الثوابت الدينية
أنا أشك... أنا موجود

آية محمد في الثلاثاء ١٨ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

الثوابت عملية نسبية مثلها مثل أي شيء آخر في هذه الحياة، فما هو ثابت بالنسبة لشخص ما قد يتحول إلى شك عند شخص آخر، وما هو حقيقة عند إنسان ما قد يكون وهم عند آخر. ولو أن العالم ثابت والحقائق ثابتة والعلم ثابت لما تقدم الإنسان قيد أنملة ولظلت الدنيا (محلك سر)، فالشكر لله أن أنعم على الإنسان بنعمة الشك وإلا لما كنا شاهدنا ولمسنا المعجزات التي أحدثها الإنسان بشكه في كل ما حوله. والشك في الأمور الدينية هو أهم ما أوصل الإنسان إلى ما هو عليه الآن من تقدم، والثبات عند الأمور الدينية هو أ&iacutute;ضا ما يصل بالإنسان إلى أحط مستويات الإنسانية. ولنا أسوة في أوروبا المسيحية التي لم تتقدم إلا بالشك والخروج على الثوابت الكنسية، ولنا أيضا أسوة في العالم الإسلامي والذي لم ينحط إلى بعد أن ثبت على معتقدات مجموعة من علماءه وأصبح الاجتهاد من بعدهم زندقة وهرطقة. والخروج على الثوابت الدينية لا يعني بالضرورة الشك في الذات الإلهية، وإن كان في بعض الأحيان يدفع الإنسان إلى الشك في وجود الله تعالي ولكن لا يخفي أيضا أن الشك يقود الإنسان في كثير من الأحيان إلى إيمان أعمق ومكانة أعلى بين أقرانه الثابتون على وضعهم.

وبالرغم من إدراك الإنسان لقيمة الشك وفخره دائما بشك أسلافه ووصولهم إلى ما هو عليه، إلا أن هذا الإنسان نفسه يرتجف عندما يصل الشك إليه. فالنبي إبراهيم شك في أمر الأصنام التي يعبدها أهله، فهداه الله إلى عبادة الواحد الأحد ولكن من حوله خافوا منه لأنه يهدم ثوابتهم، والمسيح شك في تعاملات ومعاملات قومه من اليهود فهداه الله إلى الإصلاح وتنظيف بيوت الله من تجارة بني إسرائيل فتخلص منه من حوله لأنه خطر على ثوابتهم، والنبي محمد شك في عبادات قومه واعتزل الناس للتأمل والتدبر فهداه الله إليه وجعله نورا للعالمين، وبعد عصر المعجزات والأنبياء استمر الناس على سنة الأنبياء في الشك للوصول إلى الحقائق التي تناسب عصرهم وكلما انتهى عصر ظهر من عاود الشك ليفتح بابا جديدا لعصرا وليدا. كل من أثر خيرا في البشرية ونفعها نفعا طيبا بدأ رحلته بالشك؛ وما الشك إلا فكرة مختلفة عما هو متعارف عليه، فلو أن توماس أديسون آمن مثل غيره بأن الشمعة أو لمبة الكيروسين هي آخر ما يمكن أن تصل إليه البشرية لما أخترع لنا الكهرباء، إذا فالوقوف عند ما يسمى بالثوابت يعني غلق باب الإبداع والاكتشاف، وبالتالي تدمير الإنسانية وفناءها. وكما قال رينيه ديكارت "أنا أشك إذا أنا أفكر، أنا أفكر إذا أنا موجود". فالوجود مرتبط بالشك لا بالثبات على الشيء.

والشك هو نوع من أنواع الغوص في أعماق المجهول مثله مثل من يغطس إلى أعماق المحيط ليرى عجب العجاب وليستمتع بعالم وبمخلوقات لن يرى مثلها إنسان آخر عادي يخاف المجهول. من يحمل رخصة غطس يعلم إنه - إلى حد ما - إنسان مميز لأن الغطس دليل على الشجاعة والإقدام وعدم الرهبة من المحيط وعالمه، هذا الغطاس يعلم إنه يرى أشياء لا يراها إلا القليلون ممن وهبهم الله الجرأة والقدرة على تخطي الحدود. نفس الشيء بالنسبة للشك، كثيرون هم من يشكون بسطحية فيهربون من شكهم بسرعة خوفا من المضي إلى عمق أبعد ثم أبعد، ويتبعون هروبهم هذا وخروجهم من عالم الشك بالاستغفار وكأنهم اقترفوا معصية عظيمة وإثم كبير. قليلون هم من يشكون بحثا عن شيء لم يراه غيرهم من قبل، يمضون قدما في الشك ولا يأبهون للثقافة ولا للثوابت، مخلصين للهدف الذي يسعون لتحقيقه، ولكن قلما يجدون يد العون من المحيطين بهم لأن الإنسان بطبعه جبان يخاف زعزعة أمنه واستقراره، والشك هو أحد وسائل زعزعة الأمن؛ ومثال على هذا ما حدث للقرآنيين وأسرهم في الجمهورية المصرية، فلولا شكهم وتشكيكهم في الثوابت لما تخلخلت حياتهم المستقرة ولما اضطروا إلى الرحيل مثلهم في ذلك مثل أي مبدع حكم عليه بالنفي لأن أرائه لا تعجب ولا تناسب السادة والثقافة العامة. ويحضرني الآن مثال عن الكاتب الإيطالي العبقري دانتى والذي كتب رائعته "الكوميديا الإلهية" في منفاه ومات أيضا في منفاه بعد أن طرده من لم يقدره، والآن اسم دانتى أشهر من أسماء من نفوه وكتبه تباع إلى يومنا هذا في حين لا نعلم شيئا عمن حاربوه وآذوه.

الشك فائدته عظيمة وباجتنابه تكون العواقب وخيمة. فكما أشرت سابقا، لم ينهار العالم المسيحي إلا بالتمسك بالثوابت الكنسية ولم ينهض إلى بنفض تلك الثوابت وغربلتها والبحث فيما وراءها. ولم يسمو العالم الإسلامي إلى بفضل فلاسفته وعلماءه من أمثال الفارابي وابن سينا وغيرهم الذين ذهبوا إلى ما ما هو ابعد من القرآن بحثا عن الفلسفة اليونانية القديمة والوصل بينها وبين القرآن للخروج بعلم - لم ينير فقط العالم الإسلامي - بل أنار أوروبا كلها بعد قرون من الظلام. ولكن في الوقت الذي تبنت فيه أوروبا العقلية الإسلامية المتغيرة، أبتلي العالم الإسلامي بعلماء أمثال بن حنبل ومن بعده الغزالي (كتاب تهافت الفلاسفة) والذين كفروا فلاسفة الإسلام لأنهم – من وجهة نظرهم - استعانوا بالظن (الفلسفة اليونانية) إلى جانب اليقين الثابت (القرآن والسنة) وخرجوا بعلم شيطاني وجب حرقه. ومن يومها أغلق باب الاجتهاد (الشك) وأعلنت الثوابت ومن خرج عليها أتهم بالزندقة؛ ومن تبعات هذا الجمود العقلي ما حدث للقرآنيين العام الماضي والأعوام السابقة ومحاربتهم أينما ذهبوا. القرآنيون هم رينه ديكارت القرن الواحد والعشرون، آمنوا بالشك إلى أن وصلوا إلى اليقين. شكوا في الثوابت وغربلوها فخرجوا بالحقيقة القرآنية، ونتيجة لذلك تعرضوا للنفي والملاحقة والأذى من قبل ولاة الأمر والعقلية الجمعية داخل تلك الثقافة التي عاشوا بها. هذا أمر طبيعي جدا في بلاد لا زالت تعاني من التخلف وقمع الرأي وتكميم الأفواه. ووصل حد الإرهاب والازدراء أن نشر صاحب حزب - كان أهل القرآن يكتبون على موقعه - بيان يحذر فيه من المساس بالثوابت الدينية وأتهم كل من يمسها بالعمالة! وعلى كل، خرج القرآنيون أكثر قوة من أزمتهم بل وألتف حولهم الكثيرون الباحثون عن حرية التعبير وحق تقرير المصير والاحترام، ولكن "الذين يدافعون عن الحق بالقوة لا يلبثون إلا ريثما يبلغون ما يريدون ثم تصبح القوة وحدها رائدهم".

لنا أن نتخيل أن أهل القرآن بعد أن خرجوا من أزمتهم الإنسانية أصبحوا مثل الأمة، ولنقل أن أرض تلك الأمة هي موقع أهل القرآن، وأصبح لتلك الأرض ساسة وقيادة ولنتخيل أن القادة هم لجنة مراقبة الموقع ورئيس تلك الحكومة (اللجنة) هو الدكتور صبحي منصور. إذا نحن الآن بصدد مؤسسة أو دويلة تشبه الدولة التي كان يعيش فيها القرآنيون مضطهدون ولكنهم الآن ملاك وساسة تلك الدولة الصغيرة. هؤلاء القوم عانوا من قبل ويلات البطش والقمع والإرهاب الفكري وعندما أسسوا مؤسستهم الصغيرة أعلنوا إن أرضهم أو مؤسستهم مفتوحة أمام كل مواطن ذو رأي حر طالما أن هذا المواطن لن يستهزأ بعقيدة أخيه المواطن. رائع جدا، فأرض مثل هذه ستستقطب الكثير من المبدعين والمفكرين والمجددين، والمفروض أن أهل القرآن هم خير من يقدر تلك العقول لأنهم عانوا من قبل جراء إبداعهم وتجديدهم، وبالتالي المتوقع هو أن يحموا هؤلاء من البطش والاستهزاء والاستخفاف بهم. ولكن "من عمل ما ليس من طبعه – ولو كان صوابا – تعرض لخطرين، خطر النفاق وخطر الإخفاق" - كم أعشق هذه الجملة التي كتبها الراحل الدكتور محمد كامل حسين في رائعته "قرية ظالمة". كتب الرجل الحكيم هذه الجملة في الخمسينات من القرن الماضي وقد كان لديه من الحكمة والخبرة ما يكفي ليحلل النفس البشرية في كتابه هذا - الذي يتناول الجمعة الأخيرة في حياة المسيح - وخاصة في تلك الجملة الصغيرة التي تعري حقيقة الإنسان أمام نفسه. للأسف، بعد البيان الذي أصدره أهل القرآن، تذكرت البيان الذي أصدره أحمد عبد الهادي – حزب شباب مصر - في حق القرآنيين، ثم تذكرت شعارات أهل القرآن عن حرية الرأي والاعتقاد، ثم إعلانات فتح الموقع لكل صاحب رأي حر طالما لم يهين غيره، ثم أخيرا قفزت جملة الراحل الدكتور محمد أمام عيني.

أتفهم إن كنتم ألغيتم مقال لأن اللهجة أو اللغة غير لائقة لا أن تلغوا المقال لأن فكرته نوقشت عشرات المرات ولم تنال إعجاب الغالبية! كذلك، من غير المنطقي أن تلغوا مقالا خشية أذى المتأسلمين لأن الأذى جاءنا جميعا ولا زال مستمرا سواء كتب الأستاذ نيازي أو المؤمن المصلح أو أي إنسان آخر خرج من الموقع بسب عدم الترحيب. الأذى مستمر لأن الكثير من فتاوي الدكتور صبحي المنشورة على الموقع لا تناسب عقلية السلفيين ومثلها في ذلك مثل أراء الصلاة او الصيام او تاريخية الآيات القرآنية التي لم تعجب القرآنيين. وبمنطقكم وبالقياس على قراركم، فعلى كل عضو لم يتفق مع أو لا بؤمن بفتاوي ومقالات الموقع أن يرحل حفاظا على سمعته أو خشية أن يناله لوم السلفيين بجهالة على شيء لا يؤمن به؛ فمثلا، نلت أنا كفايتي من المتأسلمين بسبب فتوى عدم تحريم الحشيش وأتهمت بإستهزاء بتعاطيه مع أعضاء الموقع في جلسات خاصة، أي أخذت أنا بذنب فتوى لم أطلقها ولا ذنب لي فيها إلا كوني عضوة في الموقع. فبقياس قرار اللجنة على أنفسنا - نحن الرواد – ومنعا لوقوعنا في الأذى والنعت بأهل الشيطان فلنترك الموقع كلما وجد أحدنا رأي "قرآني" يخالف ثوابته. وقتها لن يكون هناك أحد بالموقع إلى لجنة المراقبة لأن من الصعب أن نتفق جميعا على ثوابت ونهدم أخرى، عن نفسي لا أؤمن بصلاة وصيام الحائض والقرآنيون يؤمنون بأحقيتها في الصلاة والصيام، لا أؤمن بزواج المسلمة من كتابي والقرآنيون يؤمنون بذلك، ولا أؤمن بتحريم الخمر بوجه عام والقرآنيين يحرمونها، فهل إذا كتبت مقال أناقش فيه الخمر و أبين رأيي سأعامل معاملة المسيئ لثوابت الموقع؟ هل ستلغى عضويتي لأني أناقش موضوع قتل بحثا وحسمتم فيه النقاش من جانب الأغلبية؟

حرية الرأي من أهم الركائز التي يعتمد عليها أيها مجتمع متقدم؛ فالمجتمع لا يتقدم إلى بوجود أراء مختلفة والقدرة على سماعها وتحملها واحترامها. وحرية الرأي ووصول صوت الفرد إلى الآخرين إحدى بنود المسئولية الاجتماعية التي تقع على عاتق القائمين على أي مجتمع. تحكم حرية الرأي عدة مبادئ بحسب المجتمع أو البيئة التي يعيش فيها الإنسان؛ في أقصى درجات الحرية المتاحة للرأي يكون من حق الإنسان أن يعبر عما يدور بخلده طالما أن حريته لم تجرح الآخرين، وكلما تقلصت الحرية المتاحة لإبداء الرأي أقترب المجتمع كثيرا من نظام الدكتاتورية. وما يفرق بين مجتمع متحضر ومجتمع متخلف هو درجة الحرية المتاحة لأفراده، ولكن علينا أن نفرق بين حرية الرأي و بين حرية الفعل.

وتحياتي للجميع

AA

اجمالي القراءات 42008