سعيد والحجاج
سعيد بن جبير العالم الثائر

شريف هادي في الأربعاء ٠٤ - أكتوبر - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً

هو أبو عبد الله سعيد بن جبير من موالي بني أسد حبشي الأصل أسود الوجه ذو شعر خشن مفلفل وأنف أفطس تعلم العلم على يد جماعة من الصحابة منهم أبي سعيد الخدري ، وعدي بن حاتم الطائي ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي هريرة الدوسي ، وعبد الله بن عمر ، وعائشة أم المؤمنين ، رَضِي اللَّه تعالى عَنْهم أجمعين وقالوا هو تابع للصحابي الجليل عبد الله بن عباس لازمه لزوم الظل لصاحبه فكان أستاذه الأكبر ومعلمه الأعظم كما قالت مصادر الشيعة أنه كان من أصحاب الإمام زين العابدين عليّ ين الحسين بن علي ين أبي طالب.
أدرك منذ نعومة أظافره أنه بأصله الحبشي ورقة حاله أن العلم هو الطريق الوحيد إلي الرفعة وسار على مقولة تعلموا العلم ، فإن كنتم سادةً فُقْتُمْ ، وإن كنتم وسطاً سُدْتُم ، وإن كنْتُم سوقةً عِشْتُم .
فمنذ نعومة أظفاره كان الناس يرونه إمَّا عاكفاً على كتاب يتعلم ، أو صافًّا في محراب يتعبد ، فهو بين طلب العلم والعبادة فإن كان الطعام غذاء الجسد فالعلم غذاء العقل والعبادة غذاء الروح فراح الفتى ينهل وبنهم من غذائي العقل والروح حتى قال عنه الإمامُ أحمد بن حنبل : لقد قتل سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا ومحتاج إلى علمه .
سئل عن الخشية قال هي التي تحول بين العبد وإرتكاب المعاصي فالمعصية لا ترتكب وفي قلب العبد خشية وسئل عن الذكر فقال هو طاعة الله فمهما ذكرت ولم تطع الله فما ذكرت وهي في الحقيقة فلسفة جديرة بالاعتبار
ونأتي إلي النقطة الحساسة في بحثنا وهي علاقة سعيد بن جبير بالحجاج خصوصا والأمويين عموما ، فالحجاج كان والي عبد الملك بن مروان على الكوفة والعراق وفارس وبلاد ما وراء النهر وكان ظالما كسيده الذي أغلق القرآن بعد تولية إمارة المسلمين وقال للقرآن هذا فراق بيني وبينك فأراد أن يشغل الناس عن ظلمه بكثرة الفتح والغزو وكانت سياسة الحجاج أن يشغل المسلمين بالمعارك على الحدود ، ليربح أحد شيئين الاستيلاء على أراضي البلدان المجاورة و نهب ممتلكاتها ، أو قتل المسلمين و التخلص منهم .لهذا ما أن تنتهي معركة و ينتصر المسلمون حتى يرسل أوامر جديدة بالتوغل أكثر فأكثر
وقد سير الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث وهو أحد أخلص قواده لغزو رتبيل ملك الترك وأرض سجستان (أفغانستان) وقد فعل وغزا وأنتصر وفتح بلاد كثيرة وفاز بمغانم عديدة أرسل الخمس منها للحجاج ومعه كتاب استأذنه فيه بالتوقف عن القتال مدة من الزمن ، ليختبر مداخل البلاد ومخارجها ، ويقف على طبيعتها وأحوالها وليستريح الجند ولكن الحجاج صدق فيه قول الله سبحانه وتعالى ويمدهم في طغيانهم يعمهون اغتاظ الحجاج منه ، وأرسل إليه كتاباً يَصِفُه فيه بالجبن والخنوع ، وينذره بالويل والثبور ، ويهدِّده بالتنحية عن القيادة إن لم يستمر في الغزو والفتح جمع عبد الرحمن وجوهَ الجند ، وقادة الكتائب ، وقرأ عليهم كتاب الحجاج ، واستشارهم فيه ، فَدَعَوْهُ إلى الخروج عليه ، والمبادرة إلى نبذِ طاعته ، فقال لهم عبد الرحمن : أتبايعونني على ذلك ، وتؤازرونني على جهاده ، حتى يطهِّر اللهُ أرضَ العراق من رجسه ، فبايعه الجند على ما دعاهم إليه وطبعا كان الحجاج مكروها من رجال العلم والدين والزهد لحماقاته الكثيرة وبعده عن جادة الصواب والعمل بكتاب الله فأنضموا إلي جيش أبن الأشعث أفواجا حتى تكونت كتيبة في الجيش تحت أسم كتيبة القراء بقيادة كميل بن زياد وأنطوى سعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى والشعبي وغيرهم في هذا الجيش وراح الجيش يفتح ويسترد البلاد من يد الحجاج وينقذ العباد من بطش هذا الظالم فضم سجستان وكرمان والبصرة وفارس والكوفة وأنتصر في كل معاركه حتى المعركة الأخيرة معركة وادي الجماجم قرب الكوفة وصل للحجاج المدد والعون من دمشق وإلتقى الجمعان ودانت المعركة في بادئ الأمر لجيش عبد الرحمن ولكن دارت الدوائر وأنكسر جيش عبد الرحمن وقتل من قتل وهرب من هرب فهرب عبد الرحمن بن الأشعث لبلاد الترك وهرب كميل ولكن الحجاج عذب أهله وعشيرته وهذه طبيعة القساة الطغاه إن لم يقدروا على أحد عاثوا فسادا في أهله وعشيرته متناسين قوله تعالى ولا تزروا وازرة وزر أخرى فعاد كميل وسلم نفسه فقتله الحجاج ومن عبرو طرائف القصص أن شيخاً معمَّراً من قبيلة خثعم ، كان معتزلاً للفريقين ، مقيماً وراء الفرات ، سِيق إلى الحجاج مع مَن سيقوا إليه ، فلما ادخل عليه سأله عن حاله ، فقال : مازلت منذ شبَت هذه النار معتزلاً وراء هذا النهر ، منتظراً ما يسفرُ عنه القتال ، فلما ظهرتَ وظفرتَ أتيتك مبايعاً ، فقال : تباً لك ، أتقعد متربصاً ، ولا تقاتل مع أميرك ، ثم زجره قائلاً : أتشهد على نفسك بأنك كافر ، قال : بئس الرجل أنا إنْ كنتُ عبدت الله ثمانين عاماً ، ثم أشهد بعد ذلك على نفسي بالكفر ، ليس الأمرُ معقولاً ، فقال له : إذاً أقتلك ، قال : وإنْ قتلتني ، فوالله ما بقي من عمري إلا ظمأ حمار فإنه يشرب غدوة ، ويموت عشية ، وإني لأنتظر الموت صباحاً ومساء ، فافعل ما بدا لك ، فقال الحجاج لجلاده : اضرب عنقه ، فضرب الجلاد عنقه و دعا كميل بن زياد النخعي ، وقال له : أتشهد على نفسك بالكفر ، فقال : والله لا أشهد ، قال: إذاً أقتلك ، قال : فاقضِ ما أنت قاض ، وإنَّ الموعد فيما بيننا عند الله ، وبعدَ القتل ، فقال له الحجاج : ستكون الحُجَّة يومئذٍ عليك، لا لك ، فقال له : ذلك إذا كنتَ أنت القاضيَ يومئذٍ ، فقال الحجاج : اقتلوه ، فَقَدِّم وقتل ، قُدِّم إليه رجل آخر كان يكرهه الحجاج أشدّ الكراهية ، ويشتهي أن يظفر بقتله ، لِما كان ينقل له من سخريته به ، فبادَره قائلاً : إني أرى أمامي رجلاً ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر ، فقال له الرجل : لا تورطني ، وتخدعني عن نفسي ، أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد ، فخلّى سبيله
أما سعيد بن جبير إذا وقع بين يدي الحجاج فلا بد أن يقتله ، فإما أن تُدَقَّ عنقُه ، وإمّا أنْ يُقِرّ على نفسه بالكفر ، وهما أمران أحلاهما مرٌّ ، فآثر أن يخرج من بلاد العراق ، وأن يتوارى عن الأنظار ، وظلّ يضرب في أرض الله الواسعة مستخفياً عن الحجاج وعيونه ، حتى لجأ إلى قرية صغيرة مِن أراضي مكة ، وبقي على حاله هذه عشر سنوات حتى جاء خالد عبدالله القسري والي على مكة وقد دخلها ومحمد بن مسلمة ماليها القديم يخطب في الناس فقطع خطاب الوالي و صعد المنبر أخرج رسالة مختومة بختم عبد الملك و فتحها ثم قرأ رسالة عبد الملك إلى أهل مكة ، من عبد الملك بن مروان إلى أهل مكة أما بعد فانّي قد ولّيت عليكم خالد بن عبد الله القسري فاسمعوا له و أطيعوا ، و لا يجعلنّ امرؤ على نفسه سبيلاً فانّما هو القتل لا غير ، و قد برئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير-يقصد محمد بن مسلمة- و السلام .
و بعد أن قرأ رسالة عبد الملك صاح خالد لا أجده في دار أحد إلاّ قتلته و هدمت داره و دور جيرانه وقبض عليه أخيرا وسيق إلي واسط إلي قصر الحجاج المملوء برائحة الدم المبني على جماجم العباد ودمائهم وسبيلة الكبر والتكبر ودخل على الحجاج فدار بينهم هذا الحديث :
قال الحجاج : ما أسمك
قال: سعيد بن جبير
قال الحجاج : بل شقي بن كسير
قال : بل كانت أمي أعلم بإسمي منك
قال الحجاج : شقيت وشقيت أمك
قال: لايعلم الغيب إلا الله
قال الحجاج : ما تقول في محمد ؟
قال : تعني محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، سيد ولد آدم ، النبي المصطفى ، خير من بقي من البشر ، وخير من مضى ، حمل الرسالة وأدى الأمانة ، ونصح لله ولكتابه ، ولعامة المسلمين ، وخاصتهم
قال الحجاج : فما تقول في أبي بكر ؟
قال: هو الصديق خليفة رسول الله ، ذهب حميداً ، وعاش سعيداً ، ومضى على منهاج النبي صلوات الله وسلامه عليه ، لم يغيِّر ، ولم يبدل
قال الحجاج : فما تقول في عمر ؟
قال : هو الفاروق الذي فرّق الله به بين الحق والباطل ، وخيرة الله من خلقه ، وخيرة رسوله ، ولقد مضى على منهاج صاحبَيْه ، فعاش حميداً ، وقتل شهيداً
قال الحجاج : فما تقول في عثمان ؟
قال : هو المجهِّزُ لجيش العسرة ، الحافرُ لبئر رومة ، المشتري لبيت لنفسه في الجنة ، صهر رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنتيه ، ولقد زوَّجه النبي بوحي من السماء ، وهو المقتول ظلماً
قال الحجاج : فما تقول في عليِّ ؟
قال: ابن عم رسول الله ، وأول من أسلم من الفتيان ، وهو زوج فاطمة البتول ، وأبو الحسن والحسين، سيدي شباب أهل الجنة
قال الحجاج : فأي خلفاء بني أمية أعجب لك ؟
قال : أرضاهم لخالقهم
قال الحجاج : فأيُّهم أرضى للخالق ؟
قال : علمُ ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم
قال الحجاج : فما تقول فيَّ ؟
قال : أنت أعلم بنفسك
قال الحجاج : بل أريد علمك أنت
قال : أعفني
قال الحجاج : ما عافاني الله إن عفيتك
قال : إذاً يسوءك ولا يسرك، ويحزنك ولا يسعدك
قال الحجاج : لا بد من أن أسمع منك
قال : إني لأَعْلَمُ أنك مخالف لكتاب الله تعالى ، تُقدِم على أمور تريد منها الهيبة ، وهي تقحمك الهلَكَةَ ، وتدفعك إلى النار دفعاً أنت الحجاج بن يوسف الثقفي ظاهر البدعة قامع السنة الظالم لنفسه ولغيرة
قال الحجاج : أعطيك الذهب وتتبعني
قال : سيعطيني ربي الجنة فأعطينيها أتبعك
قال الحجاج : سأخسر عليك دنياك
قال : وسأخسر عليك آخرتك
قال الحجاج : اختر لنفسك أي قتلة شئت
قال : بل اخترها أنت لنفسك يا حجّاج ، فوالله ما تقتلني قتلة إلا وقتَلك اللهُ مثلها في الآخرة
قال الحجاج : أتريد أن أعفوَ عنك
قال : إن كان العفو فمن الله تعالى ، أمّا أنت ، فلا أريده منك
فاغتاظ الحجاج ، وقال : السيف والنطع يا غلام ، فتبَسَّم سعيد ، فقال له الحجاج : وما تبسُّمك ، قال عجبت من جرأتك على الله ، وحلم الله عليك ، قال : اقتله يا غلام ، فاستقبل القبلة، وقال : إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين الأنعام : 79
قال : حرِّفوه عن القبلة ، فقال : فأينما تولوا فثم وجه الله البقرة : 115
قال : كبُّوه على الأرض ، فقال : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى طه : 55
قال : اذبحوا عدو الله ، فما رأيت رجلاً أَدْعَى منه لآيات القرآن الكريم ، فرفع سعيد كفَّيه ، وقال: اللهم لا تسلِّط الحجاجَ على أحد بعدي ، قال : فلم يمضِ على مصرع سعيد بن جبير غيرُ خمسة عشر يوماً حتى حمَّ الحجاج ، واشتدت عليه وطأةُ المرض ، فكان يغفو ساعة ويفيق أخرى ، فإذا غفا غفوة استيقظ مذعوراً وهو يصيح : هذا سعيد بن جبير آخذ بخناقي ، هذا سعيد بن جبير ، يقول : فيمَ قتلتني ؟ ثم يبكي ، ويقول : مالي ولسعيد بن جبير ، ردّوا عني سعيد بن جبير،
وهكذا تكون نهاية الظالمين فالمسجون أقوى من سجانه والمجلود أقوى من جلاده والمقتول أقوى من قاتله
اجمالي القراءات 34471