هُزم الفلسطينيون .. وانتصرت حماس

نبيل شرف الدين في الثلاثاء ٠٤ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

يبدو أن العبث الشرير صار قدرنا، ولعبتنا المفضلة في هذه البقعة المنكوبة من العالم، المسماة بالشرق الأوسط، وأصبح القابض على عقله كالقابض على الجمر، وعليه أن يضع عقله على الرف، وضميره في الثلاجة، كي يتماهى مع هذا الصخب السائد، ولا يصدق كافة الأكاذيب التي يطلقها المأزومون والمهووسون فحسب، بل وعليه أيضاً أن يتغنى بهذه الأكاذيب، ويدافع عنها دفاع النمر الجائع عن فريسته، وإلا فالاتهامات الجاهزة بانتظاره، بدءاً من العمالة والانهزامية، وصولاً إلى الخيانة والخناثة.
ففي الحصيلة الأولية لحصاد هجمات الجيش الإسرائيلي ـ التي لا يرتضيها ضمير حي ـ في قطاع غزة خلال خمسة أيام، فقد قتل وأصيب نحو خمسمائة فلسطيني، ناهيك عن تدمير عشرات المنازل، مقابل مصرع ثلاثة إسرائيليين فقط، ومع ذلك أعلنت حركة (حماس) الإسلاموية أنها حققت الانتصار، وخرج الآلاف من مؤيدي الحركة للاحتفال في شوارع غزة وهم يوزعون "الكنافة"، ـ وحقيقة لا أفهم سر العلاقة الغامضة بين الكنافة والبسبوسة، والجماعات الإسلامية في كل مكان ـ فيما كانت تذاع في شوارع غزة عبر مكبرات الصوت أغنية تقول كلماتها: "ذهب الغزاة واندحر جيش اليهود"، وإن كنت لا أفهم أيضاً كيف يكون جيش لم يخسر سوى جنديين مقابل خمسمائة لدى خصمه "مندحراً"، وإلى أين ذهب هؤلاء "الغزاة"، وهم أقرب لغزة من حبل الوريد؟
إذن لا بأس إذا انتصرت حماس، وهزم كل الفلسطينيين، وقتل من قتل منهم، وثكلت نساؤهم وتيتم أطفالهم، كل هذا ليس مهماً، فالأهم أن تنتصر حماس، تماماً كما انتصرت على فتح وحررت غزة منها، لتعلن بعدها أن نواة "الخلافة الإسلامية العظمى" قد بُذرت، وأن أيام إسرائيل باتت معدودة، على طريقة تنبؤات إخوانهم في تنظيم "القاعدة" بقرب تفكك أميركا وزوالها، التي ذهب منظروها المأجورون المأزومون إلى حد الزعم بأن هذه النتيجة هي "حتمية تاريخية"، ولا يدري المرء مدى صلة هذه الحتمية بأدبيات اليسار الشهيرة ـ سقى الله أيامها ورعى ـ لكن يبدو أن "كله عند العرب حتميات".
أما مزايدات القوى السياسية المهيمنة على المشهد الأهلي غير الحكومي، وأتحدث عما عاينته بنفسي في مصر من ردود فعل لجماعات إسلاموية تسكنها عقلية التنظيم السري كالإخوان المسلمين، أو أحزاب قومية وناصرية، وحتى "أحزاب المناشف"، التي تستخدمها الحكومات الفاسدة عادة، عقب كل فعل فاضح تقدم عليه، فحدث ولا حرج، فمثلاً مرشد "الإخوان المحظورين" يتحسر على أنه لم يتمكن من إرسال ملايين المصريين حتى يكونوا في قلب المعركة مع إخوانهم في (حماس) الفرع الفلسطيني للتنظيم الدولي للإخوان، ورئيس أحد "أحزاب الأنابيب" التي تتسول حتى إيجار مقارها من الحزب الحاكم، يخرج علينا بمطالبة خرقاء لإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل، وطرد سفيرها فوراً، كأننا مازلنا نعيش في زمن "حرب الماعز، أو المعيز"، من دون أن يشغل باله بمجرد التفكير قليلاً في مدى عواقب الانقضاض على معاهدة دولية من طرف واحد، وفي ظل هكذا ظروف دولية وإقليمية بالغة التعقيد والاحتقان.
..........
قالتها الحكومة الإسرائيلية صراحة إن العمليات العسكرية دخلت "فاصل ونواصل" يستغرق يومين فقط، هما مدة زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس للمنطقة، ومع ذلك يزعم "مجاهدو حماس" أنهم أجبروا جيش إسرائيل على الاندحار. وأن مجرد صمود مقاتلي الحركة أمام إسرائيل هو النصر المبين، وكأنه كان ينبغي أن يباد الشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه، حتى تعترف الذهنية الإسلاموية الفاشية التي تدعم هذه الحركات وتؤيدها، بأنها ورطت الشعوب المسكينة في مواجهة خرقاء غير محسوبة العواقب .
حتى لو حدثت هذه الإبادة الجماعية للفلسطينيين ـ لا قدر الله ـ فلن يتوقف هؤلاء الأشاوس والنشامى مع أنفسهم ليواجهوها بصراحة، كما فعل الألمان والطليان بعد الحرب العالمية الثانية، بل سيظل أبو زهري وأبو القعقاع وأبو جلامبو و"أم بربور" يتباكون على الصمت الدولي والتخاذل العربي على الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، ولا يدري المرء لماذا يعوّل هؤلاء على العرب والعجم بينما لا يستمعون لأحد سوى الأصوات القابعة في طهران ودمشق، في الوقت الذي يتهمون فيه رفاق السلاح في منظمة التحرير وحركة فتح بأنهم مجرد "خونة وعملاء"، لا لشئ سوى أنهم لا يحملون على أعناقهم أجندات أيديولوجية، فيكفيهم عبء واحدة من أكثر القضايا التاريخية تعقيداً وهي قضية التحرر الوطني، والسعي لإقامة دولة فلسطينية، ناضلوا من أجلها عقوداً، قبل أن تظهر إلى الوجود (حماس) في ظروف لم تعد غامضة، إذ تعرف أجهزة المخابرات الإسرائيلية وغيرها ملابساتها جيداً، واعترف بها ساسة إسرائيليون كبار في مذكراتهم.
وحتى المنظمة الإرهابية المصرية (التائبة) التي تسمى "الجماعة الإسلامية"، لم تشأ أن تمر المناسبة من دون أن تدلي بدلوها فأصدرت بياناً نشرته عبر موقعها الإليكتروني، قالت فيه "إن الأمة أدمنت فن المقاومة الإنشائية، أما صناع القرار فاعتبروا أن بيانات الشجب والإدانة هي أقصى ما يمكن فعله على طريقة عباس وراء المتراس"، واقترح بيان الجماعة الإرهابية حلاً للأزمة بقوله "لو بصقنا على هذا الكيان اللقيط (إسرائيل) مجتمعين لأغرقناه" وبهذه النصيحة الاستراتيجية الفذة ممن تلطخت أياديهم بدماء أبناء وطنهم، سينتقل الصراع من مرحلة صواريخ حماس البهلوانية، إلى بصاق جماعات الإرهاب وقرفها.
..........
وما يجري حالياً في غزة يشكل حالة من استنساخ ادعاءات "حزب الله" في جنوب لبنان، حين خرج حسن نصر الله ليعلن النصر بعد أن دمرت إسرائيل البنية التحتية في لبنان، وخلفت الآلاف من القتلى والجرحى، كما أصبح هناك شريط حدودي بعمق عدة كيلومترات كمنطقة عازلة تهيمن عليها القوات الدولية، ومع ذلك خرج ملالي حزب الله يطبلون بينما يزمر خلفهم سماسرة الحروب بالوكالة، معلنين النصر المبين، ويرفعون الرايات السوداء والخضراء ابتهاجاً بالأكذوبة التي أطلقوها وصدقوها، بينما انكب الإسرائيليون على محاسبة قادتهم عبر تحقيقات "فينوغراد" الشهيرة، لاستخلاص العبر والدروس ومواطن الخلل.
بعدها لم يجد "حزب الله" عدواً سوى المخالفين له في الرؤى والتوجهات السياسية من اللبنانيين، فراح يمارس دور "المنغص بالوكالة" لصالح إيران وسورية، فتحولت المقاومة إلى "ممانعة"، وأغرقت لبنان في مستنقع الجدل العقيم واللغو الفارغ، حول تفسير هذا البند، والمثالثة والمعاشرة، وتعبيرات عجيبة لا حصر لها، أمطرنا بها عرابو "تحالف الحثالات" من القومجية والإسلامويين.
أما في بلاد الغرب والشرق وأخرى تركب الأفيال، فإن خلق الله يتعلمون عادة من تجاربهم الفاشلة، فمثلاً لم يسمح الألمان، ولا الطليان ولا اليابان لسماسرة الحروب بعقد المؤتمرات وترديد الترهات والإلحاح الإعلامي لتحريض البسطاء على لف خصورهم بالأحزمة الناسفة، كما لم يسمحوا لبقايا النازيين والفاشيين ببث خطاب الكراهية الدعائي الذي سبق وكبد أوطانهم أثماناً فاحشة من حاضر مواطنيهم ومستقبلهم، بل اعتبروا أن مجرد ترديد الأدبيات النازية أو الفاشية جرائم مشينة تستحق العقاب الصارم، فمن لم يتعلموا دروس الفشل لا يحق لهم أن يواصلوا تزييف وعي الأمم، وإشاعة المشاعر الغبية الغشوم بين أبنائها، وإفشاء روح العدمية بين شبابها، وعادة لا تتصرف الشعوب على هذا النحو العبثي المجافي لمصالحها، إلا حينما يختطفها غوغائيوها فتراها حينئذ متبلدة خانعة حيال كل ما يمس حياتها ومصلحتها بشكل مباشر، بينما تنتفض استجابة لعنتريات سماسرة الحروب المحسومة مقدماً، ومزيفي حقائق التاريخ والجغرافيا بقلب وضمير متبلدين.
لكن يبدو ـ والله أعلم ـ أن جماعتنا "العربان" مصرون على المضي قُدماً حتى النهاية ـ نهاية الجميع قبل نهايتهم ـ في طريق المكابرة وخداع الذات، والإصرار على الانتحار الجماعي، والقفز المتعمد على ما يفرضه الواقع من ضرورة القراءة الرصينة لقدراتنا وأدواتنا الممكنة، إلى مجرد التفكير بالتمني، وإدمان الهزائم، والاكتفاء بلعن "العدو" كأنهم يتوقعون من هذا العدو أن يرشهم بماء الورد، فضلاً عن الانبهار برطانة أي ناعق والهيام بالكاريزمات الشريرة متغافلين عما خلفته تلك الكاريزمات من كوارث وانكسارات، بدءاً من نكسة ناصر المريرة، مروراً بحفرة صدّام المخزية، وصولاً لمهزلة "حماستان" في غزة.
والله المستعان،

اجمالي القراءات 12026