مشيناها خطى... وداعا رؤوف عباس

مجدي خليل في الإثنين ١٤ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

فقدت مصر يوم الخميس 26 يونيه 2008 المؤرخ الكبير والاكاديمى البارز والوطنى الأصيل الأستاذ الدكتور رءوف عباس. ينتمى رءوف عباس إلى بقايا جيل ترعرع فى مصر الليبرالية وهو فى طريقه للإنقراض ولم يبقى منه إلا افراد يعرفون معنى الجدية والاستقامة والوطنية والنجاح والصبر والصمود والإستقلالية والامانة وعزة النفس وكرامتها والحفاظ على روح مصر ووحدتها الوطنية. فى عام 2004 هاتفنى الدكتور رشدى سعيد ونبهنى إلى ضرورة قراءة السيرة الذاتية للراحل الكريم والتى كانت صدرت لتوها بعنوان " مشيناها خطى". اشتريت الكتاب الذى لا يزيد عن 170 صفحة، ولكن ما اعظم قيمته، والتهمته فى نفس اليوم. وعندما قرأت نعيه،على لسان شخصية وطنية فذة آخرى هو الدكتور محمد ابو الغار، رجعت لقراءة الكتاب مرة ثانية ولم يقل إعجابى وانبهارى عن القراءة الأولى.
لن ازيد عن ما كتب حول هذه السيرة الذاتية المتفردة فى مصربصراحتها وشجاعتها وعبق وطنيتها، حتى إنه ذكر الوقائع باسماء اصحابها الحقيقية،، والتى يمكن تلخيصها بإنها سرد للتغيرات التى حدثت فى مصر وخاصة فى العقود الاربعة الأخيرة من خلال رصد ما أصاب الجامعة والتقاليد الجامعية من تدهور وفساد وغش وتدليس، ومن خلال رصده لتاريخ الجامعة المصرية، رصد أيضا بألم ما اصاب الشخصية المصرية والقيم والأخلاق المصرية والتدهور الذى خطط له السادات بعناية للقضاء على ما يسمى بالوحدة الوطنية، وتدهور الوضع حتى وصل إلى القاع فى عهد حسنى مبارك... والقادم اسوأ ما لم يتدارك العقلاء والوطنيون مصر ووحدتها.
ولا عجب من شخصية تقدس الجامعة بهذا الشكل مثل الدكتور رءوف عباس أن ينضم إلى حركة المناضلين المصريين،9 مارس، لإستقلال الجامعات فى مصر ويحرر كتابها " الجامعة والمجتمع"، ومن قبله يصدر كتابه " جامعة القاهرة... ماضيها وحاضرها".
عندما تقرأ ما كتبه رءوف عباس وغيرته على التقاليد الجامعية وإستقلال الجامعة تتذكر ما كتبه المستشار الفاضل سعيد العشماوى فى كتابه " على منصة القضاء" وحزنه ايضا على ما اصاب القضاء من عطب وتدهور وفساد..... ولا آمل فى تقدم مجتمع تفقد فيه الجامعة والقضاء إستقلالهما... لقد إنكشفت حجم الكارثة التى أصابت مصر بما حدث فى القضاء والجامعة وكلاهما تدهور بنفس القدر، وكلاهما مرآة كاشفة لما أصاب المجتمع والدولة فى مصر.

الجامعة المصرية
يلخص رءوف عباس مأساة الجامعة المصرية فى عنوان بليغ هو " تحت القبة وهم"، يقصد قبة جامعة القاهرة بالطبع،. وتكتشف فى هذا الفصل مدى الإنحدار الذى اصاب الحياة الجامعية فى مصر، فعميد الكلية يطلب منه أن يكتب بحثا لابنة السادات لتقدمه إلى الجامعة الامريكية وحسن رد د. رءوف عباس عليه قائلا" أنت عارف قاعد فين، قاعد على كرسى طه حسين، وبتشتغل نخاس، بتبيع أساتذة الكلية فى سوق العبيد"، ورئيس الجامعة يوقف استاذ عن التدريس لأنه رسب عنده بعض ابناء وبنات مسئول فى المخابرات، وعندما يذكره رءوف عباس بأنه يجلس على الكرسى الذى كان يجلس عليه احمد لطفى السيد وقاتل من آجل إستقلال الجامعة اتضح ان رئيس الجامعة لا يعرف من هو احمد لطفى السيد!!!. ،واجهزة الأمن هى التى تتحكم فى كل شئ داخل الجامعة من تعيين رئيس الجامعة ذاته إلى العمداء ورؤساء الاقسام،والاساتذة الانتهازيون الذين تفرغوا لكتابة التقارير للأمن عن زملاءهم وعن الطلبة وكما يقول" كانت هذه التقارير هى الطريق التى سلكها الإنتهازيون للحصول على المكافآت مثل مناصب المستشار الثقافى بالسفارات المصرية بالخارج، ومناصب الهيئات الدولية وانتظار حلول الدور لتولى منصب الوزير"،ويواصل " خضعت الجامعة لسلطان أجهزة الامن، فكان طه ربيع مدير إدارة الأمن بوزارة التعليم العالى يمارس نفوذا على الجامعات يفوق سلطان الوزير ذاته، وتسابق المنافقون لتملقه... وبلغ التملق ذروته عندما حصل الرجل على درجة الدكتوراة من إحدى كليات الآداب. وتكرر دكترة مدير أمن التعليم العالى، بل ومديرى أمن الجامعات". ، " وكان رئيس الجامعة أحرص الجميع على التفانى فى خدمة أجهزة الأمن، ولا يرفض لأحد كبار ضباطها طلبا شخصيا"، " وإذا رفض العميد الاستماع إلى النصائح الملزمة التى يقدمها رجال الأمن، فإنه بذلك يغامر بمستقبله الإدارى". وهؤلاء الاساتذة الإنتهازيون الذين يتذللون لرجال الأمن يعاملون المعيدين لديهم كعبيد لتقضية إحتياجات الأسرة وجمع المادة العلمية للطلبة العرب الأثرياء. بإختصار يلخص الموقف بقوله " تردى مستوى الأداء بين أعضاء هيئة التدريس وتفكك الروابط الجامعية، وتحول الجامعة إلى مدرسة عليا،واختلال معايير تقييم أعضاء هيئة التدريس بلجان الترقيات.. أو بعبارة أخرى انعكاس الفساد الذى تفشى فى المجتمع على الجامعة... فالجامعة خلية من خلايا المجتمع، تتأثر بما يصيب بقية الخلايا من عطب، ومن أمراض، وهى مرآة تنعكس على صفحتها صورة المجتمع بما فيه من تناقضات وما يعانيه من علل وأوجاع".

الوحدة الوطنية
أكثر ما يحزنك ويؤلمك فى مذكرات الراحل الكريم هو التخطيط المتعمد الذى رسمه السادات لتدمير الوحدة الوطنية وتهميش الأقباط وتحويلهم إلى مواطنيين من الدرجة الثانية... وما يحدث حاليا من تدهور مريع فى هذه الوحدة هو تطور طبيعى لما خطط له ونفذ بدقة، وما زال تنفيذ المخطط مستمرا.
كان رءوف عباس يرى " أن الوحدة الوطنية هى القاعدة الصلبة للشخصية المصرية، والضمان القوى لتماسك المجتمع المصرى، وكان لى الشرف فى الاشتراك مع نخبة من كبار المثقفين فى تأسيس الجمعية المصرية للوحدة الوطنية فى أواخر الثمانينات من القرن العشرين".
وفوجئ رجل بمثل هذه الرؤية الوطنية بمكالمة من رئاسة الجمهورية تدعوه ومجموعة منتقأة من أساتذة الجامعات للإجتماع بالرئيس السادات فى الاسماعلية على مدى يومين لوضع التفاصيل لإنشاء معهد " للدراسات الوطنية" للتخطيط لتخريج مجموعات من الشباب ذوى السمعة الوطنية الطيبة لتثقيفهم على الأسس الوطنية السليمة وكانت الكارثة فى ان هؤلاء الشباب ليس بينهم اقباط، والكارثة الأكبر عندما رفض وزير الثقافة وقتها السيد منصور حسن ومساعده دكتور مصطفى السعيد ان يكون أى من أعضاء هيئة التدريس فى هذا المعهد من الأقباط، وهكذا رفضوا ترشيح أسمى دكتور يونان لبيب رزق ودكتور اسحق عبيد تاضروس اللذين قدم اسميهما دكتور رءوف عباس، ورفضوا ترشيحات آخرى قبطية من طرف دكتور عبد الملك عودة، ومع اصرارهما على هذا الترشيح استبعدا هما أيضا من هذه المهمة.
ويعلق دكتور رءوف عباس بقوله" يكشف موقف منصور حسن وتابعه مصطفى السعيد عن المنزلق الذى قاد السادات مصر اليه،فليس من المنطقى ان يكون موقف الوزير مغايرا للتعليمات التى يتلقاها من الرئيس، بل كان خطا عاما التزمه النظام، والدليل على ذلك التجربة المريرة التى مررت بها،وقد فضحتها أمام الرأى العام".
أما هذه التجربة فكانت إعتذار الدكتور رءوف عباس عن أستمرار وضع أسئلة التاريخ للثانوية العامة عام 1988، وقد طلب منه وكيل الوزارة ترشيح أسما آخر، وعندما ذكر له أسم يونان لبيب رزق قال له فورا" هو سيادتك مش عارف ان الأمن مانع أهل الذمة من وضع الامتحانات؟"، ولما استنكر ذلك اقسم محدثه بتربة ابوه أن تلك تعليمات معروفة للجميع ولا يملك أحد الخروج عنها، ولما توعده بابلاغ ذلك للوزير قال محدثه " أنت فاهم الوزير يقدر يكسر كلام الأمن".
ولما نشر الراحل الكريم هذه الواقعة فى جريدة الاهالى عام 1988 صدرت تعليمات سيادية لجريدة الاهالى بغلق الموضوع،وزايدت منى مكرم عبيد عليه فى مجلس الشعب واتهمته بالعبث بالوحدة الوطنية!!!. واتضح أن حرمان الأقباط يمتد أيضا إلى تأليف الكتب الدراسية.
وعندما حاول دكتور رءوف عباس إنتداب دكتور يونان لبيب رزق للتدريس بقسم التاريخ بجامعة القاهرة هاج وماج دكتور محمد محمد امين وقال له أن الله لن يغفر لك هذا الجرم، لأن الأستاذ سوف يكيل الدرجات للمسيحيين على حساب المسلمين، وأصر ذلك الاستاذ على رصد درجات الامتحان للفرقة التى درس لها الراحل يونان لبيب رزق، واكتشف بعدها كم هى أمانة يونان لبيب رزق فى تقييم الطلبة.
وفى عام 1986 اعترض استاذ آخر هو حسنين ربيع على تعيين معيدة قبطية بقسم التاريخ رغم احقيتها، منفعلا بأن القسم تخلص من هؤلاء منذ ما يزيد عن خمسين عاما، وكان يقصد التخلص من الدكتور عزيز سوريال عطية عام 1944 بنقله إلى آداب الاسكندرية وعندما ضاقت به السبل هاجر إلى امريكا وأصبح من علماء العالم وكما يقول دكتور رءوف عباس " يعد برنارد لويس نكرة مقارنة بعزيز سوريال عطية".
والمعروف أن دكتور عزيز سوريال عطية أسس قسما لدراسات الشرق الآوسط بجامعة يوتا وظل رئيسا للقسم حتى وفاته، وهو القسم الذى يرأسه الآن الدكتور ابراهيم كروان، وكان عزير سوريال هو المحرر الرئيسى للموسوعة القبطية التى صدرت فى عشرة اجزاء فى اكثر من ثلاثة آلاف صفحة بمعاونة 200 من علماء القبطيات حول العالم، وهى تعد أهم الموسوعات التى صدرت عن الأقباط حتى الآن.
وقد وضع الدكتور رءوف عباس إستقالته على مكتب العميد إن لم تعين هذه الطالبة، وكان له ما اراد. . وأصبح بذلك هناك معيدة قبطية بقسم التاريخ لاول مرة فى تاريخه.
هذا غيض من فيض مما رواه الراحل الكريم عن تخريب الوحدة الوطنية والتخطيط المنظم من قبل أجهزة الدولة لتهميش الأقباط، وهو جزء يسير جدا مما حدث ويحدث للأقباط يوميا فى مصر.. ولكن هذا ليس بمستغرب فى بلد تتدهور فيه كل شئ... ولا يوجد شئ واحد يمكن المراهنة عليه بالنسبة لمستقبل مصر.
وإذا كان الرئيس السادات قد استدعى دكتور عبد العظيم أنيس لمساعدة ابنه جمال فى المذاكرة فى الثانوية العامة، وعندما قال له دكتور عبد العظيم انيس هذا لا يصح لاننى انا من يضع أسئلة أمتحان الثانوية العامة، فرد السادات لهذا السبب استدعيتك... ورفض الرجل الشريف بالطبع هذا الخزى.
الرئيس السادات كان يرغب فى شرح اجابات أسئلة الامتحان من واضعيها لابنه المدلل الذى لا يرغب فى مجرد مذاكرة اسئلة الامتحان.. وتدهور الوضع الآن اكثر فاكثر، ولم يعد ابن الرئيس فقط هو الذى يعرف هذه الاسئلة واجوبتها وانما ابناء الكثير من جنرالات الأمن واعضاء مجلس الشعب، بل وتبجح بعضهم وعرض هذه الامتحانات للبيع فى محلات البقالة.
الوضع الآن تدهور أكثر واكثر، وإذا كان جمال السادات كان يرغب فى اسئلة الامتحانات، فإن جمال مبارك وضع مصر كلها تحت أمرته من السياسة إلى البيزنس.
ولا نعرف ماذا كان نجيب سرور سيقول فى وصف هذه الآوضاع الشاذة أكثر مما قاله من قبل.. ولك الله يا مصر.

اجمالي القراءات 13731