى لينتقل الميكروفون بعدها الى صاحبنا اللى على اليمين "الحاج احمد" ، فيبدأ الحوار وبراءة الاطفال فى عينيه ، مستطردا فى كلامه المعسول عن النظام ملقيا باللائمة على المواطنين " ، اباء منهم وبنين ، وان هؤلاء المواطنين "اولاد كلب معفنين" ، لا يعجبهم العجب ولا الصيام فى رجب ، ومعهم مدرسوا الدروس الخصوصية. ثم يكمل حواره مستعرضا ما تعرضه الدولة من خطط رفيعة المستوى والخطوات السحيقة فى النهوض بمستوى التعليم. وبعد وصلة دفاعية عن الدولة وهجومية على المتعلمين الذين لا يهتمون بالتعليم يبدأ صاحبنا على اليسار فى ضحد حججه الى ان يأتى على الهاتف الوزير او المسئول "الحاج اسدحمد" الذى يعيد ترديد ما قاله "الحاج احمد" بتاع اليمين ، وبعد كلام عن مستوى التعليم الذى نهض بالفعل "واظن احيانا ان البرنامج قد اخطأ واتصل بوزير تعليم ايطاليا" ، منهيا قوله بمناجاة تلك الايادى الخفية التى تعبث بأمن البلاد والتى ليس من مصلحتها ان يتنعنش التعليم. وينتهى البرنامج كالعادة على فكرة الايدى التى تعبث والدولة المعبوث بها. الى ان يحين مولد سيدى التعليم فى السنة الجاية. الفاتحة له مرة تانية!

ومرة اخرى اتهف فى عقلى ، فتقذف بى نيتى "التى يبدو انتفاء سلامتها عنها" متبعا نظرية التعبيث ، فأعبث بمفتاح التليفزيون لاصطدم بقضية اخرى ، ويبدو انها المواصلات ، والحديث عن بعض العربيات اللى لزقت فى بعضيها على الطريق من شدة الشوق والحنين ، او قطاران من شدة ولعها "خدت بعضها بالحضن" ، وضحايا الشوق بالمئات. فنحن شعب "عاطفى" لذلك مواصلاتنا "عاطفية" ، ده انا فى مرة حتى قفشت عربية كارو بتسمع "عبد الحليم".
المهم ، ياتى الميكروفون فى يد صاحبنا "او اصحابنا" اللى على الشمال ، فيبدأ باحصاء عدد الحوادث السنوية وتعداد قتلى الحوادث بالالاف ، والتى تفوق سنويا فى قتلاها عدد قتلى الجنود الامريكان فى حرب العراق. ثم ناقما على سياسة الحكومة فى التعامل مع الحوادث ، والقصور التى يشوبها ، ثم ينتقل الميكروفون الى "الحاج احمد" مسئول النقل ، فيبدأ اولا فى سرد مشاكل المواصلات "الذى عين من اجل سردها" ، فيلقى باللائمة على السكك الحديدية المتهالكة ، والقطارات "اللى طلع ... ابوها" منذ عصر الانجليز ، وكأنه مالوش دعوة بالكلام ده. ثم على الهاتف كالعادة "الحاج اسدحمد" الذى يبدأ حواره بهجوم على السائق "اللى بيموت فى الحادثة" الذى حظه السئ جعله محط تخاذل وسببا رئيسيا فى الحادثة ، غير ناسيا الاشارة الى ما تفعله الهيئة من تطوير للسكك الحديدية "اللى لا بتتطور ولا نيلة" ، الا اذا كان يتحدث صاحبنا اسدحمد عن سكك حديد اسبانيا. وكالعادة تروح اللائمة على السائقين ، الاحياء منهم والميتين ، مؤكدا كلام صاحبنا اللى على اليمين ، وتطول اللائمة المواطنين الراكبين ، الصاعدين منهم والنازلين ، وعدم احترام اشارات المرور ذات العدد "العشرين" ، والتى ظل عددها لعقود وعقود "عشرين" ، حتى وبعد ان انصرم القرن "العشرين". ثم والحاج "اسدحمد" وزيرا كان ام مسئولا ، لا ينسى الاشادة بانجازات الدولة عرضا وطولا ، وبعض من اللوم على ضيف اليسار ، متهما اياه بجهله للعربة والقطار ، وانه طيلة حياته لم يركب الا الحمار ، فكيف له ان يشترك بمثل هذا الحوار ، ونهاية بالايادى الخفية التى تعبث بالاستقرار.
الله يلعن ابو الاستقرار!

ونأتى الى المشكلة صاحبة المئات من السنين ، الفتنة الطائفية. والتى لا حل لها. واللى يغيظ ان كل مرة الدولة تشجب كل من يحاول ايقاظها ، والذى كما هو الحال دائما يكون "العابث" ، فى حين ان تلك الدولة نفسها تفتح المجال "قبلى وبحرى" للمشايخ والدعاة على الشاشات والاذاعات ، محلية كانت او حكومية او فضائية ، وعلى صفحات الجرائد القومية ، تاركين اياهم "اى المشايخ" ليكفروا فى خلق الله قاذفين "الاخر" بفساد عقيدتهم وكتبهم ، محرضين على الكراهية. واللى يغيظ اكتر ان الشيخ من دول دائما ينهى حواره بأن الاسلام دين سماحة. ويبدو ان سماحة "مات".
والحاج احمد والحاج اسدحمد دائما ما يتحدثان عن الفتنة "اللى فى نظرهم واخدة تعسيلة" ودائما يبدو كلامهم وكان الوضع تمام وان القتلة دائما والمقتولون متخلفون عقليا ، ويبدو فعلا ان الشعب كله اصبح متخلفا عقليا ، لان هذا الكلام لا يقال الا اذا شعر القائل ان المستمعين متخلفون عقليا. ويسير كلام الحاج اسدحمد فى طريقه حتى تؤول الامور كالعادة الى تلك الايادى التى تعبث فى الدولة المعبوث بها.

وهلم جر من المشاكل التى تؤول للعابث ، ورغم مرور ستة وخمسون عاما ، الا انه مازال هذا العابث يعبث ، وتظل مصر لا ترى الا من يعبث بها وبشعبها.

وهناك احتمالين فى تلك المشكلة التعبيثية ، وهو اما اننا تحت حكم افراد "يعبث بهم" على سهوة يوميا على غيار الريق. او اننا اساسا شعبا معبوث فى اساسه. وفى الغالب الاثنان معا!

وها انا قد هدانى الله الى ايجاد احتمال المعبوث فيهم ، ولكننى فشلت فى الاستدلال على العابث "ابن الكلب اللى مش متربى" اللى هارينا تعبيث وعمال يعبث فى اللى جابونا منذ ما يقرب من ستين عاما!

اجمالي القراءات 10063