ما هي أكبر أنباء الغيب التي أنزلها سبحانه وتعالى في القرآن الكريم؟

أحمد خلف في الثلاثاء ١٩ - فبراير - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

‏نظراً لكثرة تساؤلات الإخوة عن مواضيع الأخطاء التشكيلية الخمسة في ‏القرآن الكريم, سأبدأ بأحد أهم تلك التشكيلات التي استطاعت بسعي من قبل ‏شياطين الإنس على أن تغطي عن أعين المسلمين، أكبر تنبؤ لله تعالى في ‏القرآن الكريم لصالح المؤمنين الصادقين، من معاصري الرسول وأصحابه ‏الكرام، في العصر الراشدي وهي الآيات الفواتح لسورة الروم في القرآن ‏الكريم:‏

33 - ماهي أكبر تنبؤات الله تعالى في القرآن؟‏
إن أكبر نبوءة وردت في القرآن الكريم، يمكن إعتبارها أكبر معجزة حقيقية ‏تحققت في كوكبنا الأرضي على أيدي المؤمنين من أتباع أنبياء الله تعالى ‏ورسله إلى هذا اليوم، هي النبوءة التي وردت في الآيات الستة الأولى من ‏سورة الروم، التي علينا أن لا نمر عليها مرور الكرام عند تلاوتها، كما ‏يفعل أغلب المسلمين، بل علينا أن نتفكر فيها لنفهمها بالتطابق مع الأحداث ‏التي سجلها المؤرخون في تاريخ السيرة النبوية.‏
أحب أن أنوه هنا على أن الساعي لفهم آيات الله تعالى في القرآن عليه أن ‏يتذكر أن لغة القرآن العربية ليست لغة بسيطة، بل هي لغة في قمة البلاغة ‏والتصوير الفني الأدبي في أسلوبها الإعجازي الذي يقف وحده بين الشعر ‏والنثر كأسلوب أدبي فريد في الأدب العربي كله، لذا فإن بعض النصوص ‏القرآنية تحتاج بالفعل إلى متفقهين في الأدب العربي درسوا البلاغة وبرعوا ‏فيها ليفهموا مقاصد الرحمن ويدركوا أبعاد الكلمات ومقاصدها، ليصلوا ‏بعدها إلى المعاني المقصودة منه سبحانه.‏
ذلك التنويه السابق ينطبق بالفعل على مفهوم الآيات الستة الأولى من سورة ‏الروم التي تقول: ‏‏( ألم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم ‏سيغلبون* في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح ‏المؤمنون* بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم* وعد ‏الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لايعلمون* يعلمون ظاهرا ‏من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون*) 1-6-30. ‏‏*للحاشية: علينا تصحيح قراءة كلمة: سيغلبون: بضم الياء وفتح اللام لتكون مبنية للمجهول، لكون ‏من سينتصر في تلك المعركة كان في علم المجهول إلا من تلك المجموعة الصغيرة التي كانت قد ‏آمنت بالرسول الكريم وبما كان يتنزل عليه من وحي سماوي في بداية الرسول عليه الصلاة ‏والسلام بمهمة التبليغ التي طلبها الله تعالى منه. ‏الآن إذا عدنا لكتب التراث والتفاسير المختلفة نجد أن الحقيقة القرآنية قد بدأ ‏تبديلها في العصر الأموي ثم أكمل في العصر العباسي بدليل تناقض ما ‏كتبوه في مثالنا هذا مع حقائق الواقع التي كان متطابقة مع منطوق الآيات ‏الستة الأولى من سورة الروم، حيث نقرأ مثلا في كتب تفسير القرآن التي ‏أختار منها: ‏كتاب تفسير في ظلال القرآن، للسيد قطب رحمه الله لنقرأ فيه تفسيره ‏لآيات سورة الروم، المستندة حتما على تفاسير الأولين من السابقين، ‏بالتالي فهو لم يأت بشيء جديد عما قاله السلف الصالح، كما حببوا إلينا ‏أن نلقبهم: ‏نزلت الآيات الأولى من هذه السورة بمناسبة معينة. ذلك حين غلبت فارس ‏على الروم فيما كانت تضع يدها من جزيرة العرب. وكان ذلك في إبان ‏احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة قبل ‏الهجرة والمشركين.. ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب دينهم ‏النصرانية، وكان الفرس غير موحدين ديانتهم المجوسية، فقد وجد ‏المشركون من أهل مكة في الحادث فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على ‏عقيدة التوحيد وفألا بانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان. ‏هذا الكلام الذي ما زلنا نقرأه في كتب المفسرين فيه مغالطة كبيرة لآيات ‏القرآن، حيث يعتبر الروم على ملة الإيمان بينما نعلم من القرآن أن ‏الكنيستين الرومانيتين الشرقية منهما والغربية كلتاهما كانتا كافرتين بدليل ‏القرآن حيث نقرأ في سورة المائدة قوله تعالى عن الكنيسة الأولى: ‏‏( لقد كفرالذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) 72-5. ‏وكما نقرأ في الآية التي بعدها قوله تعالى عن الكنيسة الثانية: ‏‏( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) 73-5. ‏بالتالي ليس عند الله كفر أميز من كفر فالروم والفرس كانت كافرتين حسب ‏آيات القرآن. ‏بينما يتم السيد قطب تفسيره قائلا: ‏ومن ثم نزلت الآيات الأولى من هذه السورة تبشر بغلبة أهل الكتاب من ‏الروم في بضع سنين غلبة يفرح لها المؤمنون، الذين يودون انتصار ملة ‏الإيمان من كل دين. ‏في هذا الكلام مغالطة تاريخية كبيرة: ‏إذ أن أيات سورة الروم نزلت مباشرة بعد هزيمة الروم التي حدثت بحسب ‏المؤرخين الغربيين في فلسطين سنة 614م، الموافقة للسنة الرابعة من بعثة ‏الرسول الكريم، إذ نقرأ للمورخ والفيلسوف الأمريكي: ويـل دي ورانـت ‏‏( ‏Will Durant‏ ) في كتابه الكبير: قصة الحضارة ترجمة الجامعة العربية ‏في القاهرة الجزء الأول من المجلد الرابع، أو ما يقابله من النص المترجم ‏للعربية في الجزء: الثاني عشر تحت عنوان الفصل الثاني: ‏الـمـمـلـكـة الساسانــيــة، مايلي: ‏‏(( وبلغ كسرى أبرويز( الذي يعني الظافر ) درجة من السلطان لم يبلغها ‏ملك آخر من ملوك الفرس منذ أيام: خشيار شاي، إذ لم تجد جيوشه ‏صعوبة كبيرة في الإستيلاء على حلب وأفاميا ودمشق عام: ‏‏613- م. زاد هذا النصر من حماسة أبرويز فأعلن الحرب الدينية على ‏المسيحيين، وانضم (26 ألفا من اليهود إلى جيشه) كما نهبت جيوشه ‏المتحدة في عام 614- م. أورشليم، وقتلت: تسعين ألفا من المسيحيين، ‏وأحرقت كثيرا من كنائسها المشهورة، ومن بينها كنيسة الضريح المقدس، ‏وأخذ الصليب الحق، الذي هو أعز أثر على المسيحيين، إلى بلاد فارس، ‏كما أرسل أبرويز إلى هرقل، الإمبراطورالجديد رسالة دينية قال فيها: ( من ‏كسرى أعظم الآلهة وسيد الأرض كلها إلىهرقل عبده الغبي الذليل، إنك ‏تقول بأنك تعتمد على إلهك، فلم إذن لم ينقذ أورشليم من يدي؟)). ‏هذا الحدث يقابله في القرآن الكريم قوله سبحانه في أوائل سورة الروم الذي ‏كان إعلاما منه سبحانه أن الروم قدغلبت وأتت في صيغة مبنية للمجهول ‏رغم أن القوة المنافسة الوحيدة للإمبراطورية الرومانية في عالم تلك الفترة ‏كانت معلومة يومها من الجميع وهي الإمبراطورية الفارسية: ‏‏( غلبت الروم * ) ‏لكن بين ذلك الغلب بضم الغين وكسر اللام الذي حدث عام 614م، وبين ‏تاريخ انتصار هرقل ثأرا لنفسه على الفرس الذي حدث عام: 628م، ‏الموافقة للسنة السابعة هجرية، حسب ما كتبه مؤرخوا المسلمين، نجد أن ‏بين الحادثتين التاريخيتين فترة زمنية مقدارها أربعة عشر عاما، التي يقال ‏عنها في العربية: في بضع وعشر، ولا يقال عنها في بضع سنين إلا إن ‏كانت من ثلاث إلى تسع سنوات.‏
كما نقرأ لنفس المؤرخ الأمريكي: في نفس المرجع السابق ما يلي: ‏‏( لم يكن باقيا للإمبراطورية البيزنطية إلا عدد قليل من الثغور الآسيوية، ‏وقليل من أرض إيطاليا وأفريقيا، وبلاد اليونان، وأسطول لم يهزم بعد، ‏وعاصمة جن جنونها من الرعب واليأس، ولبث هرقل عشر سنين ينشئ ‏جيشا جديدا ودولة جديدة من أنقاض الجيش القدي والدولة القديمة، فلما ‏تم له ذلك، لم يحاول مهاجمة الفرس من الجبهة، لعلمه أن ذلك العمل كثير ‏النفقة، كما أنه متعب وشاق، فأبحر بأسطوله عبر البوسفور إلى البحر ‏الأسود، وأنزل قواته على ساحل أرمينيا، التي إعتبرها قاعدة لإنطلاقه ‏وهجومه على عدوه من الخلف، وهكذا دمـر كلوروميـة، مسـقـط ‏رأس زرادشــت ( كما ضرب كسرى من قبل مدينة أورشليـم القدس ‏ذات المكانة العقائدية ) وأطفأ نارهاالمقدسة الخالدة. وسير إليه كسرى ‏الجيوش يتلوا بعضها بعضا، ولكن هرقل هزمها جميعا، ولما تقدم الرومان ‏فر كسرى إلى طيسفون... وآلم قواده ما كان يوجهه إليهم من إهانات، ‏فإنضموا إلى النبلاء وخلعوه، ثم سجنوه ولم يطعموه إلا الخبز القفار ‏والماء، وذبحوا ثمانية عشر إبنا من أبنائه أمام عينيه، وانتهى أمره بأن ‏قتله إبن آخر من أبنائه يدعى شيروي، سنة: 628- م، ونصبه الروم في ‏إحتفال مهيب مكان أبيه.)* ‏‏*للحاشيه: راجع نفس مصدر ديورنت السابق. ‏كذلك إذا عدنا لكتب السيرة سنكتشف أن الذين أرخوا للمسلمين كانوا في ‏البداية من أهل الكتاب، مثل إبن أسحق الذي أخذ عنه تقريبا كل مؤرخي ‏العرب والمسلمين، والذي لم يكن يعلم أصلا بوعد الله تعالى للمؤمنين في ‏القرآن، كما أننا لا نقرأ في كل كتب الأولين عن أي فرح كبير فرح احتفل ‏به الرسول الكريم أو الذين كانوا معه من أصحابه المؤمنين في العام السابع ‏للهجرة، يوم وصلتهم أخبار إنتصارات الروم على الفرس التي كتب عنها ‏إبن خلدون قائلا: ‏‏( وسار (هرقل) إلى بلاد الشام والجزيرة (ما بين دجلة والفرات) وإفتتح ‏مدائنهم التي كان ملكها كسرى من قبل، وفيما إفتتح أرمينية. ثم سار إلى ‏الموصل فلقيه جموع الفرس، وقائدهم المرزبان، فإنهزموا وقتل. وأجفل ‏إبرويز عن المدائن (عاصمته) واستولى هرقل على ذخائر ملكهم. وكان ‏شيرويه بن كسرى محبوسا فأخرجه شهريار وأصحابه وملكوه، وعقدوا ‏مع هرقل الصلح، ورجع هرقل إلى: (آمد) بعد أن ولى أخاه تداوس على ‏الجزيرة والشام. ثم سار إلى الرها ورد النصارى اليعاقبة إلى مذهبهم الذي ‏أكرهوا على تركه.))* ‏‏* للحاشية: تاريخ إبن خلدون، المجلد الثاني، ص: 258، دار الكتب العلمية، بيروت, الطبعة الأولى. ‏كما ليس في تاريخ السيرة النبوية ما يشير أو يؤكد أن الرسول والمؤمنون ‏من حوله قد فرحوا لانتصار الروم على الفرس في تلك السنة بل بالعكس ‏تماما، إذ ما زلنا نقرأ فيما كتبه مؤرخوا الروم وما كتبه المؤرخون من ‏المسلمين، أن فرح الروم لم يتم بدليل أن العرب المسلمين قد هاجموا الروم ‏مباشرة بعد إنتصارهم، حيث كتب ويل ديورانت في الفصل الرابع من نفس ‏المرجع السابق يقول: ‏‏( قتل شيروي أباه وتوج ملكا باسم كفاده الثاني ثم عقد الصلح مع هرقل ‏ونزل له عن مصر، وفلسطين، وسوريا، وآسيا الصغرى، وغربي الجزيرة، ‏وأعاد الأسرى الذين أخذهم الفرس إلى بلادهم، ورد إلى أورشليم ( ‏القدس) بقايا الصليب المقدس. ‏وابتهج هرقل، وحق له أن يبتهج، بهذا النصر المؤزر، ولكنه، لم يكن ‏يعرف أنه في اليوم الذي أعاد فيه الصليب المقدس إلى موضعه في ‏الضريح عام 629م قد هاجمت سرية من العرب حامية رومانية بالقرب ‏من نهر الأردن.)* ‏‏* للحاشية: نفس المصدر السابق لويل ديورانت. ‏أعتقد أن رسولنا الكريم عندما تحقق نصر الروم هذا كان أحد المحتفلين ‏الفرحين بهذا الحدث التاريخي مع أصحابه المؤمنين، ليس فرحا لهم، بل ‏لعلمهم أن العد التنازلي لوعد الله تعالى بنصرهم قد بدأ بذلك التاريخ، تماما ‏كما تبشر به آيات سورة الروم الأولى، علما أن ذلك الحدث التاريخي الهام ‏بالنسبة للمؤمنين قد بدأ في العام السابع للهجرة مع أن أحدا من مؤرخي ‏المسلمين لم يذكر في تاريخه أن الرسول والذين كانوا معه قد فرحوا ‏لإنتصار الروم لكونهم من أهل الكتاب على الفرس الذين كانوا من ‏المجوس.‏
المكان الوحيد الذي يمكن أن نجد فيه مثل هذا الكلام المناقض للحقيقة هوفي ‏كتب التفسير للقرآن، علما أن الفرح الذي كتب عنه المفسرون، كان معقولا ‏فقط لو قالوا: ‏أن الرسول وأصحابه قد فرحوا عند سماعهم بنصر الروم لعلمهم أن العد ‏التنازلي لتحقيق وعد الله بنصر المؤمنين على الروم والفرس معا، كان قد ‏بدأ بعد سماعهم للخبر، بدليل منطوق آيات سورة الروم الأولى، فأيقن ‏المؤمنون من صحابة رسول الله عندها أن نصر الله قريب ولم يبق لتحققه ‏إلا بضع سنين المعروفة بأنها من ثلاثة إلى تسعة كما كان متعارفا عليه في ‏ألسنة العرب. ‏‏628+ 8= 636 م. وهذا كان تاريخ إنتصار المؤمنين على الروم في ‏معركة اليرموك الفاصلة، والموافقة بحسب التقويم الهجري: 7+ 8= 15 ‏هجرية. ‏‏628+ 9= 637 م. وهذا كان تاريخ إنتصار المؤمنين على الفرس في ‏معركة القادسية الفاصلة، والموافقة بحسب التقويم الهجري: 7+ 9= 16 ‏هجرية. ‏وكلا الزمنين ثمانية أوتسعة كلاهما يقال عنهما في العربية: في بضع سنين. ‏أما إن تساءلنا: أليس في تاريخ السيرة أي دليل على صدق وصحة هذا ‏الإستنتاج؟ ‏نقول: الدليل موجود وقد إستشهدت به في كتاب الحقيقة الذي طبع في ‏بيروت عام- 1999 حيث أقول: إذا فتحنا كتاب تاريخ بن كثير، نقرأ أن ‏رجلا كان قد لبس أكفانه متهيئا للشهادة في سبيل الله، أتى إلى أبا عبيدة بن ‏الجراح، قائد المسلمين في معركة اليرموك قائلا: ‏‏((إني قد تهيأت لأمري فهل لك من حاجة (تبلغها) إلى رسول الله؟ ‏فقال له:* نعم، تقرئه عني السلام وتقول له: يا رسول الله إنا قد وجدنا ما ‏وعدنا ربنا حقا)). ‏‏*( للحاشية: البداية والنهاية م 4. ج 7 دار الريان للتراث، 1988 ص 12.) ‏هذا الخبر في تاريخ السيرة لا معنى له لو لم يكن أبا عبيدة وأمثاله من ‏المؤمنين من صحابة الرسول لا يعلمون أن الوعد الذي ما زلنا نقرأه في ‏أوائل سورة الروم كان للمؤمنين ولم يكن كما كتبه مفسروا العصر العباسي، ‏أيام أصبح المحدث الشهير: إسرائيل شيخا للمحدثين في بغداد، وتحول ما ‏كتب في عصرهم في منزلة ما أنزل الله تعالى من السماء من آيات بينات لا ‏يجوز الشك أو النقاش فيه. ‏كما نجد في الصفحة 39 من نفس المصدر:‏
محاورة لرستم قائد جيش الفرس مع المفرزة التي أرسلها سعد بن أبى ‏وقاص لدعوته إلى الإسلام كما هي العادة في معارك الإسلام: ‏حيث سألهم رستم قائلا: ((ما أقدمكم علينا؟ ‏فقالوا: جئنا لموعود الله إيانا، ونحن على يـقـيـن من ذلك.)). ‏‏(أي بالنصر عليكم )، وهذا الخبرلا معنى له لو يكن المؤمنون يعلمون بوعد ‏الله المذكور في أوائل سورة الروم، علما روايات عديدة في تاريخ السيرة ‏كلها تؤكد معرفة المؤمنين بوعد الله أهمها: ‏عندما فتح عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، صندوق كنوز كسرى ‏الذي حمله له جنوده إلى يثرب، فلفت نظره سواري كسرى، فتذكر مباشرة ‏وعد الرسول عليه الصلاة والسلام القديم بهما لسراقة فقدمهما إليه وهو ‏يقول: ((هذا ما وعدك بهما رسول الله يا سراقة.)). ‏أما إن تساءلنا أين الإعجاز في تلك الأحداث؟
نقول: الإعجاز ليس في الحدث بذاته، بل في الظروف التاريخية التي كانت ‏تحيط به.‏
حيث نعلم أن العرب في تلك الفترة كانوا قبائل وعشائر متنازعة متفرقة فيما ‏بينها عداوات لثارات قديمة ضمن شبه الجزيرة العربية، فكانت ما تزال ‏تغزو بعضها البعض، كما كانت تعبد آلهة متعددة ومختلفة، مع وجود بعض ‏الحنفاء بينهم من بقايا الدين الذي بشر به إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة ‏والسلام، بعد أن بنوا الكعبة وجعلوها مزارا للناس في موسم أشهر الحج ‏التي كانت تصادف عادة موسم الشتاء ألطف فصل بالنسبة لمناخ مكة ‏الصحراوي، كما بينت ذلك في كتاب: ماهو النسيء، حيث كانوا يفتحون ‏فيها أيضا أسواقهم، لملاءمة توقيتها مع رحلتي قريش الموسميتين في الشتاء ‏والصيف، مع إمكانية تسويق منتجاتهم الزراعية والحيوانية، ومع ما كان ‏يأتي إلى مكة من بضائع عالمية من الشرق والغرب في رحلتي قريش ‏الدوريتين، رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى بلاد الشام التي منها ‏دمشق والقدس.‏
فمن البدهي إذا أدركنا ذلك كله، أن يعتبر الروم والفرس، حسب سنن الله ‏تعالى في الأرض من التي نسميها اليوم : قوانين الطبيعة، ظهور قوة جديدة ‏بدين الجديد في الحجاز من الأمور المرفوضة، والغير مرغوب فيها، خاصة ‏لعلمهم السابق بتفرق كلمة قبائل تلك المنطقة مع معرفتهم المسبقة عن ‏عجزهم الدائم في توحيد صفوفهم، أدى بهم ذلك إلى استبعاد أي خطر من ‏جانبهم، بدليل أن الرسول الكريم عندما أرسل لقيصر وكسرى وملك ‏الحبشة، والمقوقس ملك القبط في مصر، رسائل يدعوهم فيها إلى الإسلام، ‏كان باديا من رد فعلهم عليها، إستخفافهم القديم بأهل تلك المنطقة، وكان ذلك ‏دليلا على أنهم كانوا وما يزالون لا يتوقعون أي إنقلاب عجائبي من سكان ‏تلك المنطقة.‏
الآن بعد أن علمنا كل تلك الملابسات وأدركنا سبب التشويه الذي في كتب ‏التفسير السلفية للقرآن، ندرك أهمية تلك الآيات الستة كوعد من الله تعالى ‏للرسول ولعشرات المؤمنين الذين كانوا معه في مكة في السنة الرابعة من ‏بعثه، عليه الصلاة والسلام رسولا ونبيا للناس كافة، علينا أن نقرأ الآيات ‏الأولى من سورة الروم قراءة صحيحة التشكيل من جديد لتعود وتصبح في ‏عقل المسلم من أكبر تنبؤات الله تعالى في القرآن، تلك الحقيقة التي أغفلت ‏عنها الزعامة الدينية الجديدة ذات المآرب الخفية من الذين سيطروا على ‏الدين بالتدريج، بدءا بالأمويين من بعد الراشدين، وانتهاءا بالعباسيين، كنوع ‏من الإنتقام السري لكثير من الموتورين من أهل الكتاب الذين أعلنوا ‏إسلامهم مضمرين الإساءة للإسلام والمسلمين سرا.‏
كان أول عمل قاموا به هو تبديل تشكيل بعض الكلمات الهامة في القرآن، ‏ومنها كلمة سيغلبون التي كانت في الأصل مبنية للمجهول بضم الياء ‏فجعلوها بفتح الياء، هذا التبديل الذي قد يستخف به الجاهل لكنه في الحقيقة ‏يقلب معاني تلك الآيات فيجعل الوعد بالنصر والفرح به للروم بدلا عن أن ‏تكون للمؤمنين من أصحاب الرسول الكريم كما تثبته الحقائق التاريخية التي ‏أشرت إليها.‏
لا ألوم الغالبية المسلمة التي ما زالت تعتقد إلى اليوم نتيجة ما يقرأونه في ‏كتب التفسير المعتمدة من السلطة أن الوعد بالنصر كان للروم لأنها كانت ‏مؤمنة بينما الفرس كانت هي الكافرة، وبقي آباؤنا على ذلك الإعتقاد الخاطئ ‏وفي ظنهم أن الوعد بالنصر كان للروم المؤمنة على الفرس الكافرة.‏
لذا إن عدنا لكتب السيرة، لن نجد فيها أي خبر أو إشارة إلى فرح المؤمنين ‏بإنتصار الروم على الفرس، بل سنقرأ فيها العكس تماما، حيث أن الرسول ‏الكريم عليه الصلاة والسلام قد أرسل أول غارة للمؤمنين على الروم ‏مباشرة بعد أن سمع بانتصار هرقل الروم الذي كان ما يزال يحتفل بنصره ‏العظيم على الفرس في أورشليم القدس، عندما غزت حدوده في شرق ‏الأردن قوات الرسول تنفيذا لأمر الله تعالى الذي أتاه بالوحي: ‏‏( يأ يها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ‏واعلموا أن الله مع المتقين*) 123-9. ‏من دقة الله تعالى، في خطابه المباشر في تلك الآية المحكمة حيث أمر فيها ‏سبحانه المؤمنين من دون رسولهم بقتال الذين يلونهم من كفار الروم ‏والفرس لعلمه سبحانه أن الرسول الكريم لن يكون حيا بينهم عند تحقق ذلك ‏النصر العظيم. ‏صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي بدأ تلك الحرب فعلا، ‏وحاربهم في غزوتي مؤتة وتبوك، شخصيا أو بأمره.‏
بينما نجد الأمر الخاص بمجاهدة الكفار مع المنافقين الذين كانوا بين صفوف ‏المؤمنين قد أتى بأسلوب مختلف: ‏‏( ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) 73-9. ‏الأمر هنا أتى من الله تعالى موجها للنبي شخصيا يأمره فيه بمجاهدة الكفار* ‏‏*للحاشية: كلمة الكفار هنا تعني الذين أنكروا رسالة الرسول من أهل الكتاب مع أنهم كانوا يقولون بظهور ‏الرسول قبل ذلك. ظنا منهم أنه سيظهر من أحفاد إسحق دون أن يتوقعوا ظهوره من أحفاد إسماعيل. ‏والمنافقين الذين كانوا حولهم بعيدا عن حرب مشركي العرب التي كان ‏تشكل العقبة الأولى في سبيل الدعوة العالمية الجديدة. ‏
كما تلاحظون، فإن تسمية الكفار في تلك الآية تميزهم عن مشركي العرب ‏قبل رسالة القرآن وفي فترة جاهليتهم، وأمر الله تعالى لنبيه كان بأن ‏يخرجهم من ديارهم في أول مرحلة من مراحل التحضير للمعركة، وهي ‏بحسب تعبيراتنا العسكرية اليوم: الحشد، عبر عنها سبحانه بكلمة: ‏الحشر: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول ‏الحشر...*) 2-59. ‏فالرسول الكريم كما رأينا في كتب تاريخ الشرق والغرب لم يرسل أي ‏تبريك أو تهنئة لقيصر الروم المنتصر بل أرسل جيشه لغزو ثغر من ثغوره ‏في مؤتة، لعلمه أن لا فرق بين كفر وكفر ليفرق بين كفر كسرى عن كفر ‏قيصر: بدليل كون كنيستي الروم الشرقية والغربية كافرتين بحسب القرآن ‏الكريم كما قرأنا قبل قليل في الآيتين: ‏‏( لقد كفرالذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) 72-5. ‏‏( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) 73-5. ‏فلا يقبل من كان ذو عقل سليم أن يكون فرح المؤمنين للروم الذين كانوا من ‏الكافرين حسب شهادة آيات القرآن المبين، بل المعقول أن يكون المؤمنون قد ‏فرحوا فعلا لنصرهم الذي حصل فعلا على الروم والفرس معا بعد بضع ‏سنين، من تاريخ أخذ الروم لثأرها. ‏ذلك النصر الذي حصل بالفعل بعد أربعة عشر عاما من تاريخ هزيمة الروم ‏الأولى حسب ماكتبه مؤرخوا الفرس والروم في عام 628 ميلادية، الموافقة ‏بحسب التأريخ الإسلامي للسنة السابعة للهجرة. ‏والآن إذا نظرنا إلى تاريخ إنتصار المؤمنين على الروم الذي كان في ‏معركة اليرموك الفاصلة في الخامس من شهر رجب سنة: 15 هجرية، ‏الموافقة للعشرين من شهر آب سنة 636 ميلادية.*وتاريخ إنتصار المؤمنين ‏على الفرس الذي كان في معركة القادسيـة الفاصلة في سنة: 16 هجرية، ‏‏*للحاشية: إذا أعدنا للشهر النسيء فعاليته، كما فعلت في كتاب: ماهو النسيء، الذي طبع في ‏دمشق عام 1999، من قبل دار الأهالي، نجد تطابقا كاملا باليوم والشهر والسنة لهذين التاريخين، ‏لكن قد فقد التقويم الهجري الإسلامي الحالي تطابق أشهره مع مواسمها الفصلية بعد إلغاء شهر ‏التقويم: النسيء من التقويم في أواخر حكم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. ‏الموافقة لسنة 637 ميلادية، وهذا يعني أن معركة اليرموك وقعت في السنة ‏الثامنة للوعد، كما أن القادسية وقعت في السنة التاسعة من الوعد، وكلا ‏الموعدين لم يتجاوزا المدة الزمنية التي حددها سبحانه في قوله الكريم: ‏‏(وهم # من بعد غلبهم سيغلبون # #* في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن ‏بعدويومئذ يفرح المؤمنون*) ‏‏# عبارة : وهم، تشير إلى الروم والفرس معا. ‏‏# # كلمة: سيغلبون، مع ضم الياء وفتح اللام لتكون مبنية للمجهول، لكون من سينتصر في تلك المعركة كان ما ‏زال في علم الله علم المجموعة الصغيرة التي كانت قد آمنوا مع الرسول الكريم، والذين لم يكونوا قد تجاوزوا ‏العشرات في السنة الرابعة للبعثة بعد. ‏بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم* وعد الله لا يخلف الله ‏وعده
ولكن أكثر الناس لا يعلمون* يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن ‏الآخرة هم غافلون*) 3-6-30. ‏الآن، إن تساءل المؤمن بالله تعالى وبكتابه المبين، لماذا لم ير علماء ‏المسلمين الذين ما يزالون يتقاضون أجورهم من السلطات في البلاد ‏الإسلامية هذا الوعد إلى هذا اليوم؟ ‏لا يمكن أن يجد أحد جوابا أفضل من جواب الله تعالى الذي في القرآن: ‏‏( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ...) 25-6. ‏لماذا؟؟؟ لأنهم قد أشركوا مع كتاب الله تعالى في فقه الدين كتبا أخرى نهى ‏عنها سبحانه، وأشار للمشركين عنها بقوله الكريم: ‏‏(ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي ‏الكبير*)12-40. ‏علما أن ذلك الإنجاز الذي تحقق للمؤمنين في زمن قياسي، ما زال يعتبر ‏أكبر إعجاز لأكبر تنبؤ تحقق للمؤمنين في الأرض خلال كل الرسالات ‏السابقة بدون إستثناء لأي رسالة أخرى أتى بها نبي رسول، لم يلتفت إليه ‏أحد من علماء المسلمين الذين أضلوا بسابق تصميم وإصرار عن نور الله ‏الحقيقي الذي في القرآن العظيم. ‏نعم، لقد أضلوا عن ذلك الكتاب الحاوي على ما قاله الله تعالى، إلى كتب ‏أخرى ليس فيها إلا أقوال الرواة من الذين إفتروا على الله تعالى وعلى ‏رسوله الكريم لمصلحة سلاطين المسلمين من خلفاء السوء من الذين تسلطوا ‏على الناس من بعد الراشدين، وإلى هذا اليوم.‏
علما أن كبار رجال الدين الذين تعهدوا لسلطانهم بتبديل دين الله تعالى من ‏بعد الراشدين لم يكونوا من القديسين بل كانوا من شياطين الإنس الذين ‏كفروا بالحق تحقيقا لشهوات الدنيا حيث بدلوا قراءة كلمة: ‏‏( سيغلبون ) المبنية للمجهول فجعلوها من الأفعال المتعدية، فاعلها الروم ‏ومفعولها الفرس، مع أنها وردت في النص القرآني، كما قلنا، مبنية ‏للمجهول، لكون فاعلها الحقيقي عند نزول تلك الآيات، لم يكن مجهولا فقط، ‏بل كان ما يزال في غيب الله تعالى وحده بالنسبة لأغلب الناس، إذ لم يكن ‏يعلم بحقيقة تلك النبوءة العظيمة إلا الرسول الكريم وأصحابه المقربين من ‏الذين حاربوا معه بعدها في معارك الفصل بين الحق والباطل، مثل بدر ‏وأحد والخندق ومؤتة وتبوك. ‏إن مفتاح حل لغز تلك الآيات، ما تزال تكمن كما رأينا في معرفة التواريخ ‏التالية: ‏‏1- تاريخ نزولها على رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي كان يتطابق ‏بحسب أغلب المصادر الإسلامية التي تقول أنها كانت في السنة الرابعة ‏للبعثة مع ما تقوله المصادر الغربية التي تقرر أن بعثة الرسول الكريم كانت ‏سنة 610 م، كما غلبت الروم من قبل الفرس في آخر معاركها التي كانت ‏في (أدنى الأرض) فلسطين، سنة 614 م. ‏بالتالي فقد كان ذلك الوعد بنصر المؤمنين على الروم والفرس معا ، قد ‏نزل بالوحي من السماء، قبل وصول أخبار تلك الهزيمة عن طريق القوافل ‏التجارية، التي تأخرت لنقلها شهرا، فاعتبرالذين أمنوا برسالة الرسول في ‏مكة أنها كانت معجزة الله تعالى الشاهدة على صدق رسوله الكريم، دون أن ‏ينتبهوا للمعجزة الكبرى التي حدد سبحانه فيها موعد وهده للمؤمنين. ‏‏2- تاريخ أخذ الروم لثأرها، وذلك بانتصارها من جديد على الفرس ‏واستعادتها للصليب المقدس، بعد احتلالها لعاصمتها الذي كان قد تم لهم في ‏سنة 628 م. الموافقة للسنه السابعة هجرية.* ‏‏* للحاشية: نلاحظ أنها قد حصلت بعد أربعة عشر عاما التي يقال عنها في العربية: في بضع وعشر سنين، ولا ‏يقال عنها في بضع سنين كما في النص القرآني. ‏‏3- بينما تاريخ إنتصار المؤمنين على الروم في معركة اليرموك الفاصلة ‏كان قد تم في منتصف: العام الخامس عشر للهجرة، (في الخامس من ‏رجب) الموافقة (للعشرين من آب) من عام: 636 م. ‏الذي يمكن أن يقال عنه أنه قد حصل فعلا في بضع سنين من بعد غلبهم* ‏أي من تاريخ أخذ الروم لثأرها من الفرس، على اعتبار الفاصل الزمني * ‏‏* للحاشية:تفصيل الأحداث: ( تاريخ انتصار الفرس على الروم كان في عام 614م، وتاريخ ‏انتصار الروم على الفرس أخذا بثأرها، كان سنة: 628م الموافقة للسنة السابعة هجرية، وتاريخ ‏انتصار المؤمنين على الروم في اليرموك كان سنة 636م، الموافقة لسنة 15 ه وتاريخ انتصار ‏المؤمنين على الفرس في القادسية كان سنة 637م ، الموافقة لسنة 16 هـ. ) ‏بين الحادثتين كان ثماني سنوات التي يقال عنها في العربية: في بضع ‏سنين. ‏‏4- كذلك نجد الفاصل بين ذلك التاريخ وتاريخ إنتصار المؤمنين على ‏الفرس في معركة القادسية التي تمت في منتصف العام السادس عشر ‏للهجرة الموافقة لعام: 637 م التي يمكن أن نقول عنها أيضا أنها قد حصلت ‏في بضع سنين، لكون الفاصل الزمني كان تسع سنوات التي يقال عنها في ‏العربية: في بضع سنين أيضا. ‏هكذا نكون قد علمنا أن تلك الآيات الستة الأولى من سورة الروم قد نزلت ‏على الرسول الكريم، مبشرة له وللمؤمنين الجدد الذين كانوا قد آمنوا به ولم ‏يكن عددهم قد تجاوز العشرات بعد، تلك الآيات التي غفل عنها رجال دين ‏ما بعد الراشدين، كانت أكبر نبوءة في تاريخ الرسالات، علما أن سبحانه قد ‏وفى بوعده ونصر المؤمنين كما أخبر سبحانه عنها لتتحول وتصبح أكبر ‏معجزة من معجزات الله تعالى في الأرض من التي ذكرت في القرآن ‏العظيم. ‏حيث كان نصر الله سبحانه للمؤمنين المستضعفين في الأرض على أكبر ‏إمبراطوريتين في عالم ذلك العصر، وهما إمبراطوريتي الروم والفرس ‏اللتان غلبتا ( بضم الغين ) معا في بضع سنين من بعد أخذ الروم لثارها من ‏الفرس. ‏الفارق الزمني بين تاريخ الوعد وتاريخ تحققه للمؤمنين كان: ‏‏637 - 614= 23 عاما. ‏هذا الفاصل الزمني يتطابق مع مدة إستمرار وحي السماء على الرسول ‏الكريم، 23 عاما. ‏كان المؤمنون من أصحاب الرسول الكريم يعلمون أن وعد الله تعالى ‏بنصرهم على الروم والفرس قريب، وإلا لما وعد الرسول الكريم الذي لا ‏يعلم الغيب أصلا، سراقة بسواري كسرى الذي لم يكن يحلم بوجود سراقة ‏أصلا. ‏التاريخ الوحيد الذي كان غامضا على المؤمنين والذي كان ما يزال في ‏غيب الله، هو تاريخ أخذ الروم لثارها من الفرس*. ‏‏*للحاشية: أحب أن أعيد القارئ الكريم إلى موضوع كتبته سابقا تحت عنوان: لماذا لا يستطيع المسلمون رؤية ‏حقائق القرآن، من كتابي الرابع: الحقيقة، في الصفحة: 112 حيث أقول فيه: ‏حتى نفهم الآيات الستة السابقة لا بد من الإستعانة بكتاب تاريخ معتمد أخذ عن مصادر موثوقة لأحداث هامة في ‏العالم، كتبها مؤرخون معروفون، عاشوا أحداث قصة الروم والفرس، وكتبوا أحداثها بتواريخها الحقيقية. ‏لقد كانت الآيات الستة الأولى من سورة الروم من كيد الله تعالى للكافرين ‏حيث يقول سبحانه: ‏‏( إنهم يكيدون كيدا* وأكيد كيدا* فمهل الكافرين أمهلهم رويدا*) 15-17-‏‏87. ‏‏( والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم، إن ‏كيدي متين*) 183-7.* ‏‏*للحاشية: معنى الكيد في القرآن هو: تدبير أمر فيه ضرر للآخر في السر والخفاء، كما في قوله تعالى على لسان ‏يعقوب وهو يحدث يوسف عليهما الصلاة والسلام: ( قال: يابني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا، ‏إن الشيطان للإنسان عدو مبين*) 5-12. ‏الله تعالى هو الذي أعلمنا عن كيد الكافرين من الروم والفرس معا في آيات ‏سورة الروم، كما أخبرنا كيف كان يكيد لهم، بعد أن إختار لهم رسولا من ‏تلك الأقوام المستضعفة في الأرض ومن التي كانت تعيش إلى جوار كسرى ‏وقيصر ملكي أكبر إمبراطوريتين عرفهما التاريخ، دون أن يحسبوا أي ‏حساب لتلك الأقوام أو لأمثالهم. ‏ثم يأتي سبحانه ويعلم رسوله المختار من نفس أولئك المستضعفين، بوحي ‏حقيقي من السماء آمن به الرسول وأصحابه جميعا يقول لهم في آيات ‏سورة الروم ما معناه: ‏أعدك يا محمد كما أعد المؤمنين الذين آمنوا معك والذين سيؤمنون برسالتي ‏من بعدك بالنصرعلى هذين الملكين المتألهين الظالمين قريبا، وأورثهم ملكا ‏لم يحلموا به وأرضا لم يطأوها جزاءا وفاقا لحسن إيمانهم وأمتثالهم لدين ‏الرحمة والسلام. ‏أما إن تساءل القارئ الكريم: ما الذي جعل الكاتب ينتبه لكل هذا دون غيره ‏من المسلمين؟ ‏أقول: أعتقد أن السبب هو في توحيدي لله تعالى وحده ولم أشرك به أحدا ‏من رسول أوملاك في الحكم أو في التشريع، :ما لم أشرك به سبحانه أحدا ‏ليكون خليله أو حبيبه أو شفيعه، كما أني لم أشرك به شيئا من حديث أو سنة ‏أو كتاب، معتبرا القرآن وحده مصدر النور المبين بذاته لدين الله تعالى، ‏وهذا فيما أعتقد هو الذي حماني من اللعنة المرصودة على أعين وأسماع ‏المشركين: ‏‏( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ...) 25-6. ‏كما أعتقد أن دراستي للعلوم العسكرية بشغف في مطلع شبابي خلال حياتي ‏العملية كضابط في الجيش السوري، إلى أن وصلت في الدراسة لأعلى ‏مراحلها في كلية الأركان، استمعت خلالها إلى محاضرات في علم السياسة ‏وفن الحرب عرفت فيها معاني ومفاهيم كلمات كبيرة مثل: الحرب والسلام، ‏التكتيك والإستراتيجية، الهجوم والدفاع، الحشد الذي يسبق كل العمليات ‏العسكرية من هجوم أو دفاع تفرضها الظروف، وماهي الظروف الموجبة ‏للهجوم؟ ومتى يجب اللجوء مؤقتا إلى الدفاع؟ ‏أعتقد أن كل تلك الأمور معا هي التي تضافرت لتجعلني قادرا على تمييز ‏تلك الأوامر السماوية التي كانت تأتي وحيا من الله تعالى لرسوله الكريم ‏آمرة إياه بالتحرك والتصرف وفق تعليماته سبحانه في آياته المحكمات ‏لتقربه خطوة بعد أخرى نحو حرب مصيرية كان سبحانه يخطط لها ربما ‏من قبل الرسالة التي كشفت آياتها ما كان سبحانه يكيد للكافرين الظالمين ‏الذين علو في الأرض واستكبروا فيها. ‏‏( وأملي لهم إن كيدي متين *) 183- 7، 45- 68. ‏فقد كنت ألاحظ في الآيات المحكمات من القرآن، أنها فترة حكم الله تعالى ‏المباشر في الأرض عن طريق أوامر الوحي المباشرة التي كانت تحرك ‏الرسول والمؤمنين الذين كانوا ينفذون معه بشكل شبه كامل كل أوامر ‏الوحي التي كانت تتنزل على الرسول حسب المناسبات الهامة، مبينة لهم ‏ماذا عليهم أن يفعلوا في كل ظرف مستجد، وكما كنت أدرك أنها كانت في ‏مجملها تدخل في عملية كبيرة اختار لها سبحانه عبارة: الحشر، والتي ‏ذكرها سبحانه في أول سورة الحشر التي كنت أعلم أنها تعني الحشد بلغة ‏اليوم السياسية والعسكرية: ‏‏(هو الذي أخرج الذين كـفـروا من أهل الكـتـاب من ديــارهم لأول ‏الحشر...*)2-59. ‏تلك العملية العسكرية الكبيرة الحاوية على كل أعمال التحضير والإستعداد ‏للحرب العظيمة التي أعلمنا سبحانه أنها قادمة عليهم في بضع سنين من بعد ‏ثأر الروم لنفسها حتى يكون من قدرة المؤمنين تنفيذ العملية القتالية في ‏مواجهة الإمبراطوريتين معا بعد أن أنهكتهما الحروب والأمراض وقبل أن ‏يستـعـيـدا قوتهـمـا من جـديـد*، لعلم الله تعالى أن كلتا القوتين ‏‏* للحاشية: يقول ويل ديورانت في نفس المرجع السابق وتتمة لما استشهدت به قبل قليل تحت ‏عنوان: فتح العرب: وفي ذلك العام ( 629م) فشا وباء فاتك في بلاد الفرس، أودى بحياة الآلاف ‏من أهلها ومنهم الملك نفسه. وعلى أثر موته نودي بابنه أزدشير الثالث- ولم يكن قد جاوز ‏السابعة من العمر- ملكا على الفرس، لكن قائدا يدعى شهر براز قتل الغلام واغتصب العرش. ثم ‏قتل شهر براز نفسه بأيدي جنوده، وجر اولائك الجنود جثته في شوارع المدائن وهم يصيحون: ‏‏((هذا مصير كل من جلس على عرش بلاد الفرس ولم يكن يجري في عروقه الدم الملكي)) ذلك ‏أن الجماهير أكثر ملكية من الملوك. وسادت وقتئذ الفوضى في تلك البلاد التي أنهكتها الحروب ‏مدى ستة ووعشرين عاما، وفشا في الدولة التفكك الإجتماعي بعد أن عمها الفساد الأخلاقي بتأثير ‏الثروة التي جاءت في أعقاب النصر الحربي الأول ، وقام تسعة من الحكام يتنازعون عرش البلاد ‏في خلال أربع سنوات، ثم اختفوا كلهم مقتولين أو هاربين أو ماتوا ميتة طبيعية شاذة. وأعلنت ‏بعض الولايات، بل بعض المدن نفسها، استقلالها عن الحكومة المركزية بعد أن عجزت الحكومة ‏عن بسط سلطانها على البلاد. ووضع التاج في عام 634م على رأس يزدجرد الثالث سليل بيت ‏ساسان وابن جارية زنجية. ‏بحسب سنن القوى في الأرض، حتما سترفـضــان ظهور أي قوة أخرى ‏منافسة لهما في الميدان. ‏لذا فقد كان النزاع القتالي مع تلك القوتين معا من الأمور التي فرضتها تلك ‏الظروف لتكون حتمية لا يمكن المفر منها إن رغب المؤمنون أن يكون لهم ‏شأن في تلك المنطقة. ‏والله تعالى العليم العلام الذي كان عالما بتلك الحقيقة، كان يكيد لتلك القوتين ‏كي تنهك كل واحدة منهما الأخرى، ليجعل سبحانه النصر عليهما معا أسهل ‏على المؤمنين حسب سنن الله تعالى في الأرض. ‏وعلى ذكر الإستراتيجية التي تعني الأفكار والأهداف الأساسية التي تبني ‏عليها الدول الكبيرة والمؤسسات العالمية العملاقة من أجل تأمين مصالحها، ‏أستطيع التأكيد على بعض الأهداف الإستراتيجية التي بنى عليها سبحانه ‏مصلحة المؤمنين لبناء وتأسيس مبادئ دينه الحنيف في الأرض: ‏أولا: التركيز على أن دين الله هو الدين الوحيد الذي يدعوا إلى السلم ‏والتعايش السلمي في الأرض، من خلال آيات متشابهات مثل قوله تعالى: ‏‏( يا أيها الذين آمنوا إدخلوا في السلم كافة .....*) 208- 2. ‏‏( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل ‏لتعارفوا، إن أكرمكم عندالله أتقاكم، إن الله عليم خبير*) 13-49. ‏ثانيا: التركيز على أن الحرب ضد المشركين من القبائل العربية كانت حربا ‏طارئة، أكره عليها المؤمنون الذين أخرجوا من ديارهم، وتلك الحرب كانت ‏مؤقتة ويجب أن تنتهي بإذن الله قبل وفاة الرسول الكريم المكلف بها وحده. ‏‏*للحاشية: بمعنى أنها يجب أن لا تستمر بعد وفاة الرسول الكريم أبدا كما تبين ذلك أية سورة ‏النساء المذكورة لاحقا. ‏علما أن غاية تلك الحرب كانت من أجل كف بأس الذين كفروا من زعماء ‏المشركين من أمثال أبي سفيان ولم تكن أبدا من أجل إكراههم على الإيمان:‏
إذ أننا نتذكر كيف خاطب سبحانه رسوله خطابا مباشرا يبين له سبحانه ‏وللمؤمنين الذين كانوا معه إرتباط تلك الحرب به شخصيا مع وجوب إنهائها ‏قبل موته قائلا: ‏‏( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى أن ‏يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا*) 84-4. ‏فحرب المشركين مع زعماؤهم الكافرين قد ربطها سبحانه بحياة الرسول ‏وبالآيات المحكمات التي تقول مثلا: ‏‏(ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء، فلا تتخذوا منهم أولياء حتى ‏يهاجروا في سبيل الله، فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا ‏تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا*)89-4. ‏كما أننا نذكر من كتب السيرة كيف أنهى الرسول تلك الحرب فعلا في حجة ‏الوداع، بقوله: ‏‏((أيها الناس: إسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ‏بهذا الموقف أبدا، أيها الناس: ‏إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، ‏وحرمة شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت.))* ‏‏* للحاشية: حجة الوداع تاريخ إبن خلدون، م2، ص 461، دار الكتب العلمية بيروت ط1. ‏ثالثا: التفريق بين حرب المشركين تلك التي أنهاها الرسول قبل وفاته وبين ‏حرب الروم والفرس التي كانت قادمة على الراشدين من بعده، شاؤوا ذلك ‏أم أبوا، حسب سنن الله تعالى بين القوى في الأرض. ‏رابعا: وجوب إخراج أهل الكتاب الرافضين للدين الجديد، من الذين كانوا ‏يطعنون المؤمنين دائما من الخلف دون أن يراعوا عهدا أو وعدا أو ميثاقا، ‏من الجزيرة العربية، لعلمه تعالى أن المؤمنين لا يمكنهم أن يقاتلوا قبل أن ‏يأمنوا ظهورهم، وهذا الأمن لم يكن ليتم لهم وهم خلفهم أبدا، فكان إخراجهم ‏من الأمور الحتمية إستراتيجيا، لذلك علينا أن ننتبه أن موضوع إخراجهم ‏من الجزيرة العربية كان بأمر مباشر من الله تعالى ولم يكن بقرار من ‏الرسول الكريم أبدا: ‏‏(هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ‏ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من ‏حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي ‏المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار*) 2-59. ‏خامسا: توجيه إمكانيات الدولة الإسلامية الجديدة للإستعداد والتجهيز الحربي ‏لمواجهة عدو لم يكن المؤمنون يعرفون عنه شيئا، بينما كان الله تعالى على ‏علم تام بهم وبإمكانياتهم، كما كان سبحانه يعلم، على أن الروم والفرس لو ‏كانوا يعلمون بخطة الله تعالى على خلق قوة جديدة في تلك الأرض من نفس ‏أولئك المستضعفين عن طريق الإيمان، لكانوا أول من خطط وجهز نفسه ‏للقضاء عليها من دون تأخير أو تأجيل، لكن مشيئة الله تعالى كانت على أن ‏لا ينتبه الروم والفرس إلى وجود تلك القوة إلا بعد فوات الأوان، هذا وقد ‏أشار سبحانه إلى الروم والفرس من دون أن يعلن إسميهما لأهمية إبقاء ‏الموضوع سرا بين المؤمنين في قوله تعالى: ‏‏( وأعدو لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله ‏وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء ‏في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون*)60-8. ‏ولما كانت غاية الله تعالى هو كسر شوكة الظالمين وليس قتلهم يقول تعالى ‏بعدها مباشرة: ‏‏( وأن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم*) ‏‏61-8. ‏سادسا: المبادرة بغزو بعض الثغور التي كان فيها بعض الحصون والقلاع ‏على الحدود الجنوبية، للروم والفرس، وذلك كتطعيم للمعركة ومن أجل ‏كسر الحاجز النفسي مع خلق الجرأة على قتال جنود أكبر دولتين في العالم ‏عن طريق تقوية الإيمان بالله تعالى والإيمان بوعوده وعهوده، حتى يكونوا ‏قادرين على مواجهة قوات عسكرية نظامية مدربة على القتال تدريبا عاليا. ‏‏( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة، ‏واعلموا أن الله مع المتقين) 123-9. ‏فالله تعالى كان يعلم، كما قلنا، على أن المؤمنين إذا لم يبادروا بالهجوم أولا، ‏فالمبادرة كانت ستكون للروم والفرس الذين لن يقبلوا بأي حال من الأحوال، ‏بحسب سنن القوى ظهورأي قوة جديدة إلى جانبهما. ‏تلك الأهداف الإستراتيجية التي ذكرت بعضها الآن لاحظتها في آيات القرآن ‏وذلك بالتدقيق في معاني كلمات وجمل تلك الآيات، كما أعدت قراءتها بعين ‏باحثة وعقل يتفكر في آيات الله، متغاضيا عن المخارج الموسيقية لأحرفها ‏وكلماتها. ‏أدركت عندها أن الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون الذين كانوا معه ‏يعلمون أن تحقق نبوءة الله تعالى تلك كانت تحتاج منهم تنفيذ ما كان يطلب ‏منهم كنصيب لا بد منه، وذلك في أن يقاتلوا في سبيل الله الذي أمرهم بها ‏بكل ما آتاهم ربهم من قوة وعزم وشدة وإيمان: ‏‏(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو ‏الله...*) 60-8. ‏تلك الآيات التي كانت تحرض المؤمنين على قتال الروم والفرس، كان ‏الرسول الكريم يحرص على تنفيذها يوما بيوم وخطوة بعد أخرى كما كان ‏يرتبها له الله سبحانه القوي العزيز العظيم. ‏لكن، إن تساءلنا لماذا يعيد علماء ديننا تلك الآيات إلى قتال المشركين؟ ‏نقول: لأنهم مع مصادر إشراكهم بالله تعالى المتمثلة بكتبهم الصفراء في ‏جانب والحق مع الحقيقة في الجانب الآخر. ‏ألا نلاحظ في آيات القرآن الكريم كيف ميز الله تعالى المشركين عن ‏الكافرين؟ ‏إذ نلاحظ في آية سورة التوبة السابقة أنها أمر مباشر من الله يأمرهم فيها ‏بإرسال قوة إغارة هجومية إنذارية على ثغور الروم جنوبي الأردن في ‏مؤتة، في العام الثامن للهجرة وفي شهر جمادى الأولى*وذلك بعد عدة ‏أشهر من اخذر الروم بثأرها من الفرس التي وصفها ديورانت بقوله: ‏‏(وابتهج هرقل وحق له أن يبتهج بهذا النصر المؤزر، لكنه لم يكن يعرف ‏أنه في اليوم الذي أعاد فيه الصليب المقدس إلى موضعه في الضريح، عام ‏‏629م، قد هاجمت سرية من العرب حامية رومانية بالقرب من نهر ‏الأردن. مؤتة.* ‏‏* بحسب تاريخ الطبري وابن خلدون أن تلك الغزوة كانت بعد الأشهر الحرم مباشرة لتحريم القال ‏والصيد البري فيها، أي في شهر جمادى الأولى من سنت ثمان للهجرة. ‏فهل يمكن أن نرى في هذا الهجوم أي فرح أو تهنئة من الرسول ‏والمؤمنين لقيصر الروم بنصره على الفرس الكافرة كما تقول كتب التفسير ‏للقرآن التي كتبت في العصر العباسي وأصبحت بعدها مرجعا مقدسا ‏للمدارس الدينية في بلاد المسلمين من أتباع المذهب السني؟ ‏كل الأدلة تشير على أن الفرح الذي عم المسلمين في تلك الأيام كانت لعلمهم ‏أن نصر الله ووعده قريب والعد التنازلي للفترة التي حددها سبحانه بعدة ‏سنوات كان قد بدأت فعلا بعد انتصار الروم على الفرس، ربما شاء الله ‏تعالى أن يكون نصرهم عليهما معا بعد إضعاف قوتيهما بتلك الحربين ‏السابقتين، والله كما نعلم يفعل مايشاء ويريد. ‏لذا فالرسول الكريم لم يتأخر أبدا، بل بادر من فوره، بإرسال تلك القوة ‏الإنذارية الشهيرة بإسم: غزوة مؤتة، التي استعمل عليهم فيها: زيد بن ‏حارثة، فتجهز الناس ثم ثم تهيؤوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، وأمرهم أن ‏يغزوا ثغرا من ثغور الروم المتاخمة لهم من بلاد الشام، علما أن ذلك كان ‏من بعد أن علموا بنصر الله القريب فخرجوا للقتال بحماس شديد.* ‏‏*للحاشية عن تاريخ الطبري الجزء الأول من المجلد الثاني ص 181 الطبعة الأولى دار الكتب العلمية ، بيروت. ‏كما سبق ونوهت، فقد كان قتال الروم والفرس حربا تفرضها سنن الله تعالى ‏التي زرعها سبحانه في الطبيعة البشرية، بالتالي، فتلك الحرب كانت حربا ‏حتمية على المؤمنين لا مجال من تجاوزها، أو تجنبها، طلما قد ظهروا في ‏المنطقة كقوة جديدة، فتلك القوة كانت مرفوضة حسب تلك السنن من القوى ‏الحقيقية القديمة التي كانت تجاورهم. ‏لذا فقد شاء سبحانه أن يبدأ المؤمنون بالغزو قبل أن يغزى عليهم، وهذا ‏مانسميه اليوم في العلوم الحربية بالهجوم الدفاعي، كي يستطيع المهاجم أن ‏يفرض على عدوه المكان والزمان ويحرمه من الخيار فيهما مع إبقاء ‏المبادهة بيده كمهاجم خلال المعارك كلها.‏
أما إن تساءلنا: لكن كيف وجد المؤمنون قوة الروم والفرس في غزواتهم ‏السابقة للحرب الشاملة التي كانت قادمة عليهم حسب آيات التنبؤ تلك في ‏أوائل سورة الروم؟ ‏نقول: في الحقيقة، لقد فوجئ المؤمنون بقوة الروم بداية وفوجئوا أيضا ‏بأساليب قتالهم المتطورة، كما أدركوا أن أمامهم فترة تحضير وتدريب ‏طويلة كي يكونوا قادرين على المواجهة الحقيقية، فانسحبوا بإمرة خالد بن ‏الوليد، بعد أن تكبدوا خسائر كبيرة في الأرواح وبعد أن قتل في تلك الغزوة ‏أغلب قادة المؤمنين الذين تسلموا القيادة بالتسلسل كما حددها لهم الرسول في ‏حال قتل القائد، ثم تلتها غزوة أخرى كانت أكبر،* إذ كان قوامها عشرة ‏‏*( للحاشية: بحسب تاريخ الطبري وإبن خلدون غزوة تبوك كانت في رجب سنة تسعة للهجرة، راجع تاريخ ‏الطبري الجزء الأول من المجلد الثاني ص: 181، الطبعة الأولى، دار الكتب العلميةبيروت.) ‏آلاف مقاتل، كما نقرأها اليوم في كتب تاريخ السيرة، حيث سميت بغزوة ‏تبوك، كسابقتها بحسب مكان وقوعها، لكنها كانت هذه المرة بأمرة الرسول ‏عليه الصلاة والسلام نفسه، كما كتب عنها إبن خلدون قائلا: ‏ثم أمر(الرسول) بالناس في صيف* السنة التاسعة بعد الفتح وحنين والطائف ‏‏*للحاشية: وسبب إختيار الرسول الدائم لكل غزواته في الصيف متحاشيا أِشهر الربيع، كان لعلمه تحريم الله تعالى ‏القتال أو صيد البر في تلك الأشهر التي كانت محرمة عند العرب منذ أيام إبراهيم وإسماعيل عليهم الصلاة ‏والسلام جميعا، ثم عاد سبحانه وأكد على تحريمها في سورة التوبة، كما أكد الرسول على وجوب تحريمها في ‏حجة الوداع بحسب ما كتب إبن خلدون، أما سبب تأخره إلى رجب بدلا من الخروج في أحد الجمادين كان بسبب ‏تردد المنافقين، كما تروي ذلك كله آيات سورة التوبة، التي نزلت بحسب ما كتب إبن كثير والطبري وإبن خلدون ‏في السنة التاسعة للهجرة. المؤلف. ‏أن يتهيأوا الغزو الروم، فكانت غزوة تبوك*. فبلغ تبوك وأتاه صاحب أيلة ‏‏*(للحاشية:هذه المواقع في بلاد غساسنة الشام شمالي الأردن، في المنطقة التي تعرف حاليا باسم حوران. المؤلف) ‏وجرباء وأذرح وأعطوا الجزية، وصاحب أيلة يومئذ يوحنا بن رؤبة أحد ‏بطون جذام، وأهدى له بغلة بيضاء. وبعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل ‏وكان بها أكيدر بن عبد الملك، فأصابوه بضواحيها في ليلة مقمرة وأسروه، ‏وقتلوا أخاه وجاءوا به إلى النبي ص فحقن دمه وصالحه على الجزية ورده ‏إلى قريته. وأقام بتبوك بضع عشرة ليلة، وقفل إلى المدينة. وبلغ خبر يوحنا ‏إلى هرقل فأمر بقتله وصلبه عند قريته.* ‏‏*( للحاشية: تاريخ بن خلدون، المجلد الثاني، ص: 259، دار الكتب العلمية بيروت ، الطبعة الأولى.) ‏هكذا عادت قوات المسلمين بعد أن إستعادت ثقتها بنفسها وزرعت الرعب ‏في قلوب جنود الروم الذين لم يتجرؤوا على الوقوف أمامهم هذه المرة. ‏أما إن تساءلنا: لماذا لم يكمل المؤمنون هجومهم على أماكن تمركز قوات ‏الروم؟ ‏نقول: أولا لم تكن الغزوة إلا ثأرا لقتلى غزوة مؤتة، ومن أجل إعادة الروح ‏المعنوية للمقاتلين، وذلك بإعادة الثقة والطمأنينة إلى قلوب المؤمنين من ‏الذين حضروا غزوة مؤتة التي كانت الأولى من نوعها في لقاء المؤمنين ‏لقوات عسكرية مدربة على القتال مثل قوات الروم، فانسحبوا بعد إنجاز ‏مهمتهم من تلك المعركة وعادوا آمنين. ‏كما علينا أن لا ننس مبادئ الله تعالى المعلنة في القتال المعلنة في القرآن: ‏‏( وأن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميـع العليـم*) ‏‏61-8. ‏فإذا جنح العدو للسلم، فعلى المؤمنين أن يجنحوا لها لأن المبدأ الأساسي في ‏دين السلم الذي هو دين الله تعالى هو: ‏‏( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، أن الله لا يحب ‏المعتدين*) 190-2. ‏أما إن تساءلنا: لماذا لم يكن أمر الغزو والهجوم على الفرس المغلوبة أولا، ‏فهي كانت كافرة أيضا، والنصر عليها كان أسهل؟ ‏نقول: أولا ليس من أخلاق الفروسية التي حث عليها الإسلام، غزوالجريح ‏المغلوب قبل أن يتعافى، كما أن الروم التي أصبحت الأقوى بعد انتصارها ‏على الفرس والإنتصار على الغالب يحطم معنويات القوتين بينما لو وجه ‏الرسول غزوته للفرس لما تأثرت معنويات الروم المنتصرة حديثا على ‏الفرس، علما أن الخيار لم يكن للرسول بل لأمر ربه الذي كان يقود بالوحي ‏إدارة الأمور. ‏أما إن تساءلنا: طالما رجع المؤمنون من تلك الغزوة دون إشتباك أومجابهة ‏حقيقية مع قوات الروم، فهل كانت تلك الغزوة قتالا في سبيل الله أم جهادا ‏في سبيله؟ ‏نقول: بل كانت، مثل كل غزوات الرسول الكريم وكل السرايا التي أرسلها ‏في حياته، جهادا في سبيل الله طالما لم تشهر السيف بعد، لكنها تتحول إلى ‏قتال في سبيل الله عند رفض الطرف الآخر للحل السلمي، الذي كان لا بد ‏أن يسبق رفع السيف بحسب مفهوم الإسلام الراشدي إلا بعد فشل كل ‏الحلول السلمية الأخرى، كما حصل مثلا لمفرزة خالد بن الوليد، التي ‏إضطرت للقتال مع بعض العرب من الغساسنة الذين كانوا من النصارى ‏ومن حلفاء الروم، بالتالي يمكن إعتبار كل الذين شاركوا في أي غزوة دون ‏أن يقوموا بأي أعمال قتالية، كالسقائين والمسؤولين عن تضميض وتمريض ‏الجرحى أنهم كانوا من المجاهدين في سبيل الله، حتى ولو قتلوا أثناء الغزوة ‏بسيوف الأعداء قبل أن يشهروا سيوفهم. ‏بينما الذين شاركوا في الأعمال القتالية نقول عنهم أنهم كانوا من المقاتلين ‏في سبيل الله. ‏أما إن تساءلنا: كيف تتطابق آيات سورة الروم الستة مع تلك الأحداث. ‏نقول: إن موضوع مطابقة تلك الآيات مع الأحداث يمكن أن يتم بسهولة ‏ويسر، مثلا بالنسبة لقوله تعالى: ( غلبت الروم* في أدنى الأرض...* ) ‏هذا هو الحدث الأول، وهو لايحتاج إلى أي شرح إضافي، بل علينا الإنتباه ‏إلى ورود الروم مفردة، وأن عبارة أدنى الأرض تعني إما أدنى الأرض من ‏البحر الأبيض المتوسط الذي مازلنا نقول عنه: الشرق الأدنى، وإما أنها ‏تعني أخفض نقطة على سطح الأرض التي تقع في فلسطين حيث كانت فيها ‏آخر معارك الفرس والروم التي بها تم إعلان هزيمة الروم بزوال آخر ‏معاقلها فيه. ‏‏- ( وهم من بعد غلبهم ) ‏هنا يجب الإنتباه إلى أن الضمير قد تغير في النص ليرد بصيغة الجمع ‏وليس بصيغة المفرد كما في أول الآية: (غلبت الروم) :فقال سبحانه: ‏وهم ليعود الضمير للروم والفرس معا، وعبارة: ‏‏(من بعد غلبهم) وردت وهي تعني: من بعد غلب كل واحدة منهما للأخرى. ‏علما أن هذه العبارة تتضمن الحدث الثاني، الذي حصل في صيف عام 628 ‏م. الموافقة للسنة السابعة للهجرة، حيث عادت الروم لتغلب عدوتها التقليدية: ‏الفرس، من جديد، أخذا بثأرها القديم الذي حدث أول مرة كما رأينا في ‏صيف 614 ميلادية المتطابقة مع تاريخ نزول هذه الآيات التنبؤية على ‏رسولنا الكريم في العام الرابع من بعثته. ‏‏- ( سيغلبون*): هنا يجب الإنتباه إلى وجود خطأ إنساني في تشكيل القرآن ‏سواء حصل ذلك سهوا أوعمدا لابد من إعادة تصحيحه ليقرأ ( سيغلبون*) ‏مبنية للمجهول، أي مضمومة الياء، على إعتبار أن القوة الفاعلة والقادرة ‏على هزيمة الروم والفرس معا لم تكن مجهولة فقط عند نزول هذه الآيات، ‏بل نستطيع أن نجزم بأنها لم تكن موجودة أصلا إلا في غيب الله تعالى علام ‏الغيوب وحده لا شريك له في ذلك من أحد، ولم يكن يعلم بها في ذلك ‏الوقت، إلا الرسول الكريم مع العشرات من الذين كانوا قد آمنوا به وبما ‏أنزل الله تعالى عليه من الوحي القرآني. ‏كان هذا هوالحدث الثالث الموجود والمسجل في كتب تاريــخ السيــرة ‏الإسلامية، الذي سهي عنه كل المفسرين، ربما نتيجة أوامر السلطة الدينيـة ‏العليا في تلك الفترة. ‏أخيرا إذا وضعنا الأحداث الثلاثة كما وردت وقرأناها صحيحة بعد تصحيح ‏قراءتنا للكلمة الأخيرة منها أصبحت مفهومة من جديد مع إعجازها في قلة ‏كلماتها وكبر مضمونها: ‏‏- ( غلبت الروم* في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون*) ‏إلى هنا نكون قد علمنا فقط أن الروم والفرس سيغلبون معا، من بعد أن ‏تغلب كل واحدة منهما الأخرى في معركتين فاصلتين بينهما: 14 عام، دون ‏أن نعلم من هي القوة الجديدة التي ستغلبهما معا؟ ‏ودون أن نعلم بالتحديد متى ستكون؟ ‏لكن إذا قرأنا العبارة التي تقول بعدها: - ( في بضع سنين ) ‏نستطع أن نعلم: متى ولكن ليس بالتحديد بل في بضع سنين التي تقال في ‏العربية لتعني من ثلاثة إلى تسعة. ‏ونحن عندما نقول في العربية: لله الأمر من قبل ومن بعد، نقصد ثلاث ‏أزمنة معا: من قبل، والآن، ومن بعد من بعد، هذا هو الزمن الثالث الذي ‏قلنا عنه أنه كان مايزال في غيب الله، فيخبرنا عنه الله سبحانه تنبؤا عنه ‏بقوله الكريم: ‏‏- ( ويومئذ يفرح المؤمنون* بنصر الله،) هنا المفسرون أجمعوا على خطإ ‏كبير وخطير، عندما فرقوا بين كفر وكفر، وقالوا الروم أهل كتاب والفرس ‏من عبدة النار الكافرين. ‏مع أنهم ما زالوا يقرأون في القرآن الكريم ماذا قال الله عن طائفتي الروم ‏وكنيستيها، حيث قال سبحانه عن الأولى: ‏‏( لقد كفرالذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) 72-5. ‏وكما قال عن طائفة الروم وكنيستها الثانية: ‏‏( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)73-5. ‏فلا عذر للمفسرين أو أتباعهم أن يخالفوا قول الله تعالى الصريح والمعلن في ‏كتابه المبين. ‏كما كان عليهم أن ينتبهوا إلى أن تاريخ إنتصار هرقل الروم على كسرى ‏الفرس أخذا بثأره القديم قد حصل فعلا كما كتبه المؤرخون العرب مثل إبن ‏كثير والطبري وإبن خلدون في السنة السابعة هجرية، أي بعد أربعة عشر ‏عاما من الحدث الأول الذي يقال عنه في العربية: في بضع وعشر سنين، ‏ولا يقال عنه في اللغة العربية: في بضع سنين أبدا. ‏الآن إذا إنتبهنا أن ذلك الحدث كان هو الحدث الثاني الذي قال عنه سبحانه: ‏‏(وهم من بعد غلبهم) أي من بعد أن تغلب كل واحدة منهما الأخرى، عندها ‏يبدأ العد التنازلي لعبارة: ( في بضع سنين ) التي تبين الأرقام فعلا أن ‏تاريخ إنتصار المؤمنين على الروم في معركة اليرموك الفاصلة كان: ‏‏628+ 8= 636 م. ‏الموافقة بحسب التقويم الهجري: 7+ 8 = 15 هجرية.‏
علمنا أن وتاريخ إنتصار المؤمنين على الفرس في معركة القادسية كان في: ‏‏628+9=637م. ‏الموافقة بحسب التقويم الهجري: 7+ 9 = 16 هجرية. ‏ثم نعود لنعلم من تعقيبه سبحانه على فرح المؤمنين بنصرهم على الروم ‏والفرس معا في بضع سنين عندما قال: ‏‏( ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم*). ‏ثم نعلم من تأكيده الجديد بوعده الكبير الصادر عن رب العزة والنصر: ‏‏( وعد الله، لايخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لايعلمون*) ‏نلاحظ هنا أن الله تعالى قد أكد في نهاية تلك الآيات على حقيقة كبرى نسيها ‏المسلمون، الذين لو كانوا يؤمنون بكتاب الله وحده من دون أن يشركوا به ‏مصادر أخرى مع القرآن لكشف الله تعالى عن بصيرتهم، لكنهم مع الأسف ‏لأنهم لم يفعلوا ذلك من بعد الراشدين، فهم لا يزالون ضمن مجـمــوعة ‏أكثرالناس من الذين لا يعلمون ولا يبصرون ما يقرأونه في القرآن العظيم.‏
فالذين إستحبوا ما ظنوه أنه كان فعلا من حديث الرسول وفضلوه على ‏حديث الله الذي يقول: ( ومن أصدق من الله حديثا ) 87-4. ‏يكونون بالفعل من الذين إتبعوا هواهم، ومن الذين قال عنهم سبحانه أنه قد ‏أضلهم مع أنهم كانوا من الذين يعلمون: ‏‏( أفرأيت من إتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه ‏وجعل على بصره غشاوة ، فمن يهديه من بعد الله؟ أفلا تـذكــرون؟*) ‏‏23-45. ‏الآن إذا عدنا إلى موضوعنا لنتساءل من خلال آيات القرآن: ‏ماذا كان يعلم المسلمين وعن ماذا كانوا غافلين؟ ‏نستطيع القول باختصار أنهم كانوا، كما تشهد الآية الأخيرة من آيات سورة ‏الروم تلك: ‏‏( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون*) ‏وإذا بحثنا عن السبب نكتشف: ‏لأنهم كانوا ولا زالوا عن آيات الله التي في القرآن العظيم غافلين. ‏تلك لعمري هي الطامة الكبرى، إذ أن المسلمون لا يلاحظون حتى الآن أنهم ‏من الغافلين.‏
وكما لا يلاحظون أيضا أنهم قد هجروا تطبيق القرآن بعد أن إستبدله بن أبي ‏سفيان بداية بمؤازرة من أبي هريرة الذي نال جائزة خيانته ليعينه معاوية ‏حاكما لمدينة الرسول رغم وجود من هو أصلح منه بين الأنصار ‏والمهاجرين من صحابة الرسول الكريم الذين كانوا أحياء عندما أصبح أبا ‏هريرة أميرا على مدينة الرسول المنورة.‏
إلى هنا نكون قد طابقنا الأحداث الثلاثة مع تواريخها الحقيقية على تلك ‏الآيات.‏
أما إن تساءلت، كيف استطعت وحدك من بين المسلمين أن ترى هذه النبوءة ‏العظيمة في القرآن؟ ‏أقول: أولا هذا من فضل الله تعالى علي لأني لا أشرك بكتاب الله تعالى ‏كتابا آخر لفهم دين الله ورسالته السماوية، علما أني لم أستبعد السيرة النبوية ‏التي ساعدتني، فقد كنت على يقين منذ البداية، من وعد الرسول الكريم ‏لسراقة بسواري كسرى، كما كنت على يقين مقابل ذلك، أن الرسول الكريم ‏كان لا يعلم الغيب وحده.‏
بالتالى كنت على يقين يقابل يقيني بآيات الله تعالى أن نبوءة الله تعالى لا بد ‏أن تكون موجودة في آيات القرآن الكريم، فصممت على البحث عنها مع ‏أدلتها التاريخية حتى وجدتها بإذنه سبحانه.‏
كنت بداية وما زلت مؤمنا على أننا إذا قرأنا أيات الله تعالى التي في القرآن ‏قراءة تفكر وتدبر لها دون أن نعتمد على أحد من دون الله تعالى، لأدركنا ‏عندها المعاني السماوية الصحيحة، وعلمنا أنه وحده القادر على إلهامنا ‏بالصواب. ‏كما أدركت بعدها كيف أدرك الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى ‏عنه، أن وعد الله للمؤمنين بالنصر قد تحقق ووكيف شارك بنفسه في ‏لحظات الفرح مع المؤمنين، وذلك عندما وصله بعد النصر الصندوق ‏المحتوي على كنوز كسرى الذي حمله له جنوده إلى يثرب، فرأى بأم عينه ‏كيف تحقق وعد الله بالنصر وتذكر وعد رسوله الكريم لسراقة، عندما رأى ‏سواري كسرى فصاح مبتهجا:‏
أين سراقة؟ وعندما جاءه قال له بفرح يغمره الإيمان: ‏هذا ما وعدك بهما رسول الله يا سراقة. ‏وأنا قلت عندها: الحمد لله تعالى والشكر له دائما، فهو سبحانه وحده عالم ‏الغيب والشهادة لا إله إلا هو ولا شريك له من أحد في ذلك أبدا.‏
أما إن تساءلنا: هل كان ذلك الوعد في القرآن من أعظم الوعود والتنبؤات؟ ‏نقول: نعم بلا شك في ذلك، وكما كان من أكبر معجزات الله تعالى في ‏تاريخ الرسالات، مع أن في القرآن تنبؤات عديدة أخرى، إذ يمكن اعتبار ‏كل وعود الله تعالى في القرآن سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة من ‏التنبؤات الحقيقية التي لايخلفها سبحانه أبدا. ‏

اجمالي القراءات 10840