الاعتقاد فى التفاؤل والتشاؤم
خرافات الدين الأرضى. المقال الأول

آحمد صبحي منصور في السبت ٢٦ - أبريل - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة


(التطير ) هو التفاؤل والتشاؤم فى مصطلحات القرآن واللغة العربية فى عصر خاتم الأنبياء عليهم السلام. وقد اشتق العرب فى الجاهلية معناه من عادتهم فى محاولة التنبؤ بالغيب بامساك الطائر ثم اطلاقه ليطير فان طار يمينا تفاءلوا وان طار شمالا تشاءموا ، ثم أصبح التطير يطلق على التفاؤل والتشاؤم معا، ثم اصبح ألصق بالتشاؤم بالذات . وذلك نظير ما يقال حتى الان فى بيئاتنا الشعبية عن (الفال ) بمعنى (الفأل ) ويقصدون به غالبا ليس التفاؤل ولكن التشاؤم. وهو نفس ما شاع فى مصر المملوكية خصوصا فى القرنين التاسع و العاشر الهجريين.
وليس فى الاسلام مجال للخرافة ، ولذا فان تصديق التفاؤل والتشاؤم بمعنى الاعتقاد يعتبر ثقافة مناقضة للثقافة الاسلامية العقلية التى تحصر الغيب فى ذات الله تعالى وما تحدث عنه القرآن الكريم ، وليس لأحد أن يتكلم فى هذا الغيب ، وإلا صار كلامه خرافة. هذا ما يخص عالم الغيب الذى لا ندركه بحواسنا، أما عالم الشهادة فهو مجال للبحث العلمى المعملى التجريبى المادى الذى نتوصل اليه بأيدينا وحواسنا وأجهزتنا العلمية.
وبهذا التحديد فان الاعتقاد فى التفاؤل و التشاؤم والاغراق فيه الى درجة تفسير الأشياء من خلالها يعتبر ثقافة شركية ـ نسبة الى الاشراك بالله جل وعلا.
ومن هنا كان الاعتقاد فى التفاؤل و التشاؤم من ملامح المشركين فى القصص القرآنى ، كما كان ولا يزال من ملامح الأديان الأرضية التى اختلقها المسلمون بعد موت النبى محمد عليه السلام بقرون.
يقول تعالى عن قوم ثمود : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ) (النمل 35 : 47 ).
أى أن النبى صالحا عليه السلام دعا قومه ثمود الى عبادة الله جل وعلا وحده فانتهى بهم المر الى أن تشاءموا منه وقالوا (اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ) ورد عليهم بأنه لا مجال للتفاؤل و التشاؤم لأن مرجع الأمر لله تعالى (قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ).
وباد أى انتهى أمر قوم ثمود وهم من العرب البائدة التى تعرضت الى اهلاك الاهى. ولكن عقيدة التفاؤل و التشاؤم لم تنته لارتباطها بالعقليات الشركية المهزوزة .
وننتقل مع القصص القرآنى الى مصر الفرعونية ، حيث كذّب الفرعون بدعوة موسى ، فتعرض فرعون وقومه لبعض العقوبات أو العذاب الدنيوى أملا فى أن يرجع مصداقا لقوله تعالى عن العذاب الدنيوى :( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )( السجدة 21 ) .
تعرض فرعون وقومه لبعض العذاب الدنيوى ، ثم كانت تأتيهم راحة منه ليتعظوا ، ولكن كان يحدث العكس : يقول تعالى (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (الأعراف 130 ـ 131 ) .
أى إذا يفرحون بالحسنة والنعمة فاذا جاءتهم مصيبة أتهموا موسى ومن معه بانهم(نحس وشؤم )أو بالتعبير القرآنى (وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ) ويرد عليهم رب العزة (أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ).
ونصل الى قرية ـ لم يذكر القرآن الكريم اسمها مع أنها تميزت بأن الله تعالى أرسل لها ثلاثة من الرسل ، فكذبوهم جميعا : (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ) وينتهى النقاش بقول أهل القرية للرسل (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يعنى انهم تشاءموا من الرسل ، وهددوا الرسل بالرجم و التعذيب الأليم .ويرد عليهم الرسل نفس الاجابة التى تنفى الاعتقاد فى التفاؤل و التشاؤم (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ) (يس 13 : 19 ).
بتصنيع أديان المسلمين الأرضية كان للتفاؤل و التشاؤم منها ركن هام . فدين السنة عمم التشاؤم الى درجة ان جعل الشؤم فى المرأة و فى الفرس وفى الدار كما جاء فى حديث البخارى. أى لا بد ان تعايش الشؤم ولا تستطيع منه فرارا ، فاينما توجهت سترى امرأة ، واينما سافرت أو مشيت لا بد ان تأوى الى دار تنام فيه ، هذا إذا لم يتيسر لك رؤية الحصان أو الفرس أو المهر.
أما دين التصوف فقد تفوق على السنة . والتفصيل فى هذا المقال ..


أمثلة تاريخية للتفاؤل والتشاؤم فى العصر المملوكي


* في المجتمعات الراقية حضارياً ودينيا لا تكون ظاهرة التفاؤل والتشاؤم عادة اجتماعية أو شعيرة في السلوك اليومي. والواقع التاريخي يؤكد ذلك, فقد ارتبطت ظاهرة التفاؤل والتشاؤم بعصور سيطرت فيها الخرافات الدينية وتجمدت فيها الحركة العقلية كما حدث في العصور الوسطي ابتدءا من القرن التاسع الهجري. في ذلك الوقت كان دين التصوف هو المسيطر على العقائد وكان التقليد العلمي هو السائد على المستوى العقلي, وكان القلق والخوف من المجهول وعدم الأمن على المستقبل هو العملة السائدة في العصر المملوكي حيث الاضطراب السياسي وقسوة العسكر المملوكي في التعامل مع المجتمع.وحيث كان المواطن يتوقع الشر والمكروه بمناسبة وبغير مناسبة ويسري ذلك على السلطان المملوكي نفسه الذي لا يأمن على نفسه من مؤامرات الأمراء , كما يسري على كبار الأمراء الذين يتوقعون الشر من السلطان , وبالتالي فالرعية في حالة خوف دائم وترقب مستمر لمصائب قادمة, إذا هدأت الأحوال نسبياً استكثروها على أنفسهم واعتبروا أن دوام الحال من المحال ,وسرعان ما يتحقق "فألهم" فتثور الفتن ويسقط ضحايا لها من بين أفراد الشعب الذين لا حول لهم ولا قوة .
المؤرخون والتفاؤل والتشاؤم
* ولم تكن ظاهرة التفاؤل والتشاؤم بهذا الوضوح في بداية العصر المملوكي ثم ازدادت باستمرار مع ازدياد سيطرة دين التصوف على الحياة المملوكية مع تردى الأحوال السياسية والاقتصادية في العصر المملوكي البرجي, الذي بدأ بسلطنة قلاوون وانتهى سياسياً باحتلال العثمانيين لمصر سنة 921 هـ.
* والقراءة في مصادر التاريخ المملوكية يظهر فيها ذلك بوضوح.. فمن خلال تعليقات المؤرخ على الأحداث ومن خلا ل نقله لمشاعر الناس في عصره نتعرف على العقلية السائدة لتلك الفترة التي يؤرخ لها من واقع المشاهدة والمعاصرة.
وإذا طبقنا ذلك على مؤرخ شهير مثل شهاب الدين أحمد النويري المتوفى سنة 733 هـ نجد أن ظاهرة التشاؤم والتفاؤل عنده ليست بهذا القدر من الوضوح مع أنه عاصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون الذي عزله الأمراء المماليك مرتين وتولى السلطنة ثلاث مرات ، والذي بدأ في عهده نفوذ التصوف في التسيد رسميا حين أسس السلطان الناصر محمد للصوفية خانقاه سريا قوس ؛ وهى أعظم خانقاه فى العصر المملوكى . والخانقاه تعبير فارسى كان يطلق على المؤسسة الصوفية الكبرى وهى التى تقام فيها الصلاة و دروس العلم و يعيش فيها الصوفية من الطلبة و العلماء و المدرسين يتمتعون بكل شىء على نفقة منشىء الخانقاة ، ومن خلال الوقف المرصود عليها.
وقد شهد المؤرخ النويري هذه الأحداث وعايشها إلا أن أثرها على ازدياد ظاهرة التفاؤل والتشاؤم لم يتضح إلا فيما بعد حين علا نفوذ التصوف , وسرى بين الحاكم والمحكوم منذ القرن التاسع وحين تدهورت الأحوال السياسية بتحكم الأمراء المماليك في ذرية السلطان الناصر بن محمد القلاووني إلى أن أقاموا دولتهم البرجية وتحكموا في رقاب الناس بصورة أسوأ من أسلافهم المماليك البحرية.
والمقريزي هو عمدة المؤرخين المصريين في العصور الوسطي وقد عاش في القرن التاسع ونقل في مؤلفاته الكثيرة نبض هذا العصر وبدأت في كتاباته أولى أعراض التفاؤل والتشاؤم تأثراً بما ساد في عصره .
ونقتصر على مثال واحد, فقد حدث سنة 842 هـ أن هجمت الفئران على المحاصيل الزراعية والتهمتها, وكان ذلك يحدث كثيراً في دورات متتابعة قبل عصر المقريزي, ولكن المقريزي حين نقل هذا الحدث قال معلقاً عليه في كتابه "السلوك" ":( وعندي أن هذا منذر بحادث ينتظر)" أي أنه تشاءم من وباء الفئران, بينما لم يتشاءم من سبقه من المؤرخين الذين نقلوا نفس الحدث حين وقع فذكروه دون تعليق.
بل إن المقريزي نفسه حين كان ينقل نفس الحدث في العصور الماضية نقلاً عن المؤرخين السابقين فإنه لم يذكر نفس التوقعات المتشائمة التى كتبها أولئك المؤرخون الذين ينقل عنهم..!! .
* ثم إذا جئنا إلى المؤرخ ابن إياس في القرن العاشر وجدنا ملامح التفاؤل والتشاؤم تطل علينا من كل صفحة في تاريخه " بدائع الزهور" بل ربما في كل فقرة, حيث كان يتم التفاؤل والتشاؤم من كل شئ. إلى درجة أنهم في ذلك القرن العاشر تشاءموا من لفظ التشاؤم نفسه فعبروا عنه بالنقيض , فبدلاً من أن يقولوا "تشاءم من كذا" , قالوا "تفاءل من كذا" أى أصبح لفظ" التفاؤل" يعبر عن المعنيين المتناقضين في نفس الوقت. وكان ابن إياس ينقل مشاعره ومشاعر الناس في وقته بالتفاؤل من كل شئ حتى ما كان منه عاديا يحدث كل وقت او بالسليقة ، فمثلا إذا سقط رداء الخطيب إلى الأرض "تفاءلوا" بالشر, وإذا ذهب القاضي لمقياس النيل وزغردت له النساء "تفاءل" الناس له بالخير. وفي ذلك الوقت تمت للتصوف السيادة المطلقة على الحياة المملوكية دينياً وسياسيا وعقليا واجتماعيا وزادت سطوة المماليك وفسادهم وعتوهم فازدادت بالتالي ظاهرة "التفاؤل" بالشر وبالخير وإن كان الشر أقرب إلى توقعات الناس.
مظاهر التفاؤل والتشاؤم الخاصة بالسلطان
* وأبرز مظاهر التفاؤل والتشاؤم كانت تدور حول السلطة المملوكية وتقلباتها السياسية, فإذا أصدر السلطان عملة معدنية وجعل اسمه داخل دائرة في تلك العملة قالوا عنه أنه ستدور عليه الدوائر, أي " تفاءلوا" له بالشر , والمقريزي ينقل ما حدث في شهر المحرم سنة 789 هـ حين سك السلطان فلوساً وجعل اسمه في دائرة , يقول المقريزي : "فتطير الناس بذلك وقالوا هذا يؤذِن بأن السلطان تدور عليه الدوائر ويحبس , فبطل ذلك ولم يتم" أي أبطلوا تلك العملة حين تشاءم الناس منها . وجاء ابن إياس في القرن العاشر يكتب تاريخ مصر وينقل أحداثها السابقة على عصره وينقل تلك الواقعة نفسها في تاريخه إلا أنه يعلق عليها من واقع عقليته وتشاؤمه واعتقاده البالغ في التفاؤل والتشاؤم.
* وإذا خسف القمر " تفاءل" الناس بزوال السلطان خصوصا إذا كان مريضاً, وإذا سقط جزء من بناء أقامه السلطان اعتقد الناس أن دولته ستزول, وذلك ما حدث حين سقطت منارة جامع السلطان حسن, يقول المقريزي في الخطط " ولما سقطت المنارة المذكورة لهجت عامة مصر والقاهرة بان ذلك منذر بزوال الدولة" مما دعا الشيخ بهاء الدين السبكي إلى نظم قصيدة للسلطان يبدد فيها مخاوفه ويعلل سقوط المنارة بأنها سمعت القرآن فهبطت من خشية الله. وقد أورد المقريزي هذه القصيدة ولكنه قال بعدها "فاتفق قتل السلطان بعد سقوط المنارة بثلاثة وثلاثين يوما " أي أنه يصدق ما لهجت به الناس, مع أن سلاطين كثيرين كان مصيرهم القتل, وكان ذلك شيئاً شائعاً خصوصاً في ذرية المنصور قلاوون, ولكن يبدو أن المقريزي كان ينقل مشاعر عصره..
وقد أدرك المقريزي وهو طفلً حادثاً مشابها ذكره في تاريخ السلوك سنة 778هـ في أواخر سلطنة الأشرف شعبان حين تدهور نفوذه, إذ حدث ليلة الاثنين 15 رمضان أن سقطت نار احترق بها حاصل مدرسة السلطان شعبان, يقول المقريزي: "وتفاءل الناس بذلك على السلطان, وكان كذلك وقتل كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى"!! .
* ويبدو أن الناس كانت تتشاءم بأي شئ يحدث للسلطان في أواخر أيامه أو حين ينهار نفوذه فتتوالى "إرهاصات " التفاؤل على" السلطان, والأشرف شعبان سالف الذكر حدث أن وقع من على فرسه في نهاية أيامه فأصدر الناس فتوى تشاؤمية جديدة قالوا فيها عنه أنه "لا يقيم إلا قليلاً".وصارت تلك الفتوى حجة سارية المفعول في القرن التاسع حتى لو كان السلطان في أوج قوته..
والمؤرخ ابن الصيرفي عاصر قوة السلطان قايتباي وكتب تاريخه"أنباء الهصر" يؤرخ فيه باليوم لعصر قايتباي أكثر العصور المملوكية البرجية استقرارا واستمرارا, ولكن عقيدة التفاؤل والتشاؤم كانت قد ثبتت جذورها ومن ذلك أن السلطان قايتباي كان يتشاءم إذا حدث ووقع من على فرسه لأن ذلك يعد "فألاً" سيئاً. ويذكر ابن الصيرفي أنه حدث يوم الأحد 29 شوال 875هـ أن السلطان قايتباي لعب بالكرة هو والأمير جانبك حبيب "فوقعت عمامة السلطان من رأسه إلى الأرض فاحتد وتسودن " ( تسودن أى غضب وانقلب مزاجه وصار سوداويا ) فوقوع العمامة فأل سيء يعادل سقوط السلطان من على الفرس ويؤذن بسقوط السلطان من على العرش.. لذلك احتد السلطان و "تسودن".
وفي يوم الثلاثاء 2 ذو القعدة 875 هـ " لعب السلطان الكرة على عادته" هكذا يقول المؤرخ ابن الصيرفي " فتقنطر ووقع على ظهره وسقط شاشه عن رأسه " أي سقطت عمامته، والنتيجة أنه أيضاً "أحتد وتسودن"..
وحتى إذا اكتمل سعد السلطان وانتصر على أعدائه كان ذلك مؤذناً بانتهاء سعده واقتراب أيامه. وتكرر ذلك كثيرا خصوصا في تاريخ ابن إياس.
على أن أشهر مظهر للتشاؤم بالنسبة للسلطان هو إقامة خطبتين للعيد والجمعة في يوم واحد حين يأتي يوم العيد في يوم جمعة.إذ كان يوحي ذلك بانتهاء السلطان الحالي ومجيء سلطان جديد, نظراً لأنه كان من شعائر خطبة الجمعة أو خطبة العيد الدعاء للسلطان.ولذلك كانت العادة أن يتقرب القضاة للسلطان بمنع شهادة من يرى الهلال إذا كان ذلك يعني مجيء العيد يوم جمعة, وقد ذكر المؤرخون أحداثا من هذا النوع, ذكرها ابن حجر في أحداث سنة480 هـ وذكرها أبو المحاسن في تاريخه " حوادث الدهور" وذكرها السخاوي في تاريخه "التبر المسبوك".
ونكتفي بمثال واحد ذكره المؤرخ ابن الصيرفي في تاريخه " إنباء الهصر" عن ليلة الثلاثين من شهر رمضان سنة 875 هـ " توجه القضاة إلى المدرسة المنصورية قلاوون لرؤية هلال شهر شوال وتحديد أول يوم لعيد الفطر واتفقوا على أنهم لم يروا الهلال حتى لا تكون خطبتان يوم الجمعة " ويقول ابن الصيرفي يعلق على ذلك "ولم ير الهلال وهو المقصود الأعظم لئلا تكون خطبتان في يوم فيكون ذلك بزعمهم على السلطان غير مشكور. فلا قوة إلا بالله"!!
ومع ذلك فلم يكن السلطان قايتباي يحترم أولئك القضاة!! .

التفاؤل والتشاؤم في الحروب

* وأثناء الحروب والفتن المملوكية كان سقوط السلطان أو الأمير من على الفرس أو كشف رأسه من الفأل السيء, وكان منها أيضاً حرق الأمتعة الخاصة بالسلطان أو القائد الثائر عليه. وحين زحف الأمير منطاش لقتال السلطان برقوق وقع منطاش من على الفرس يقول ابن إياس "فتفاءل الناس له بعدم النصرة ".
وثار الأمير قرقماس على السلطان جقمق, وفي المعركة كشف قرقماس رأسه متحمسا يهتف بنصرة الحق ولكن تفاءل الناس له بالهزيمة, خصوصا وقد سقطت درقته من على رأسه ، والطريف أن عوام مصر جعلوها أغنية يتندرون بها على ذلك الأمير التعس الذي ضاعت حياته في نظرهم بسبب الفأل السيئ, يقول ابن إياس عن تلك الأغنية " وصنف العوام عنوة: يا قرقماس أفو عليك عملتها يا قرقماس وجت عليك, وهو كلام ملحن".
هذا مع أنه في بداية العصر المملوكي كشف السلطان قطز رأسه في حرب المغول وصاح واسلاماه فانتصر.. وما تشاءم أحد من كشفه لرأسه..
* وحين تأهب السلطان الغوري لقتال العثمانيين تفاءلوا له بالهزيمة لأن هلال عمامته انكسر نصفين على حد قول ابن إياس, وحين وصل الغوري بحملته تلك إلى الشام توقف في دمشق وذهب للترحيب به أعيانها ومن بينهم المؤرخ ابن طولون الذي يقول في تاريخه عن الوفد القادم للترحيب بالغوري : " فلما وصلوا إلى قربه وجلس الأضراء ـ أي العميان ـ يقرأون القرآن له فأمر مماليكه فضربوهم بالعصي وقالوا لهم:أعندنا ميت حتى تجيئوا تقرأون عليه " !! والذي لم يفهمه المؤرخ ابن طولون أن الغوري ومماليكه تشاءموا من قراءة العميان القرآن بين يديه وفهموها دليلاً على أنه سيموت في هذه المعركة.. ويدل ذلك على أن المصريين كانوا أكثر إحساسا من السوريين بالتفاؤل والتشاؤم لأنهم كانوا في قلب الفتن والمآسي المملوكية.

وفي الحياة اليومية !!

* وفي الحياة اليومية كان للتفاؤل والتشاؤم مظاهر جمة فقد شاعت فتوى اجتماعية تقول (إن البلاء موكل بالمنطق ) أي أن الإنسان ينطق في حديثه بكلمة أو شعر فيتحقق ذلك, وعرف الناس أيام السعد وأيام النحس فيوم 24 من الأيام السبعة المكروهة, وفي كتاب " الحياة اليومية في عصر الرعامسة " تأليف بيير منتيه نراه يتحدث عن أيام السعد وأيام النحس في مصر الفرعونية بما يقترب من حديث المؤرخ أبي المحاسن عنها في القرن التاسع الهجري وبما يشبه حديث كلوت بك عنها في كتابه " لمحة عامة إلى مصر" الذي يصف المجتمع المصري في عصر محمد على. أي أن العادات الاجتماعية في هذا الشأن متوارثة ويقوي ظهورها إذا تشابهت الأوضاع السياسية والدينية.
* ويذكر الفقيه المغربي ابن الحاج أن المصريين في القرن الثامن كانوا يتركون تنظيف البيت وكنسه إذا سافر أحدهم لأنهم يتشاءمون من ذلك خوفاً على المسافر. إلا أن أبرز ما كان يتشاءم به الشارع المصري المملوكي هو خروج الميت يوم السبت أو دخوله من أحد أبواب القاهرة, يقول المؤرخ أبو المحاسن:" وقد عهدت الناس يتشاءمون بدخول ميت من أحد أبواب القاهرة" ويذكر نفس المؤرخ أن العوام في القاهرة تشاءموا من دخول نعش محمد بن جقمق من باب زويلة .
* أما عن التشاؤم من خروج الميت يوم السبت فقد شاع أن ذلك يعني أن كبيراً سيموت من نفس البيت الذي خرج منه الميت يوم السبت, وقد أدى هذا الاعتقاد التشاؤمي إلى عزل قاضي القضاة ابن الديري عن وظيفة كاتب السر للسلطان خشقدم, فقد حدث أن ماتت سيدة وأخرجوها من الحريم السلطاني بالقلعة وجلس الأمراء والقضاة وكبار الموظفين ينتظرون خروج الميٍتة للسير في جنازتها, وكان ذلك يوم السبت, وتكلم القاضي إبراهيم الديري مع الداودار الكبير في وقت الانتظار وأفضى إليه بتلك الحكمة الغالية وقال: " إن العادة إذا خرجت ست يوم السبت من مكان أو دار فإنه يتبعها في الموت كبير ذلك المكان " فقال الداودار للقاضي: إذن فالسلطان يتبعها ويموت بعدها, فقال له القاضي نعم ، فلما انقضت الجنازة صعد الداودار للسلطان خشقدم وأخبره بتلك المقالة, فاستفتى السلطان بعض الأشياخ فأفتوه بأن هذا كلام لا يعبأ به, فعزل السلطان ذلك القاضي بعد إن أشبعه توبيخاً.
* وحملت الأمثال الشعبية الكثير من التأثر بالتفاؤل والتشاؤم والملامح الخاصة بهما, فكانوا يقولون " صباح الفوال ولا صباح العطار".
وفى مصر لا تزال للتفاؤل والتشاؤم مكانته عند وقت الصباح بالذات, ويظهر ذلك حتى الآن في تشاجر العوام القولي عند الصباح إذا تتردد فيه كلمة "كذا على الصبح "

اجمالي القراءات 23684