خواطر حول المحكم والمتشابه

زهير الجوهر في الخميس ٣١ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

تحية طيبة

كثر الكلام في الآونة الأخيرة على الموقع حول ضرورة الأتفاق على تعريف معين للمحكم والمتشابه, حتى كنت أزمع ان أكتب بحثا منظما بهذا المجال, لابل وكنت قد راسلت عبر البريد الألكتروني أحد القرآنيين لعمل بحث مشترك معه, لكني تراجعت عن الفكرة, لعدم وجود الهمة والوقت. وأتمنى أن يبحث هذا الأمر بصورة منظمة أكاديمية ويخرج بحثا أكاديمي على مستوى الدكتوراه في هذا الموضوع بدل الكلام هنا وهناك حول هذا الموضوع.

في هذا المقال أريد أن أكتب بعض الخواطر حول هذا الموضوع.

الموضوع كله في الحقيقة يدور حول تفسير الآية 7 من سورة ال عمران (ترقيم عاصم).

هو الذي انزل عليك الكتاب منه ايات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله وما يعلم تاويله الا الله والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا اولوا الالباب

تعددت التفسيرات في هذا الآية. هناك من قال بأن المحكم هو القطعي الدلالة, والمتشابه هو الظني الدلالة. ولكن ماهو مقياس القطيعة من الظنية؟

أحد الأحتمالات المتطرفة هي أن القطعي الدلالة معناها الذي يحتمل تفسيرا واحد فقط لاغير. بينما الظني الدلالة هو الذي يحتمل أكثر من تفسير واحد.

بهذه الطريقة يستطيع الكثير من أن يثيروا معاني مختلفة لمعظم أيات القرآن, وبالتالي ينتهون الى النتيجه المتطرفة والتي هي أن أكثر القرآن متشابه وبالتالي لانعلم تأويله أي تفسيره, وبالتالي يحصر تفسير القرآن بالقطعي الدلالة فقط وهي آيات قليلة جدا أن وجدت, والنتيجة هي تعطيل القرآن, وأختزاله الى بضعة آيات معدودة على الأصابع.

من دون شك ان هذا التفسير متطرف لابل وخاطيء, لأنه بهذا الحالة الآية اعلاه نفسها ستكون من المتشابه الذي لانعلم تفسيره, وبالتالي يسقط هذا التفسير لانه مبني على مالانستطيع ان نفسره! متناقضة تشبه الى حد بعيد الكوجيتو الديكارتي: أنا أشك أذن أنا موجود.


ينبغي علينا أن نجد مقياس معين للقطعيه.

في رأيي الشخصي هذه الآية تقرر أشياء محددة واضحة.

أولا: لاأحد غير الله يعلم تفسير القرآن على وجه اليقين, فالذي يريد أن يشرح للناس القرآن يجب علية أن يقول لهم وبأمانه بأن هذا التفسير كذا وكذا للآية كذا أنما هو رأيه الشخصي فقط لاغير, ولايجوز له أن يدعي أنه يعلم على وجه اليقين تفسير أي آية من آيات الله.

ولذلك فأنه هناك آيات محكمات أي تحتمل عدد قليل من المعاني المختلفة, وحتى الأختلاف ليس كبيرا جدا, ولكن حتى هذه الآيات المحكمات لايجوز لنا أن نقول أننا نعلم تفسيرها على وجه اليقين, وأنما نقول بأن هذا أجتهادنا الشخصي القاصر ليس ألا.

في الحقيقة يوما بعد يوم نكتشف بأنه من الصعب علينا أن نجري الأستنتاجات. فيما قبل كان الفلاسفة يعتقدون بأن الفلسفة والعلم هي طريق لعمل الأستنتاجات, فأذا بنا نفاجيء بأن مكتشفات العلم الحديثة, تعلمنا كيف يجب أن لانجري الأستنتاجات (برتراند رسل). هذا الكلام الذي أقوله هنا قد لايعيه الكثيرون, لكن أي أنسان يقرأ تأريخ الفلسفة والعلم يصل الى هذا الأستنتاج النقدي الخطير.

هذه كانت القصة مابين الأجتهادات البشرية في تفسير آيات الله الكونية (مانسمية بالعلم), خلص أولو الألباب بأنه علينا أن لانجري الأستنتاجات القطيعة حول قضايا العلوم الطبيعية.

نفس الشيء حول آيات الله الكلامية, فهي آيات الله ولايمكننا القطع بتفسيرها أبدا مهما بدت الآية واضحة لنا.

يعجبني في هذا السياق أن أورد وجهة نظر الأستاذ أحمد صبحي منصور حين قال بأن جميع جهودنا لتفسير القرآن تقع ضمن نطاق الفكر الديني وليس الدين, الفكر الديني هو أجتهاد بشري, أما الدين فهو العلاقة مابين الأنسان وربه. وكذلك تعجبني كلمة الأخ د. حسن أحمد عمر:

باحثون عن الحقيقة نعم, لكن مالكون للحقيقة لا.

ثانيا: الآيات المتشابهات هي تلك الآيات التي تثير أختلافا كبيرا الى درجة الفتنة. هذه الآيات دائما نرى ان الذين في قلوبهم زيغ يستشهدون بها, ودائما يبرزون الأمر وكأنهم يعلمون تفسير هذه الآيات بصورة مطلقة, وهنا تحصل الفتنة عندما يريد كل واحد ان يفسر هذه الآية بالذي يتلائم مع أفكاره ويحاول فرضها على غيره, ويعتبر المنكر لتفسيره منكرا لدين الله ومنكرا لكلام الله ومكذبا للقرآن وبالتالي قد يخرجه من الدين ويحكم علية بالأرتداد, الخ الخ الخ...

طبعا الفتنه في بعض الأحيان تطلق على التشكيك في الدين أيضا, فالملاحدة مثلا أيضا يتبعون الأيات المتشابهات ويرون تفسيراتهم لها على أنها مراد الآيات  ثم يستهزؤن بها, ومثال على ذلك مؤلفات كامل النجار "قراءة نقدية في الأسلام". وهم بهذا يحاولون أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم, أي يشككونهم بدينهم لغرض أخراجهم منه, وهذا نوع من أنواع الفتنه, وأحد مصاديق الآية أعلاه.

هناك من المسلمين من يذهب الى الآيات المتشابهات في القتال كي يفسرها بما يتلائم مع طبعه العنيف, ويفسرها بما لايتلائم مع الآيات المحكمة في مجال القتال: راجع مقالي : الحرب والسلام في الأسلام. ونحن نرى يوميا أمثلة من هؤلاء على التلفاز وفي الشارع حتى صاروا هم الرأي الأعلى حاليا ومن يخالفهم أما مرتد أو خائن أو واهم أو أو أو....

وفي الأتجاه الآخر نرى هناك من قال بأن كل آيات القرآن محكمة, وبالتالي فيمكننا تفسيرها جميعا, وأن وجود المتشابة يأتي من قصورنا في تفسير القرآن تفسيرا موضوعيا متكاملا, والمقصود بالآيات المحكمات في هذه الآية هي التي لايمكن تفسيرها بما يتناسب مع الزيغ الموجود في قلوب هؤلاء الزائغين عن الحق حتى وأن أتبعنا مناهج ناقصة في تفسير القرآن, أما الآيات المتشابهات فهي الآيات التي يمكن حملها على معاني أخرى نتيجة عدم أتباع الطريقة المثلى في تفسير القرآن. وأبرز الذين يرون هذا الرأي هم الأستاذ أحمد شعبان, ويتفق معة الأستاذ زهير قوطرش, والى حد ما الدكتور أحمد صبحي منصور.

وأدلتهم على ذلك الآية 1 من سورة هود: الر كتاب احكمت اياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير


وبهذا يعتقدون بأننا في حال أمتلاكنا للمنهاج المتكامل في تفسير القرآن, فأنه يمكننا تفسيره كله بصورة مضبوطة.

عيوب هذا الرأي هو أنه يتعارض مع "وما يعلم تأويله الا الله" .

لكن طبعا لكي يزيلوا هذا التعارض الواضح ذهبوا الى تفسير معنى "تأويله" بصورة مختلفة عن المتعارف عليه.

فهنا قالوا بأن التأويل معناه هو تجسد وتحقق الشيء, وبالتالي فهم يزعمون بأن المقصود من "ومايعلم تأويله الأ الله" هو, ومايعلم كيفية تحقق الأخبار الغيبية في القرآن في اليوم الآخر ألا الله. وبالتالي فهم يقولون بأن المتشابة معناه السور التي تشبه للناس الغيبيات بأمثال وبصور تقريبية, وبالتالي لايعلم كيفية تحقق هذه الأخبار الغيبية في القرآن (أي تأويل القرآن حسب تعاريفهم) الا الله.

أما ماعدا هذا الأخبار الغيبية فأن القرآن محكم, وخصوصا الآيات التشريعية, فهي محكمة لان سياقها هو الأحكام, أي يستلزم أخذ الايات التشريعية على ظاهرها. ومن الجدير بالذكر بأن الأستاذ أحمد صبحي منصور يحمل هذا الرأي.

ومن الواضح عندي أن هذا الرأي الأخير منحاز ولايمكن الرجوع اليه. فهو يتبع فكر مسبق الا وهو أننا يمكننا ان نفسر أغلب القرآن عدا الغيبي.

مشكلة هذا الرأي أيضا هو أنه لايتلائم مع السياقات القرآنية التي وردت فيها كلمة التأويل, فمعظمها جاءت بمعنى التفسير وليس التجسد والتحقق. وحتى التجسد والتحقق لخبر معين أو رؤيا ممكن أن تعتبر من مصاديق التفسير. لكن العكس ليس صحيحا.


نحن نشاهد يوميا المتطرفين يستشهدون بآيات تشريعية, ويؤلونها بما يتناسب مع الزيغ الموجود في قلوبهم, وفي الحقيقة فأن المتشابة موجود في المجال التشريعي وليس فقط الغيبي, بل والحق يقال ان المتشابة في المجال التشريعي أخطر بكثير من ذلك الموجود في المجال الغيبي.

ليس فقط هذا بل لاحظ التعقيب الألهي ب " والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا اولوا الالباب ".

الراسخون في العلم لايقول بأننا نعلم تفسيره, بل يقولون آمنا به, أي أن هناك رأي شخصي يقول بثبوت كون كل الآيات القرآنية المحكمة والمتشابهه, كلها من الله. لكن هذا حد يقيقنية الراسخين في العلم, فهم لايدعون بأنهم يعلمون تفسير آيات الله, ولاحتى يدعون بأنهم يعلمون المنهاج المتكامل الذي سوف تفسر به كل الآيات.


رأيي الخاص هو أن تفسير الآية 1 من سورة هود, لاعلاقة له بالآية 7 من سورة ال عمران, وألا لوقع هناك تناقض.

وتفسير الآية 1 من سورة هود, يوجد في سياقها:

الر كتاب احكمت اياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1) أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)

فمن الواضح ان المقصود بأن آيات القرآن محكمة بخصوص موضوع عبادة الله وحدة, وكون النبي بشير ونذيرا و أن يستغفر الناس ربهم ويتوبون اليه ...الأيات , فبهذا الخصوص بدون شك أن آيات القرآن محكمة. وهذا الموضوع ليس له علاقة بقضية المحكم والمتشابه في تأويل القرآن.

في رأيي الخاص: أهم مقطع في الآية 7 من سورة ال-عمران هو " ومايعلم تأويله الأ لله", أي وما يعلم تأويل القرآن الا الله.

وهذه هي الحقيقة , هو أننا جميعا لانعلم علم اليقين معنى أي آية من آيات القرآن, لكن ذلك لايعني تعطيل آيات الله. بل العكس علينا أن نتدبر آيات الله بعقولنا وقلوبنا, ونتفاعل معها, ونحاول كل الممكن من أجل تفسيرها, ولكن في نفس الوقت لايجوز لنا الأدعاء بأننا نملك تفسيرها.

لكن آرائنا الشخصية ستكون أقوى كلما كان منهاجنا متكاملا, وستكون أقرب الى الله كلما كنا صادقين مع انفسنا, وننتقد آرائنا نفسها, ونطورها بأتجاه الأفضل.

الأسلم طبعا هو أن نلجأ الى الآيات التي هي "أم الكتاب". وهي الآيات العامة التي لايختلف فيها الا قليلا. وهذه هي روح القرآن, وهذه هي أرسخ الآيات حيث ان تفسيرنا لها يحتمل الخطأ اقل من المتشابهات التي تعنى بتفاصيل بعض التشريعات, وكذلك بالأمور الغيبية.

الحق يقال بأن الكثير من الآيات القرآنية في تفاصيل التشريعات معطلة حاليا ولايمكن الأخذ بها! مثال: جلد الزاني والزانية, ماهي تفاصيل هذا الجلد يعني, ما هي قوة ضربة السوط, ماهو السوط الذي نستعملة, هل هي ضربات خفيفة جدا بحيث لاتؤذيهم ويكون العقاب معنوي مثلا, أم السوط يكون من النوع الحاد والضربة تكون قوية, ثم أربعة شهود, لكن ماذا يشهدون يعني, هل يجب أن يشهدوا بأن الأيلاج قد تم, أم يكفي أن يشهدوا أنها كانت بحضه تتبادل القبلات معه, يعنى ماذا بالتحديد؟؟؟

كذلك حد قطع اليد, مالمقصود ب"قطع", أذا كان البتر, فمن أين نبتر اليد ياترى, هل نبتر الأصبع الأصغر, أم نبتر اليد من الرسغ, ثم مالقصود بالسارق والسارقة, هل معناها الذين يمتهنون السرقة, وحتى لوكان هذا المعنى فما هو شرط تحديد تلك المهنية يعني.

هذا وغيره من الأحكام, لايمكن في الحقيقة الوقوف على حقيقتها, مما يجعلني أعتقد بأن هذه التشريعات كانت خاصة بزمن الرسول نفسه, لكننا لانستطيع تنفيذها الآن.

لكننا نستطيع تنفيذ عقوبات مدنية تتناسب مع القواعد التشريعية العامة في القرآن" أم الكتاب".

من هذا نرى عظمة الآية التالية: واتبعوا احسن ما انزل اليكم من ربكم من قبل ان ياتيكم العذاب بغتة وانتم لا تشعرون (55) الزمر


وأحسن ما أنزل الينا من ربنا هو المحكم.

في رأيي الخاص ان المحكم من القرآن هو الآيات التي ترسخ معاني الرسالة الأسلامية العامة, لابل وكل الرسالات السماوية, من توحيد الله و السمو الأخلاقي, قيم السلام والمحبة والتسامح, وبعض المحرمات العامة والآيات الدستورية في مواضيع التشريعات(الآيات العامة المطلقة الواضحة مثل الآية 190 من سورة البقرة).

أما التفاصيل فهي متشابهات, ولايمكننا ان نتكلم وكاننا نعلمها علم اليقين, فهذه لايعلمها الا الله.

من هذا كلة وصلت الى النتائج التالية:

1- اننا لانملك تفسير القرآن لامحكمة ولامتشابهه, ولايجوز لأي أحد ان يدعي ذلك. وعندما نفسر القرآن يجب أن نقول بأن هذا كلامنا, وهو ليس مقدس, وأنما هو قابل للخطأ والصواب.

2- المحكم في تأويل القرآن :هي الآيات التي لايوجد أختلاف كبير عليها, وهي الآيات العامة في القيم والمبادئ الأسلامية, والمحرمات العامة والآيات الدستورية في التشريع.

3- المتشابة في تأويل القرآن: هي تلك الآيات التي تحمل معاني مختلفة , وقد تؤول من من في قلوبهم زيغ بما لايتناسب مع الآيات المحكمة وروح الأسلام والديانات المساوية.

4- علينا دائما أن ننهض بتفسيراتنا للقرآن وأن لانكون جامدين, لاننا لانملك الحقيقة فهذا سوف يجعنا دوما نطور مناهجنا لفهم القرآن بصورة تقربنا من الله عز وجل.

هذه كانت خواطري حول هذا الموضوع الشائك.

وقد أكون مصيبا أو مخطئا

والله أعلم

مع التقدير

اجمالي القراءات 15022