حكاية من دفتر يهود مصر

نبيل شرف الدين في الأربعاء ٠٤ - يونيو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

بكل أسف وأسى، اعترف بأنني لم أقابل طيلة حياتي يهودياً مصرياً سوى مرة واحدة عابرة، ولعل كل ما استقيته من معلومات عن أحوال هذه الطائفة المنقرضة، كان من القراءات والأفلام التسجيلية، وشهادات الأجيال السابقة ممن عاصروهم في زمن مصر الليبرالية، غير أن مشهداً وحيداً لا ينسى قيضت لي الأقدار أن أكون شاهداً عليه قبل أعوام..
أما فصول قصة هذه المرة العابرة، فجرت وقائعها حين كنت في حي "الظاهر" وسط القاهرة لزيارة صديق، ورأيت سيدة مُسنّة تحتضن صاحب محل ساعات بشوق وصل بكليهما إلى حد البكاء، كانت ملامح السيدة تشي بأنها كانت جميلة في صباها، أما الرجل فملامحه مصرية خالصة، ومن الصور المعلقة على جدران المحل المتهالكة استنتجت أنه قبطي مسيحي، وكان هذا اللقاء من فرط حميميته وحرارته العفوية، يخطف الأبصار، فدفعني فضولي لمتابعته قبل أن أصعد إلى شقة صديقي..
فأجأني الرجل بحديثه الذي تختلط فيه الفرنسية بالعربية، وهي ترد عليه بنفس المزيج اللغوي، ومن البكاء الحار والأحضان الدافئة، تحولت دفة اللقاء إلى الضحك والقبلات، قال الساعاتي بفرنسية سليمة: "أوه يا راشيل، كان ينبغي أن تكون هذه القبلات قبل أربعين عاماً على الأقل، لكنك مع ذلك مازلتِ جميلة الجميلات على الأقل في عيني، هل تذكرين يا عزيزتي حين كان عشرات الشباب ينتظرون خروجك من البيت ليتمتعوا برؤية أجمل فتيات الظاهر وربما القاهرة كلها، فتضحك السيدة التي اتضح أنها يهودية مصرية هاجرت عام 1967، وتتفرس المكان بشوق عارم، وتبدو على ملامحها نظرة حنين ممزوجة بالدهشة، وتقول بحسرة للساعاتي "المكان تغير كثيراً يا جورج"، فيرد الرجل بالعربية: "نعم الحي كله أصبح عجوزاً مثلنا"، لكنني مع ذلك لم أستطع مجاراة ابني واللحاق به في كندا، لقد هاجر قبل عشر سنوات، هل تذكرين ذلك الفتى الذي كان يلعب مع أبناء اختك ليليان؟، لقد أصبح الآن طبيباً شهيراً، ويقيم في مونتريال مع زوجته الكندية، وصار لديهما ثلاثة أبناء"..
الساعاتي العجوز دعا ليليان لتدخل محله، وحينئذ لم أجد مفراً من الصعود إلى شقة صديقي، وحكيت له ما رأيت فابتسمت والدته قائلة: "هل تعرف أين كانت تقيم راشيل هذه؟"، وقبل أن أرد بادرت هي بالإجابة: "كانت تقيم في هذه الشقة، لكننا لم نشتريها من أسرتها، بل من آخرين اشتروها منهم"..
ومضت والدة صديقي لتروي ما اكتشفته حين قامت بتجديد الشقة قبل سنوات، إذ تبين لها أن هناك "نجمة دواد" نقشت في مكان سري خلف إحدى النوافذ، وبينما كانت تواصل حديثها طرق الباب، ففتح له صديقي فإذا بالسيدة والساعاتي يستأذنان في احتساء فنجان من القهوة، لأن "راشيل" ترغب في رؤية الشقة التي شهدت طفولتها وصباها المبكر، وبالطبع رحب صديقي ووالدته، وانضم إلينا الرجل وضيفته اليهودية المصرية، التي حرصت منذ البداية على تأكيد أنها ليست إسرائيلية بل هي مواطنة فرنسية، لأن أسرتها هاجرت قبل أربعين عاماً إلى باريس.
كانت تتحدث المصرية بلهجة قاهرية سليمة ومتدفقة سألتها: "كيف استطاعت الاحتفاظ بتفاصيل ومفاتيح اللهجة رغم مرور أربعين عاما؟"، فقالت: إن خبرة سنوات التكوين تظل راسخة في الوجدان مهما حدث، وربما تظنني أبالغ لو قلت إن السنوات العشرين التي قضيتها في مصر قبل الهجرة، هي الأكثر تأثيراً في حياتي، رغم مرور أربعة عقود على تلك الأيام، لكن هذه هي الحقيقة.
تحدثنا طويلاً، مرت أربع ساعات دون أن ننتبه، وكانت السيدة والدة صديقي كريمة لأبعد الحدود إذ أصرت على دعوة الجميع لتناول عشاء مصري يضم أطايب الطعام، محشي ورق العنب، و"فتة كوارع"، وملوخية بالأرانب، أما الحلو فكان "صوابع زينب"، ومشمشية بالمكسرات..
كل هذا وما أكلناه ونسيناه كما تفعل القطط، أكدت السيدة والدة صديقي، وهي في منزلي أم لكل أصدقاء ابنها، أنها لم تصنع لنا شيئاً خاصاً، وأنها تشعر بحرج بالغ، لكن قاتل الله الزمن الذي سلبها نشاط الشباب، حين كانت مع شقيقتها مسؤولتين عن إطعام "بيت عيلة" يضم أربعة عشر شخصاً، وانفتحت جدران ذاكرتها فاستطردت تروي عشرات الحكايات عن أحوال ذلك الزمان، واختتمت كل هذا بقولها "كنا فقراء حقاً، لكننا كنا سعداء راضين يحدونا الأمل في صنع مستقبل أفضل لأبنائنا، وكنا نجتهد في حياكة ملابس تجاري الموضة في باريس وروما، ومع ذلك كنا شرفاء، قياساً بما نراه هذه الأيام من انتشار الفساد والانحطاط الأخلاقي على الرغم من انتشار مظاهر التدين"، ثم استدركت قائلة إن ما يحدث الآن مجرد نفاق وتعصب وأعراض لأمراض اجتماعية، وليس تديناً حقيقياً، فالدين الإسلامي يقضي بأن تكون معاملة اليهود مماثلة تماماً للمسيحيين باعتبارهم "كتابيين"، ومع ذلك فلو عرف الجيران أنني استضيف الآن يهودية في منزلي، لقالوا عني ما لم يقله مالك في الخمر"..
..........
انتهزت فرصة توقفها عن الحديث لالتقاط الأنفاس، لأعرب عن دهشتي لوعيها الدقيق بتفاصيل اجتماعية وسياسية بكل هذا الوضوح، وعدم سقوطها في فخ الإرهاب الفكري، الذي يجعل مجرد الاقتراب من هذه الملفات الشائكة، كالحرص العصابي على المظهر السلفي الشكلي وقصة اليهود المصريين، ذنباً لا يغتفر، وباباً للطعن في الوطنية والعقيدة وربما النزاهة الشخصية أيضاً، والأمر إلى تصاعد للدرجة التي يؤثر معها الملايين النفاق صمتاً وإيثاراً للسلامة، وسد الباب الذي تهب منه ريح السموم.
نظرت لي الأم ملياً، واستنفرت كل طاقتها قبل أن تقول: "غريبة أنك لا تعرف أنني كنت من أوائل البنات المصريات اللاتي التحقن بالجامعات، وأنني أحلت على التقاعد بعد نحو أربعين عاماً من العمل، الذي وصلت فيه إلى أرفع المناصب، وأنني تعلمت فعلاً، كما لم تنل بناتي وحفيداتي من نصيب في التعليم، لهذا ليس هناك في الأمر ما يدعو للدهشة، بل يدعو للشفقة، أن تكون نهاية حياتنا على هذا النحو المأساوي الذي نجد فيه أنفسنا عاجزين عن إنقاذ حفيداتنا من براثن هذا الهوس الجماعي، لكنهم يسقطون ضحايا هذا النفاق وتلك العبثية وكراهية الذات والحياة، بينما لا نملك في الأمر سوى الحسرة، فلا سبيل للتوعية أو الإقناع مع عقول، تبدو مغيبة للنخاع تحت سطوة مخدرات ثقيلة من هذا النوع.
وكأنها انتبهت إلى أن الأجواء راحت تتجه إلى النكد، بادرت مضيفتنا الرائعة إلى إعادة روح البهجة إلى المكان، فأدارت الراديو الذي تصادف أنه يبث أغنية المصري الجميل محمد عبد المطلب "ودع هواك وانساه وانساني، عمر اللي فات ما هيرجع تاني"، واعتذرت السيدة لضيوفها الذين لم تكن تخطط لاستقبالهم بل ولم تتوقعهم، وأنها تشعر بالخجل لأنها لم تتمكن من تقديم واجب الضيافة كما ينبغي، وكما يستحقون.
في تلك الأثناء كنت أراقب انطباعات راشيل، كانت مبتهجة تكاد تقفز الفرحة من عينيها وكأنها تشارك في مناسبة سعيدة لدى مقربين أعزاء، فبدت حينها أصغر وأجمل، ربما لأن البهجة تعيد للمرء نضارته، وتضفي عليه جاذبية نادرة، وتوهجاً لا يدركه المرء كثيراً.
وكمن شجعتها هذه الروح الحميمية التي خيمت على اللقاء، راحت "راشيل" تسأل عن أسماء العديدين من قدامى سكان الحي رجالاً وسيدات وعائلات، وتطوع الحاضرون للإجابة عن أسئلتها بعفوية، وكل حسب معلوماته، وهنا سألها صديقي عن سبب عدم هجرتها لإسرائيل، ولماذا فضلت فرنسا، فردت قائلة إن فقراء اليهود فقط هم من هاجروا إلى إسرائيل، أو الذين كانوا انخرطوا في منظمات يهودية، وهؤلاء لم يكونوا أغلبية، بل كان يهود مصر شأن غيرهم من ملايين المصريين، لا يعيرون شؤون السياسة اهتماماً كبيراً، مقابل الاهتمام بأعمالهم والاستمتاع بالحياة، وفجأة توقفت "راشيل" لبرهة، قبل أن تستطرد قائلة إنها منذ هجرتها زارت مصر خمس مرات، ولم تزر إسرائيل مرة واحدة، رغم أن لها أقارب هناك.. وصمتت وبدت كأنها لا ترغب في تقديم المزيد من الأدلة على مصريتها التي باتت بفعل عوامل كثيرة موضع تشكيك..
الساعاتي صديق "راشيل" عاد لمهنته فجأة ونظر إلى ساعته القديمة النادرة، التي انتبهت إليها جيداً بحكم اهتمامي بالأنتيك، ليعلن أن الوقت الجميل يمضي بسرعة، معرباً عن دهشته بمرور كل هذه الساعات كأنها حلم، واستأذن في الانصراف مؤكداً لراشيل أنها ضيفته اليوم، وأن أسرته في انتظارها بعد أن أبلغهم عبر "الموبايل" بأنها حضرت، وبعد شد وجذب وتمنع، وافقت "راشيل" شريطة أن تذهب أولاً إلى الفندق الذي تحل به، لتحيط رفاقها في الرحلة بأنها ستكون في ضيافة أصدقاء لها الليلة كي لا يقلقوا عليها، فعرض عليها مصاحبتها للفندق قبل أن يتوجها إلى منزل صديقها الساعاتي في حي "شبرا"، الذي تفوح من أعطافه رائحة مصر التي كانت ذات زمان ولى..
وهكذا لم تجد راشيل مفراً من قبول الدعوة، وبعد أن شكرت الدة صديقي كثيراً على كرم ضيافتها، وقبلتها من جنتيها بحرارة، راحت تتبادل الضحكات مع صديقها الساعاتي ثم انصرفا، بينما وقفت مع صديقي في الشرفة، ورحنا نتابع مشهدهما وهما يتأبطان ذراعي بعضهما بلهفة، وحينها بدت عصافير الحب ترفرف عليهما، رغم كونهما في خريف العمر، ورغم كل مظاهر الانحطاط التي تحاصر المكان والزمان المصريين حالياً، وكان صوت محمد منير ينساب من شرفة ما، "عليّ صوتك بالغنا.. لسه الأغاني ممكنة"...

اجمالي القراءات 25578