المحكم والآيات المحكمات في القرآن

أحمد خلف في السبت ٠٩ - فبراير - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


‏ أهمية فهم موضوع الترتيل بالنسبة للقرآن ‏
أشرت في كتبي السابقة على أن الدكتور محمد شحرور، كان هو السباق ‏الأول الذي شرح موضوع الترتيل القرآني بصورة مغايرة لما أخذناه عن ‏السلف في فهم ذلك المصطلح. ‏بالتالي يمكن شرح موضوع الترتيل باختصار لكل راغب وباحث يريد ‏التعرف على مدلول أي مصطلح آخر في القرآن، كما فعلت مثلا في كتاب ‏إنذار من السماء مثلا في أربعين مصطلح بدأت بها في الفقرة 39 : ما ‏معنى بإذن الله. وانتهيت بالفقرة 78: ما معنى سبح لله. ‏وكل ما فعلته هو أني استخرجت من كتاب فهرس كلمات القرآن الكريم، ‏للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، كل الآيات القرآنية التي ورد فيها عبارة : ‏بإذن الله التي عرفت بذاتها على مدلول هذا الإصطلاح، وكذلك فعلت بكل ‏المصطلحات الأخرى فوجدت أن هذا الأسلوب المبتكر هو أفضل بكثير من ‏اللجوء إلى كتب القواميس العربية التي استحدثت للغة العربية الفصحى ‏الجامعة لكل الألسنة العربية، بينما القرآن قد نزل بلسان قريش العربيه، ‏وهو كما نعلم لسان واحد منها، له خصوصيته اللفظية، وامتيازه كباقي ‏الألسنة الأخرى، بعدم وجود ترادف للكلمات فيها، بحيث تعطي نفس ‏المعنى، كما نجد مثلا وجود متردفات مختلفة وكثيرة للأ سد مثلا: مثل ‏السبع والليث والهزبر، أو للسيف مثل: الحسام والمهند والبتار وغيرها ‏لدرجة أن الشاعر المعري، رحمه الله، الذي كان قد ذهب إلى الخليفة ‏العباسي في بغداد ليحظى عنده مثل غيره من الشعراء، فلم يجد من يسمح ‏له بالدخول عليه فمر به أحد الشعراء المعروفين، فقال بعد أن دخل على ‏الخليفة: من هذا الكلب الأعمى الذي على بابك أيها السلطان. ‏فرد عليه المعري بصوت مسموع قائلا: الكلب من لا يعرف ثمانين إسما ‏للكلب ليدله على سعة اضطلاعه على ألسنة العرب. ‏بالتالي فموضوع فهم عبارة الترتيل على هذا الأسلوب من الضرورات ‏الأولى لفهم الآيات القرآنية من ذات القرآن بدون الحاجة لكتب التفاسير ‏القديمة أو لكتب القواميس العربية. ‏




‏6- المحكم والمتشابه في القرآن
‎ ‎
كي يستطيع القارئ الكريم التماشي مع أفكار هذا الكتاب، لابد من‎ ‎التسريع ‏في بيان موضوع المحكم والمتشابه كما استنبطته مباشرة من القرآن الكريم،‎ ‎مبتدءا بالمحكم منها‎:‎
أ- ماهي السورة المحكمة؟ وماهي الآيات‏‎ ‎المحكمات؟ ‏مع شرح مختصر لموضوعي النسخ والإ نساء.‏
من حق القارئ الكريم عندما يسمع عبارة: الآيات المحكمات، أن‎ ‎يتساءل، ‏كيف يمكننا التعرف على تلك الآيات في القرآن؟‎ ‎
وما علاقة ذلك بعبارة: الكتاب والحكمة التي وردت في الآية‎ ‎الكريمة التي ‏تقول‎: ‎‏ ‏‏(‏‎ ‎ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما‎ ‎يضلون ‏إلا أنفسهم، وما يضرونك من شيء، وأنزل الله عليك الكتاب‎ ‎والحكمة ‏وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيما * ) 113-4‏‎.‎‏ ‏القاعدة التي سألتزم بها إنشاء الله، للإ جابة على التساؤلات المتعلقة‎ ‎بالقرآن ‏أو التقرير عن استنتاجات تتعلق بالدين تقوم على قاعدة أن تكون الأجوبة ‏من‎ ‎ذات القرآن، وإلا كانت حسب رأيي الشخصي التي أعتبره خاليا من أي ‏قيمة حقيقية أو‎ ‎علمية، وهذا في اعتقادي هو السبب الذي جعل نتائج بحوث ‏الآباء عن حقائق القرآن تأتي‎ ‎غالبا مناقضة لما نصت عليه آيات ذلك الكتاب ‏المبين بذاته دون الحاجة للإستبانة‎ ‎بكتب الأولين التي شهد الله تعالى في ‏آيات القرآن على أن يد التبديل والتحريف قد‎ ‎لعبت بها‎.‎‏ ‏‏(‏‎ ‎فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم *) 59-2‏‎.‎‏ ‏لذا، لانخطئ إذا قلنا وقد اطمأنت قلوبنا إلى حقيقة أن القرآن‎ ‎هو أسهل كتب ‏الأرض فهما وحفظا إن كان المؤمن الباحث يتقن اللغة العربية، لكونه‎ ‎الكتاب الوحيد الحاوي على كل الإجابات الصحيحة عن كل تساؤلات المسلم ‏في دينه،‎ ‎شريطة أن يعلم الذي يتعامل مع كتاب الله تعالى، أسلوب استنباط ‏الأجوبة من ذات‎ ‎القرآن المبين كما سنرى ذلك في موضوع الإستنباط قريبا ‏إنشاء الله‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين‎ ‎يستنبطونه ‏منهم،) 83-4‏‎.‎‏ ‏من سياق هذه الآية، نستطيع أن نعلم مثلا، أن ذكر أولي الأمر‎ ‎كان من باب ‏المرجعية القيادية فقط لأن على هؤلاء أن يردوها إلى المرجعية‏‎ ‎الفكرية ‏التي يمكن أن تتألف من مجموعة من المفكرين المشهود لهم بالتفوق الفكري‎ ‎خلال دراستهم الثانوية والجامعية، ومن الذين يعلمون بالقرآن أكثر‎ ‎من ‏غيرهم ليكونوا‎ ‎الأقدر على إستنباط الأحكام مباشرة منه. ‏لكن، مع الأسف، أغلب علماء الدين من تلك العينة قد استطاع‎ ‎الحكام من ‏جعلهم أجراء له علانية، بأن جعل رزقهم مرتبطا به وبما يصلهم من مال‎ ‎خزينته‎.‎‏ ‏الله تعالى لم يغفل عن ذكر تلك الحقيقة منبها المسلمين في‎ ‎القرآن‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون*) 21-36‏‎.‎‏ ‏فالعالم أجره على الله، لذا يشهد القرآن على أن كل الأنبياء‎ ‎والمرسلين قالوا ‏للناس بداية‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني‎ ‎أفلا تعقلون*) ‏‏51-11‏‎.‎‏ ‏‏(‏‎ ‎وما أسألكم عليه من أجر إن‎ ‎أجري إلا على رب العالمين*) 109، ‏‏127، 145، 164، 180 - 26‏‎.‎‏ ‏من كل تلك الآيات نعلم أن الدين يجب أن لا يتحول إلى حرفة كي‎ ‎لا ‏يضطر العالم المفكر أن يقول كما يريد ويشاء ولي نعمته من الناس، فأجر ‏العالم‎ ‎يجب أن يكون دائما على رب العالمين وحده لا شريك له في هذا ‏لباب أبدا‎.‎‏ ‏لكن إن حدث المحظور واتبع الناس محترفي الدين من أجراء‎ ‎السلطان، ‏عندها يكون الناس قد اتبعوا شياطين تعهدوا لأولياء الأمورعلى أن لا‎ ‎يقولوا ‏إلا كما يشاء أولياؤهم‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎ولولا فضل الله عليكم ورحمته‎ ‎لاتبعتم الشيطان إلا قليلا* ) 83-4‏‎. ‎‏ ‏لذا وقبل بدء بحث المحكم والمتشابه في كتب أهل الكتاب التي‎ ‎أعلمنا سبحانه ‏أنهم قد حرفوها وبدلوا فيها تبديلا، أو البحث في كتب كتبت‎ ‎بعد نزول ‏القرآن لم يشهد لها الرحمن مثل كتب الحديث التي استنكرها الله تعالى، كما‏‎ ‎أمر الرسول الكريم ونهى عن كتابتها كي لا يكتب لها البقاء إلى جانب كتاب ‏الله‎ ‎العظيم من بعد عصره‎. ‎‏ ‏كما علينا قبل البحث في كتب التفسير المستندة إليها، علينا‎ ‎أن نبحث عن ‏المحكم والمتشابه في ذات القرآن‏‎ ‎الكريم وحده‎. ‎‏ ‏لنفتح إذا على الآية التي تتحدث عن المحكم والمتشابه بشكل‎ ‎مباشر كي لا ‏نضل سبيل البحث الذي نحن بصدده، لنقرأ فيها ما يلي‎:‎‏ ‏‏(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم‎ ‎الكتاب وأخر ‏متشابهات)7-3‏‎.‎‏ ‏من يقرأ القرآن قراءة باحث يطلب المعرفة سيلاحظ أن الله تعالى‎ ‎قد أشار ‏في كتابه الكريم أنه سينزل سورة محكمة، في سورة محمد، التي تقول‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎ويقول الذين آمنوا: لولا نزلت سورة! فإذا‏‎ ‎أنزلت سورة محكمة، وذكر ‏فيها القتال، رأيت الذين‎ ‎في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه ‏من الموت،‎ ‎فأولى لهم *) 20-47‏‎.‎‏ ‏لكي لا يضل الله تعالى أحدا من المؤمنين عن تلك السورة المحكمة‎ ‎الوحيدة ‏في القرآن من بين مائة وأربعة عشر سورة، لا بد أن سبحانه قد جعل لتلك‎ ‎السورة علامة تميزها عن باقي سور القرآن كي لا يختلط الأمر عن باحث ‏عن الحقيقة‎ ‎فاستثناها سبحانه وتعالى من البسملة الموجودة أمام باقي السور ‏الأخرى عن قصد‎ ‎وتدبير؟ ‏نعم، وتلك السورة كانت: سورة‎ ‎التوبة، السورة التاسعة في القرآن‎.‎‏ ‏من قراءتنا لتلك السورة الفريدة ومن أسلوب خطاب الله الموجه‎ ‎بالذات ‏لرسوله: بقوله تعالى: يا أيها الرسول أو يا أيها النبي، أو يا أيها الذين‎ ‎أمنوا، ‏نستطيع التعرف على شكل ومضمون وموضوع آيات تلك السورة المحكمة؟ ‏دعنا نقرأ بعض المقاطع من تلك السورة‎: ‎‏ ‏‏(‏‎ ‎براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين‎*.....* ‎وأذان من ‏الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين‎ ‎ورسوله.....* إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا، ولم‎ ‎يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم. إن الله‎ ‎يحب المتقين* ‏فإذا إنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث‎ ‎وجدتموهم وخذوهم ‏واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا‎ ‎الصلاة وآتوا الزكاة ‏‏{لاحظ لم يطلب منهم سبحانه الإيمان‎ ‎لعلمه أن ذلك لايمكن تحصيله بالقوة} ‏فخلوا سبيلهم،‎ ‎إن الله غفور رحيم*) 1-5-9‏‎. ‎‏ ‏أو قوله سبحانه في موضع آخر من نفس السورة‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ‎ ‎أعجبتكم كثرتكم فلم تغن ‏عنكم شيئا وضاقت‎ ‎عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين* ثم أنزل‎ ‎الله ‏سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين‎ ‎كفروا وذلك جزاء الكافرين*) 25-26-9‏‎.‎‏ ‏أو قوله سبحانه في موضع آخر من نفس السورة‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم‎ ‎الأرض بما رحبت ‏وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا** أن لا ملجأ من‎ ‎الله إلا إليه ثم تاب عليهم ‏ليتوبوا إن الله هو التواب‎ ‎الرحيم*) 118-9. ‏للحاشية**:أحيانا تأتي الكلمات القرآنيه حاملة عكس المعنى المتعارف‎ ‎عليه مثل كلمة ظنوا التي أتت في الآية ‏وهي تفيد معنى اليقين، لذا فإن سياق النص هو‎ ‎الذي يحدد المعنى في القرآن وليست الكلمة بحد ذاتها‎.‎‏ ‏كما أن أغلب الخطاب المباشر من الله سبحانه وتعالى للنبي‎ ‎الكريم أو ‏للمومنين تكون من الآيات المحكمات كما في الآيات التالية‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن‎ ‎الله كان عليما ‏حكيما*) 1-33‏‎.‎‏ ‏‏(‏‎ ‎يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن‎ ‎الحياة الدنيا وزينتها فتعالين ‏أمتعكن‎ ‎وأسرحكن سراحا جميلا *) 28-33‏‎.‎‏ ‏‏(‏‎ ‎يا نساء النبي من يأت منكن‎ ‎بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين‎ ‎وكان ذلك على الله يسيرا*) 30-33‏‎.‎‏ ‏نلاحظ مبدئيا في أسلوب تلك الآيات أن أسلوبها هو أسلوب الخطاب‎ ‎المباشر، وأنها كلها أوامر وتعليمات كانت تنتظر تنفيذا مباشرا من الرسول ‏الكريم‎ ‎والمؤمنين الذين كانوا معه‎.‎‏ ‏كما نلاحظ أيضا أنها أتت إما حاملة لنقد مباشر أو أتت ومعها‎ ‎تعليمات ‏إضافية لتصحيح موقف، سماها السلف، أسباب النزول، كما في قوله تعالى ‏في‎ ‎الآية التي تبدأ بقوله الكريم: ‏‏(‏‎ ‎لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم‏‎ ‎فلم تغن ‏عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين*) 25-9. ‏من أمثال تلك الآيات تبدأ أمور الآيات المحكمات تتوضح أكثر‎ ‎فأكثر، ليعلم ‏المسلم الباحث عن حقيقة الآيات المحكمات أنها قد أتت بالفعل لظروف‎ ‎زمانية ومكانية محددة، ليصل إلى الإستنتاج ( بلغة القرآن الإستنباط) التالي‎:‎
‎ ‎الآيات المحكمات في القرآن هي الآيات التي تشترك بصفاتها على‎ ‎أنها ‏أتت بصيغة أوامر وتعليمات مباشرة للرسول الكريم ولأصحابه المؤمنين ‏كانت تتطلب‎ ‎منهم اتخاذ تدابير مباشرة كان عليهم القيام بها دون تأخير، ‏أو أتت تصف وتذكر‎ ‎مواقف بعض المؤمنين أو تصف مواقف من كان ‏حولهم من المشركين الذين كانوا‎ ‎قد أعلنوا عداءهم لرسالة التوحيد أو ‏تذكر بمواقف اتخذها الكافرون من الذين‎ ‎كانوا يتربصون بالمؤمنين الدوائر ‏في كل حين، أو أتت تصف مواقف بعض من أعلن إسلامه‎ ‎لمن كان بينهم ‏من المنافقين ممن كانوا يتسترون على خبايا نفوسهم المريضة‎ ‎التي ‏كشفتها أيام المحن والشدة‎.‎‏ ‏بالتالي، يمكننا القول باختصار ونحن مطمئنين: أن الآيات‎ ‎المحكمات هي كل ‏تلك الآيات القرآنية التي نزلت حسب مناسبات وظروف تاريخية مختلفة‎ ‎تماما عن الظروف التي أتت بعدها، وهي كلها تشترك بوجود مناسبة ‏محددة كانت تعد سببا‎ ‎من أسباب نزولها‎.‎
لذا نلاحظ كل آيات سورة التوبة آيات محكمات لعصر الرسول وهي أتت ‏إما أوامر واجبة‎ ‎التنفيذ إبتداءا من لحظة نزولها، من الرسول نفسه شخصيا ‏مع من كانوا معه، أو كانت نقد وملاحظات منه‏‎ ‎سبحانه للرسول والمؤمنين ‏الذين كانوا معه يوم غزوة حنين كان عليهم تفاديها في المستقبل‎.‎‏ ‏كما أشار سبحانه فيها إلى وجوب طاعة رسوله ومحبته، مقترنة مع‎ ‎طاعته ‏سبحانه ومحبته، لعلمه أن علاقة المؤمنين في عصر الرسول مرتبطة ‏مباشرة برسوله‎ ‎شخصيا بينما هي في حقيقتها كانت طاعة لأوامر الله تعالى ‏من أجل معالجة المواقف والمشاكل‎ ‎التي كانت تواجه مجتمع المؤمنين الذين ‏كانوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام‎.‎
أحب أن أشير هنا أني وجدت في أواخر نفس السورة دليلين آخرين‎ ‎كمؤشرين على أن السورة المحكمة الوحيدة في القرآن بكامل آياتها التي ‏ورد الإخبار‎ ‎عنها في الآية رقم: 20، من سورة محمد التي قرأناها قبل ‏قليل، هي سورة التوبة‎ ‎بالذات، بدليل الآية الأولى منها: ( وإذا ما أنزلت ‏سورة فمنهم من يقول أيكم‎ ‎زادته هذه إيمانا وهم يستبشرون*) 124-9‏‎.‎‏ ‏أما الدليل الآخر فقد كانت في الآية التالية من نفس السورة تقول‏‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم‎ ‎إلى بعض هل يراكم من أحد ثم ‏انصرفوا صرف الله‎ ‎قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون*) 127-9‏‎. ‎‏ ‏هذا التعبير: أنزلت سورة لم ترد في كل‎ ‎القرآن إلا في سورة التوبة المشار ‏إليها وفي سورة محمد التي أشارت إليها، مع علامة‎ ‎مصاحبة لها وهي أن ‏السورة المحكمة قد ذكر فيها سبحانه القتال‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎فإذا أنزلت سورة محكمة، وذكر فيها‎ ‎القتال) 20-47‏‎.‎‏ ‏صحيح أن أغلب المسلمين لم يلتفتوا لمثل تلك اللأمور في القرآن‎ ‎من قبل، ‏لكني بدأت بعون الله تعالى أرى أن سورة التوبة هي السورة الوحيدة التي‎ ‎تشهد آياتها على أنها السورة المحكمة الوحيدة بكامل آياتها، كما ذكر فيها ‏القتل‎ ‎والقتال كثيرا إذا ما قورنت بباقي سور القرآن الكريم، كما أنها السورة ‏الوحيدة التي‎ ‎ما زال نصها يخاطب الذين كانوا أحياء بالغين ومعاصرين ‏للرسول الكريم من الذين‎ ‎كانوا متواجدين في منطقة الحجاز العربية حينها‎.‎‏ ‏إذ أن صيغة آياتها ما زالت تتضمن أوامر مباشرة كانت‎ ‎تنتظر من المؤمنين ‏تنفيذها مع تعليمات مفصلة وتنبيهات لأخطاء سبق أن وقع فيها‎ ‎المؤمنون، ‏مع التهديد والوعيد للمنافقين أوالمشركين أوالكافرين‎.‎‏ ‏أما باقي آيات السورة، فقد وردت إما على شكل تعليمات قتال أو‎ ‎كانت ‏تعليمات لإنهاء معاهدة كان الرسول الكريم قد عقدها مع قادة المشركين بعد ‏أن‎ ‎تكشف له نقضها من المشركين أولا، أو كانت مبينة ومحددة لفترة الهدنة ‏الزمنية التي‎ ‎منحها سبحانه للمشركين، والتي حددت بأربعة أشهر تبدأ ‏مباشرة بعد إعلانها في يوم‎ ‎حج الناس في مكة من شهر الحج‎.‎‏ ‏أو نجدها قد أتت على شكل تعليمات وأوامر للتحرك أو للتصرف‎ ‎لمعالجة ‏موقف هام تعرض له المؤمنين من المهاجرين والأنصار خلال فترة ‏إستمرار نزول‎ ‎الوحي من حياة الرسول الكريم والتي كانت تنفذ بشكل ‏حرفي تقريبا كما أمر به سبحانه‎ ‎حسب كل موقف بذاته، كقوله تعالى مثلا ‏في الآيات المحكمات من سورة النساء قياسا‎ ‎على آيات سورة التوبة، التي ‏قلنا بأن كل آياتها أتت لتكون من المحكمات‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎فما لكم في المنافقين، فئتين، والله‎ ‎أركسهم بما كسبوا، أتريدون أن تهدوا ‏من أضل الله، ومن يضلل الله فلن‎ ‎تجد له سبيلا* ودوا لو تكفرون كما ‏كفروا، فتكونون سواء، فلا‎ ‎تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل ‏الله، فإن‎ ‎تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، ولا تتخذوا منهم وليا ‏ولا نصيرا*)88-89-4. ‏أما إن ظن المسلمون أن تلك الآية دائمة الفاعلية إلى يوم الدين‎ ‎تكون مصيبة ‏على المسلمين قبل أن تكون مصيبة على غيرهم، كما أنها تعطي صورة ‏معكوسة‎ ‎عن دين الله تعالى الذي يدعو الناس إلى الإحسان وإلى السلم ‏والسلام للعالمين‎.‎‏ ‏الآن بعد أن تعرفنا من سورة التوبة المحكمة كلها على نموذج‎ ‎الآية المحكمة ‏نستطيع بعدها التعرف على باقي الآيات المحكمات بسهولة ويسر في باقي‎ ‎سور القرآن الأخرى، كما نكون مطمئنين أكثر للنتيجة بعد تعرفنا على ‏نموذج الآيات‎ ‎المحكمات‎.‎‏ ‏كما نستطيع الآن أن نستنتج قاعدة تنص على أن النص القرآني‎ ‎المحكم، هو ‏النص الذي كان يخاطب فئة من الناس كانت تعيش في زمن نشر رسالة ‏الوحي في‎ ‎مكة وما حولها، وكانت لهم علاقات مع المؤمنين الأوائل في ‏منطقة الجزيرة العربية‎.‎‏ ‏تلك الآيات محددة بالزمان والمكان، كما ليس لها صفة المطلق‎ ‎تطبيقيا لكل ‏الأماكن والعصور، بل قد أوقف سبحانه حكمها التطبيقي بعصر الرسالة من‎ ‎حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وحكمها اليوم أن تبقى في القرآن كآيات ‏منسية‎ ‎لافعالية لها إلا للإتعاظ وللعبرة التاريخية؟ ‏من خلال الإستنتاج السابق يمكن للقارئ الكريم أن يرى ملامح‎ ‎الصورة ‏التي أحاول جاهدا أن أرسمها له، كي يتمكن منذ البداية بالشك في معنى ‏السورة‎ ‎المحكمة أوالآية المحكمة التي رسخها فقهاؤنا في عقولنا منذ كنا ‏على مقاعد الدراسة‎. ‎‏ ‏إن نجح القارئ فيما أسعى إليه، سيتمكن عندها من معرفة سبب‎ ‎الأمر بمحبة ‏رسوله الكريم من المؤمنين مع محبته سبحانه في تلك السورة المحكمة‎ ‎وحدها بكامل آياتها؟ ‏ومعرفته للسبب سيحرك تفكيره ليقول: حتما، ان الله تعالى قد فعل‎ ‎ذلك حتى ‏لا يغفل عنها أحد من المؤمنين بأنها آية محكمة، وأنها كانت خاصة فقط ‏للذين‎ ‎عاصروا الرسول من المؤمنين؟ ‏كما سيصل إلى الإستنتاج على أن حب الحي الحاضر جائز لكن حب‎ ‎الميت ‏الذي غاب جسده مع تعظيمه محرم لعلمه تعالى أن مثل ذلك الحب والتعظيم ‏للميت‎ ‎الغائب من خلق الله سيتحول مع الزمن إلى عشق وتعظيم يصل به ‏إلى مرحلة التأليه كما‏‎ ‎حصل للذين من قبلنا من الذين ألهوا بوذا، أو كما ‏حصل لأهل الكتاب من النصارى، من‎ ‎الذين أحبوا المسيح الغائب حتى ‏عشقوه ثم ألهوه ليقولوا بعدها: نحن أتباع المسيح،‎ ‎دون أن يقولوا نحن أتباع ‏الله، ثم انقسموا إلى فريقين‎: ‎‏ ‏فريق قال: أن الله هوالمسيح إبن مريم‎.‎‏ ‏وفريق آخر قال: أن المسيح هو إبن‎ ‎الله، ثم جعلوه أحد الأقانيم الثلاثة التي ‏يتشكل منها الله؟ ‏بالتالي سيدرك المتفكر في آيات الله تلك، أن حب الغائب إذا‎ ‎كبر وعظم ‏تحول إلى عشق ثم إلى تأليه مع مرور‎ ‎الزمن كما حصل للذين من قبلنا ‏فوقعوا فيه، دون أن يعلموا‎ ‎حقيقة كفرهم وإشراكهم بالله العلي العظيم إشراكا‎ ‎خفيا، بمعنى أن إشراكهم لم يكن عن قصد وإعلان بل حصل كنتيجة للحب ‏والتعظيم‎ ‎الفائقين‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن‎ ‎مريم....*) 72-5‏‎.‎‏ ‏‏(‏‎ ‎لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وما‎ ‎من إله إلا إله واحد وإن لم ‏ينتهوا عما يقولون، ليمسن الذين‏‎ ‎كفروا منهم عذاب أليم *) 73-5‏‎.‎‏ ‏لم أضرب ذلك المثل بالنصارى إلا من أجل أن يرى المسلم حقيقة‎ ‎كفره ‏وإشراكه التي لايراها المؤمن عادة إلا في غيره من العباد‎.‎‏ ‏كثير من مسلمي السنة اليوم هم في حالة عشق وتأليه للنبي الرسول‏‎ ‎محمد ‏عليه الصلاة والسلام ظنا منه أنه هو الشفيع المغيث وحديثه هو المنجي يوم‎ ‎القيامة‎.‎‏ ‏قد يظن القارئ أني أبالغ، ألا يقول المسلمون اليوم عن دينهم: أنه‎ ‎دين ‏محمد؟ ألا يقولون عن أنفسهم: أنهم أتباع محمد؟ ألا يقولون أن أحسن الهدي‎ ‎هدي محمد؟ وأنهم يتبعون سنة محمد؟ ألا يقولون عنه أنه‎ ‎سيد الخلق وسيد ‏الأنبياء والمرسلين؟ ألا يترقبون‎ ‎يوم القيامة شفاعة محمد؟ وإذا ذكر إسم الله ‏اليوم في المساجد ألم‎ ‎يتوقفوا عن تعظيمه؟ أما إذا ذكرإسم الرسول، ألا ترى ‏أن كل من في المسجد‎ ‎قد رددوا معا وبصوت مسموع: صلوات الله وسلامه ‏عليك يامحمد، يا‎ ‎حبيب الله، ويا أعظم خلق الله، كما قد تجد بينهم من ‏يتحمس‎ ‎ليقول‎: ‎‏ ‏إن الله تعالى قد خلق الكون من أجل محمد، ولن‏‎ ‎يسمح سبحانه لأحد من ‏خلقه أن يشفع لخلقه إلا محمد، وكما أن الملائكة المكلفين‎ ‎على حراسة أبواب ‏الجنة مأمورين من الله تعالى أن لا يفتحوا أبواب الجنة إلا لمحمد‎.‎‏ ‏ألا نقرأ في كتب الحديث المنسوبة لكتب الصحاح قوله عليه الصلاة‎ ‎والسلام، إن صح‏‎:‎‏ ‏‎,, ‎لا تعظموني كما عظمت النصارى المسيح بن‎ ‎مريم ،، ‏أردت بهذا التذكير، فقط، أن يعلم القارئ الكريم أن تعظيم‎ ‎الرسول والأمر ‏بمحبته والإعلاء من مقامه وشأنه على لسان علماء السلطان لم يكن حبا‎ ‎بالرسول الكريم بل كانت لتسهيل تمرير الأحاديث الجديدة التي جهزت أصلا ‏لتبديل‎ ‎القرآن، دون أن يشعر أحد منهم على خطة الشيطان الإنسي الذي فكر ‏ومكر مكرا كبارا‎ ‎ليبدع مشروع دين جديد على مقاس السلطان إرضاء ‏لشهواته وتحقيقا لأهوائه‎.‎‏ ‏كما يمكننا أن نستنتج عقلا فوائد ذلك التبديل لأتباع السلطان‎ ‎من علماء الدين ‏الذين فتحوا باب تعظيم الحكام والسلاطين مع الأمر بمحبتهم بعد‏‎ ‎الإعلاء ‏من شأنهم والرفع من مقامهم، ليصلهم نصيبهم من التعظيم، ولولا ذلك ‏التعظيم‎ ‎المقصود منهم للرسول لن يعود لهم سند يدعمون به إدعائهم على ‏أنهم ورثة الأنبياء‎ ‎التي لا ذكر لها أصلا في القرآن الكريم‎.‎‏ ‏فريق الحكام ومن معهم من علماء الدين المعينين من قبلهم من‎ ‎الذين ‏يصرحون علنا أنهم ورثة الأنبياء، لا يسألون عن جنة الآخرة بدليل أحوالهم‎ ‎المتناقضة مع أحوال شعوبهم المنسية‎.‎‏ ‏من مجمل حديثنا السابق ألا يمكن أن تستنتج على أن المحكم في‎ ‎القرآن ‏عني ما أحكم الله تعالى زمانه ومكانه، بحيث يقتصر حكمها على عصر ‏الرسول‎ ‎الذي تميز بحكم الله المباشر للفئة المؤمنة عن طريق الوحي ‏المستمر بالنزول على‎ ‎رسوله حسب المواقف المتغيرة والظروف المتبدلة ‏خلال فترة محددة بفترة الرسالة من‎ ‎حياة الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ‏ألم تتوضح الصورة بحيث يمكن للقارئ الآن أن يرى بأن ذلك الوحي‎ ‎المحكم الذي بدأ القدرة على تمييزه، لم يعد ملزما للمؤمنين أو للمسلمين ‏الذين أتوا‎ ‎بعد عصر الرسول الكريم؟‎ ‎‏ ‏ألا يمكن أن يستنتج من هذا، أن تلك الفترة الزمنية الخاصة التي‎ ‎كان الأمر ‏والنهي فيها، بيد الله تعالى وحده عن طريق الوحي دون أن يشاركه في‎ ‎الأمر أحد، أن الحكم على أرض المؤمنين يومها كان بيد الله تعالى وحده؟‎ ‎إن كان جوابه بالإيجاب، هذا يعني أنه قد بدأ يدرك لماذا قال‎ ‎تعالى في الآية ‏المحكمة‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎من يطع الرسول‎ ‎فقد أطاع الله ) 80-4‏‎.‎‏ ‏إذ أن أوامر الرسول للمؤمنين كانت في الأصل مبنية على أوامر‎ ‎الوحي ‏التي كانت تتنزل عليه تباعا حسب تغير المواقف والظروف المستجدة التي ‏كانت‎ ‎تستدعي أوامر جديدة منه‎.‎‏ ‏ولما كانت الآيات المحكمات هي التي بنت القاعدة القوية لدين‎ ‎الله ورسالته ‏الأخيرة التي وجهها سبحانه، لأول مرة للعالمين، بشرع حدودي مختلف ‏عن‎ ‎باقي الرسالات السابقة، سمى سبحانه كل الآيات المحكمات باسم مميز ‏لا يمكن أن‎ ‎ينساه قارئ القرآن أبدا‎: ‎‏ ‏أم الكتاب، كما لا يسهل نسيان الآية التي حملت تلك‎ ‎العبارة وذلك الإسم‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎هوالذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم‎ ‎الكتاب...*) 7-3‏‎.‎‏ ‏من كل ما تقدم إلى الآن عن الآيات المحكمات، يمكننا، بشكل‎ ‎عام، أن ‏نستنتج أن الرسل لا يرسلهم سبحانه للناس إلا بعد إنحرافهم إلى سبل‎ ‎الباطل ‏والظلم بتخطيط ودعم من شياطين الإنس من أجل إعادتهم إلى سبيل الحق ‏والعدل‎ ‎مع وعد منه سبحانه بالدعم والنصر للذين يؤمنون برسوله الذي ‏حمل إليهم رسالة النور‎ ‎الهادية إلى النعيم والمنجية من الجحيم‎.‎‏ ‏الفترة التي كان أي رسول منهم يعيشها مع المؤمنين أثناء‎ ‎استمرار وحي الله ‏تعالى عليه يمكن اعتبارها فترة حكم الله تعالى في الأرض عن طريق‎ ‎الآيات المحكمات التي كان الرسول مع الذين آمنوا يلتزمون بتنفيذها مباشرة ‏دون‎ ‎تأخير أو تأجيل، لذا مازلنا نقرأ في القرآن‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎فقد آتينا آل إبراهيم‎ ‎الكتاب والحكمة....*) 54-4‏‎.‎‏ ‏كما قال سبحانه عن عيسى عليه الصلاة والسلام‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة‎ ‎والإنجيل *) 48-3‏‎.‎‏ ‏وكذلك قال سبحانه لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام في آية‎ ‎محكمة، ‏ذوخطاب مباشر‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك، وما‎ ‎يضلون ‏إلا أنفسهم، وما يضرونك من شيء. وأنزل الله عليك الكتاب‎ ‎والحكمة، ‏وعلمك ما لم تكن تعلم. وكان فضل الله‎ ‎عليك عظيما *) 113-4. ‏الآن إن أدركنا لماذا وضع الله تعالى الآية الوحيدة التي فيها‎ ‎أمره الوحيد ‏بحب الرسول مع حب الله في سورة التوبة المحكمة بكامل آياتها،نكون قد‎ ‎بدأنا نعلم أن حب الله وحده هو الذي يجب أن يعمر قلوب المؤمنين الذين ‏أتوا من بعد‎ ‎موت رسولنا الكريم، لأن الله تعالى هو الحي القيوم الباقي الذي ‏لا يموت وعلينا‎ ‎الإستمرار على محبته وتعظيمه وحده لا شريك له‎.‎‏ ‏لقد أدرك خليفة رسول الله الأول أبو بكر الصديق رضي الله تعالى‏‎ ‎عنه تلك ‏الحقيقة عندما قال للمتشككين من أصحاب الرسول في حقيقة موته عليه ‏الصلاة‎ ‎والسلام من الذين ظنوا أنه مخلد ومستثنى من الموت‎:‎‏ ‏من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد‎ ‎الله فإن الله حي لا ‏يموت‎.‎‏ ‏عندها نكون قد بدأنا ندرك، أن أوامر الله تعالى التي أتت فيها‎ ‎طاعة الله ‏مقترنة مع طاعة رسوله، تكون كلها من الآيات المحكمات التي‎ ‎توقف فعلها ‏بعد موت رسولنا محمد عليه الصلاة‎ ‎والسلام‎.‎‏ ‏بالتالي نكون قد علمنا أن كل من يطلب من مؤمن طاعة مطلقة مع حب‎ ‎مطلق بإسم رسول أو نبي كائنا من كان، إنما يطلب منه أن يجعل لله تعالى ‏شريكا، لذا‎ ‎علينا اجتناب مثل تلك الطاعة والحب، لأن ذلك الطالب كائنا من ‏كان يطلب منا عبادته*على اعتبار أنه قد ورث النبوة بعد غيـــاب النبي ‏بوفاته. ‏‏* العبادة، تعني لغة الطاعة المطلقة للمعبود، وهي لا تجوز‎ ‎إلا لله رب العالمين‎. ‎‏ ‏بالتالي إذا قلنا: قل لي من تطع طاعة مطلقة أقل لك من تعبد، لا‎ ‎نكون قد ‏تعدينا الحقيقة‎. ‎‏ ‏هكذا، إن تابعنا هذا الأسلوب بعد أن بدأنا ندرك معنى السورة‎ ‎المحكمة، ‏ووبدأنا نميز بسهولة ويسر الآيات المحكمات، لن يصعب علينا تحديدها في‎ ‎القرآن‎.‎‏ ‏أما إن كنت ما تزال متشككا في تلك القدرة فما عليك إلا أن‎ ‎تحاول بعد ‏صلاة الفجر أن تقرأ سورة التوبة مركزا في التفكير فيما تقرأ من آياتها،‎ ‎عندها ستؤمن وحدك أن تعميم تلك السورة وآياتها على كل المسلمين مع ‏جعل كل الآيات‎ ‎المحكمات فاعلات وملزمات للمسلمين جميعا وفي كل ‏الأزمنة والأمكنة، تعتبر مصيبة‎ ‎كبرى على كل مسلم ومسلمة من الذين أتوا ‏من بعد الرسول في أي زمان أو مكان من‎ ‎الأرض، قبل أن تكون مصيبة ‏على غيرهم‎.‎‏ ‏خاصة إن اعتبرنا أمثال الآيات المحكمات التاليات ملزمات في كل‎ ‎زمان ‏ومكان‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎فإذا إنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث‎ ‎وجدتموهم وخذوهم ‏واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا‎ ‎الصلاة وآتوا ‏الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم*) 5-9‏‎. ‎‏ ‏‏(‏‎ ‎قاتلوهم يعذبهم الله‎ ‎بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور‎ ‎قوم ‏مؤمنين * ) 14-9‏‎.‎‏ ‏‏(‏‎ ‎قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما‎ ‎حرم الله ‏ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية ‏عن‎ ‎يد وهم صاغرون * ) 29-9‏‎. ‎‏ ‏تصوروا! لو خرج فينا بعض المتطرفين، من الذين آمنوا جهلا بمثل‎ ‎تلك ‏الآيات المحكمات على أنها آيات ملزمات لكل المؤمنين، ثم بدأوا ينفذونها‎ ‎على أرض الواقع معتبرين أنها أوامر دائمة كتبها الله تعالى عليهم كي ‏يطبقها المسلم‎ ‎في كل العصور، فيحكم بموجبها على الناس بالشرك أو ‏بالكفر أو بالإلحاد أو‎ ‎بالإرتداد، متخيلا‎ ‎نفسه أنه قد أصبح من جند الله ‏الموعودين بالجنة، إن قتل مشركا‎ ‎أو كافرا من الذين ما زالوا يقولون مثلا ‏أن الله ثالث ثلاثة، وأصبح له الحق بعدها‎ ‎على سبي نسائه ونهب أمواله‎. ‎
ألا يرى معي القارئ الكريم أن استمرار المسلمين في إعتبار‎ ‎أمثال تلك ‏الآيات المحكمات على أنها موجبة وآمرة بالتنفيذ. ‏وأن على كل مسلم العمل‎ ‎بموجبها في كل زمان أو مكان سيقلب دين ‏الرحمن المتصف بالرحمة والسلم والسلام،‎ ‎وبالعدل والإحسان، ليصبح دينا ‏قبيحا يسيرعلى مبادئ الظلم والعدوان، حتى ولو‎ ‎حاولنا إخفاءه تحت إسم الله ‏والرسول والإسلام والقرآن؟‎ ‎‏ ‏ألن يكون مثل هذا الفهم الخاطئ مصيبة كبرى علينا جميعا كمسلمين‎ ‎لأنها ‏ستحول نظرة العالم إلينا على أننا إرهابيون نقتل الناس ظلما من غير وجه ‏حق،‎ ‎وكما سيظنون أننا نؤمن بدين يحلل قتل الناس ظلما ويجبرهم على ‏الإيمان به وهم‎ ‎مكرهين، مع قول الله تعالى الصريح المعلن على العالمين ‏في القرآن الكريم‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎لاإكراه في الدين، قد تبين‎ ‎الرشد من الغي...*) 256-2‏‎.‎‏ ‏‏(‏‎ ‎وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن،‎ ‎ومن شاء فليكفر...*) 29-18‏‎.‎‏ ‏وحساب الجميع سيكون فقط يوم القيامة سواء كفروا، أو ألحدوا أو‎ ‎أشركوا ‏أو إرتدوا عن دينهم، وذلك الحساب هو من مسؤولية الله تعالى وحده لا ‏شريك له‎ ‎فيه أحد من خلقه، هذا إن كان مرجعنا في العلم بالدين هو القرآن ‏الكريم وحده دون‎ ‎أن نشرك به في دين الله تعالى كتابا آخر غيره أبدا‎.‎‏ ‏لكن، مع ذلك، لا بأس من أن نتساءل: ما هو السر في إمكانية‎ ‎تنفيذ الآيات ‏المحكمات في عصر الرسول الكريم مع إمتناع إمكانية تنفيذها بعد ذلك في‎ ‎باقي العصور المستقبلية؟ ‏إذا قرأنا القصة الرمزية التي في سورة الكهف عن الرجل الصالح‎ ‎الذي لا ‏يعلم إلا الله تعالى من هو؟ وهو الرجل الذي إلتقى به موسى عليه الصلاة‏‎ ‎والسلام ورافقه في رحلته الموصوفة في القرآن، حيث لم يستطع موسى ‏الصبر والسكوت عن‎ ‎أفعال الرجل الصالح وأعماله التي كان يراها بمنطقه ‏المعتمد على عقله وعلمه‎ ‎الإنساني المحدود، فحكم بأنها أنها كانت ظالمة ‏جائرة لا حق فيها، إلى أن علم بعدها‎ ‎على أن الرجل الصالح كان يتصرف ‏حسب وحي الله تعالى المباشر، الذي هو وحده العالم‎ ‎بالغيب في السموات ‏والأرض دون خلقه جميعا، فكان ذلك درسا من رب موسى لنبيه الكريم،‎ ‎ليعلم أن الرجل الصالح كان يتصرف حسب منطق الله تعالى وبوحيه، ولم ‏يكن يتصرف أبدا‎ ‎حسب منطقه الإنساني المحدود. ‏لقد رأينا خلال تلك القصة، كيف ثقب الرجل السفينة، ثم كيف قتل‎ ‎الغلام، ‏وكيف بنى بعد ذلك الجدار في القرية التي رفضت ضيافتهما، فلم يستطع ‏موسى‎ ‎عليه الصلاة والسلام حسب منطقه الإنساني الصبر على أفعاله، ‏فأخبره أنه كان يتصرف‎ ‎بحسب منطق الله تعالى العالم للغيب، فكان قلة ‏صبر موسى السبب المباشر كما تروي‎ ‎القصة على فراقهما‎.‎‏ ‏كذلك كان الحكم في حياة الرسول الكريم محمد عليه الصلاة‎ ‎والسلام الذي ‏كان يعمل ويتصرف خلال فترة إستمرار الوحي حسب أوامر الله تعالى التي‎ ‎كانت تتنزل عليه تباعا متماشية مع المواقف والظروف المتبدلة، بمنطق ‏مختلف عن منطق‎ ‎باقي العصور لكون الآيات المحكمات مبنية على رؤية ‏الله تعالى الشاملة والعالمة‎ ‎للغيب وحده، ولو لم يكن صحابة رسول الله ‏يعلمون أن أوامر الرسول كانت تصدر نتيجة‎ ‎للوحي المباشر منه سبحانه، ‏لما كان بإمكانهم أن يصبروا على منطق غريب عنهم، كما‎ ‎حصل لموسى ‏مع الرجل الصالح‎.‎‏ ‏بينما نجد أن حكم الخلفاء الراشدين من بعد الرسول كان قد عاد‎ ‎ليبنى على ‏منطق الآيات المتشابهات التي بناها الله تعالى على منطق الناس‏‎ ‎ليطبق بعد ‏حياة الرسول الكريم في الأرض بين المسلمين، علما أن الراشدين كانوا‎ ‎يعلمون تلك الحقيقة بدليل أن الرسول الكريم كان قد أوقف عمل الآيات ‏المحكمات بعد‎ ‎حجة الوداع مباشرة‎. ‎‏ ‏لكن، من حق القارئ أن يتساءل هنا وهو يقول‎: ‎‏ ‏ماذا عن طاعة أولي الأمر من بعد‎ ‎الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ‏أقول إن طاعة أولي الأمر واجبة على المؤمن طالما لم يتخط هؤلاء‎ ‎حدود ‏الله المبينة في القرآن ولم يخرجوا عن شروط بيعتهم و لم يطلبوا طاعة‎ ‎مطلقة مع حب مطلق من أحد، ولم يدخلوا في مجال تطبيق الآيات ‏المحكمات التي توقف‎ ‎حكمها بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام صاحب ‏الوحي وحده‎.‎‏ ‏أما إن تساءل: ماذا عن قول الله تعالى في الآية المحكمة من‎ ‎سورة التوبة‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎ياأيها الذين آمنوا إنما‎ ‎المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام‎ ‎بعد ‏عامهم هذا...*)28-9‏‎.‎‏ ‏أقول: بالطبع هذه آية محكمة مثل كل الآيات المحكمات التي توقف‎ ‎حكمها، ‏بدليل أنها كانت موجهة لرسوله المكلف وحده أن يأمر المؤمنين على ‏تنفيذها،‎ ‎وذلك بمنع مشركي مكة وما حولها من سكان الجزيرة العربية من ‏الإقتراب من المسجد‎ ‎الحرام، إلا بعد أن يعلنوا إسلامهم ولو باللسان، حسما ‏للحرب التي كانت قائمة بين‎ ‎الإيمان والشرك ضمن القوم الواحد لعلم الله ‏تعالى ورسوله بعد نزول آيات سورة الروم‎ ‎عليه، أن حربا ضارية قادمة ‏عليهم جميعا عن قريب، وستكون حربا فاصلة ولن يكون‎ ‎للمؤمنين أو ‏للإسلام وجود على أرض الواقع كدولة إسلامية إن إنتصر الروم أوالفرس‎ ‎فيها عليهم‎.‎‏ ‏لذا لا بد من إعتبار تلك الآية من الآيات المحكمات التي كانت‎ ‎تخص فقط ‏مشركي الجزيرة العربية في عصر الوحي والرسول، لكن بعد وفاة رسولنا ‏الكريم‎ ‎علينا كمسلمين أن ندرك حقيقة توقف فاعلية تلك الأوامر في كل ‏الآيات المحكمات التي‎ ‎أصبحت بعد الرسول الكريم في حكم المنسية، وهي ‏ليست منسوخة لعدم وجود نسخ لأية آية‎ ‎ما زلنا نقرأها في القرآن الكريم، ‏مثل الآية التالية التي خاطبت الرسول الكريم‎ ‎عندما كان حيا يرزق بين ‏المؤمنين من أصحابه: ‏‏( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك...*) 84-4‏‎. ‎‏ ‏هذه الآية قد حددت الحرب مع المشركين في الجزيرة حول المؤمنين‎ ‎بحياة ‏الرسول الكريم بالتالي فكل الآيات المحكمات المرتبطة بعصر الرسول قد ‏توقف‎ ‎مفعولها وتعتبر في حكم المنسية بعد أن توفى سبحانه رسوله عليه ‏الصلاة والسلام‎ ‎وعادت نفسه الطيبة راضية مرضية إلى بارئها‎.‎‏ ‏بالتالي لا مجال في إسلام اليوم من إمكانية إستمرار ذلك النوع‎ ‎الخاص من ‏القتال الذي كان يتم تحت إشراف الله تعالى المباشر، عن طريق الوحي‎ ‎السماوي‎.‎‏ ‏وإلا فكيف للمسلمين أن يدعوا الناس كافة إلى دينهم، وقرآنهم‎ ‎يمنع الناس ‏من مختلف الملل والنحل والأديان من أن يدخلوا إلى معابد المسلمين‎ ‎ومساجدهم، خاصة إذا‎ ‎أتوا إليها مسالمين ملتزمين بأعراف المسلمين في ‏زيارة أماكنهم‎ ‎المقدسة‎.‎‏ ‏وكيف لنا أن نفهم كل آيات القرآن التي تكلف الناس جميعا بزيارة‎ ‎بيت الله ‏الحرام في مكة؟ ‏‏(‏‎ ... ‎ولله على الناس حج البيت من‎ ‎استطاع إليه سبيلا...*) 97-3‏‎.‎‏ ‏‏(‏‎ ‎وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا‎ ‎وعلى كل ضامر يأتين من كل فج ‏عميق*) 27-22.‏‎ ‎‏ ‏فكما أن الدعوة إلى الإسلام في القرآن هي دعوة للناس كافة‎ ‎فكذلك دعوة الله ‏إلى بيته الحرام للناس كافة، ولعلم الله تعالى العالم بكل شيء بأن‎ ‎الأيام ‏المعدودات التي حج فيها الرسول لا تكفي لحج الناس كافة فقد جعل‎ ‎سبحانه ‏منذ البداية فترة الحج للناس ثلاثة أشهر سماها لعلم الناس بها منذ أيام‎ ‎ابراهيم عليه الصلاة والسلام بالأشهر المعلومات‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎الحج أشهر معلومات فمن‎ ‎فرض فيهن الحج ...*) 197-2‏‎.‎‏ ‏علينا أن نتساءل، ماذا إذا فكر فريق من شباب المسلمين المؤمنين‎ ‎بالإصلاح الديني، كما يفعل السلفيون اليوم، هل يجوز لهم العودة إلى ‏الآيات‎ ‎المحكمات وإعادة تفعيلها، قدوة بالرسول الكريم وبأصحابه ‏الراشدين، والعمل من جديد‎ ‎على الأمر بتطبيق آيات سورة التوبة والأنفال ‏والبقرة والنساء وغيرها من‎ ‎السور الحاوية على الآيات المحكمات في ‏القرآن؟ ‏في الحقيقة، دون استيعاب فكرة كون الآيات المحكمات كانت تمثل‎ ‎فقط فترة ‏حكم الله تعالى المباشر في الأرض عن طريق الوحي* وأن حكمها استمر ‏‏* هي الفترة التي استمر فيها نزول الوحي على الرسول‎ ‎عليه الصلاة والسلام من يوم مبعثه إلى يوم وفاته. ‏فقط‎ ‎خلال فترة حياة الرسل الكرام، وأن‎ ‎رسولنا عليه الصلاة والسلام الذي ‏كان يعلم بتلك الحقيقة، قد أوقف الصراع مع‎ ‎المشركين بإذن الله تعالى في ‏حجة الوداع‎.‎‏ ‏كما نعلم، كان ذلك بعد إعلان الله تعالى للناس أن دينه قد تم‎ ‎واكتمل في ‏الآية التي تقول‎:‎‏ ‏‏(‏‎... ‎اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم‎ ‎الإسلام ‏دينا...*) 3-5‏‎.‎‏ ‏بعدها تبين للمسلمين الرشد من الغي، وبما أن تلك الفترة‎ ‎النورانية الرحمانية ‏من اتصال السماء بالأرض يستحيل إستعادتها لإستحالة إستعادة‎ ‎الوحي بعد ‏إنقطاعه، أستطيع الجزم أن إعادة تفعيل الآيات المحكمات الآن أو في‎ ‎المستقبل بالإستناد إلى القرآن تعتبر مستحيلة، كما إستحال، في مثالنا ‏السابق، على‎ ‎موسى مرافقة الرجل الصالح الذي كان يأتيه الغيب بالوحي من ‏دون علمه، لكن هذا لا‎ ‎يمنع من وجود تلك الآيات في القرآن لتكون شاهدة ‏على فترة حكم الله تعالى في الأرض‎ ‎خلال فترة استمرار الوحي‎. ‎‏ ‏أعتقد أن كل مؤمن عاقل بالغ راشد يوحد الله تعالى وكتابه‎ ‎مستبعدا كل كتب ‏الحديث والتفسير والتأويل من التي يضيفها أغلبنا من‎ ‎المسلمين عن جهل إلى ‏كتاب الله العظيم قرأ القرآن وحده قراءة تفكر وتدبر لفهم‎ ‎مقاصد الله سبحانه ‏بالكتاب والحكمة، أو بالسورة المحكمة، أو‎ ‎بالآيات المحكمات، وحده دون أن ‏يرجو مساعدة أحد إلا من الله تعالى العزيز الكريم،‎ ‎إن اعتصم بحبل الله ‏المتين الذي هو القرآن الكريم كمصدر فريد للحق. ‏أما إن تساءلنا عن مقصد الله تعالى في الآية التي تقول‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ) 52-22‏‎.‎‏ ‏هل لكلمة (يحكم) هنا علاقة بالآيات المحكمات؟ ‏نقول: معاني الكلمات في القرآن لا يعود حكمها للكلمات، بل‎ ‎الحكم لسياق ‏النص، حيث نجد كلمة الحكمة بحسب سياق النص هنا قد أتت بمعنى: عدل‎ ‎وصوب‎. ‎‏ ‏والأمثلة عليها كثيرة في القرآن، لاحظوا مثلا الآيتين‎ ‎التاليتين‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎إذا طلقتم النساء )1-65‏‎.‎‏ ‏‏(‏‎ ‎زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين )14-3‏‎.‎‏ ‏فالذي يقرر معنى كلمة: النساء هنا في تلك الآيتين هو سياق‎ ‎النص، حيث ‏في الآية الأولى جاءت بمعنى: النسوة، بينما أتت في الآية الثانية بمعنى‎: ‎الأحفاد الذكور، فالنسيء هو الحفيد الذكر باعتباره يأتي متأخرا عن الإبن، ‏وجمع‎ ‎نسيء في العربية نساء، بفتح النون ولو فهمنا كلمة نساء في تلك الآية ‏بمعنى النسوة لن يستقيم‎ ‎المعنى لكون التزيين قد أتى في النص للناس، ‏والناس كما نعلم فيهم الذكور والإناث، فكيف يزين الله تعالى للنساء شهوة ‏النساء. علما أن كلمة النساء بمعنى الأحفادالذكو وردت أيضا في آيتين من ‏القرآن الأولى في سورة النور حيث تقول بعد أن تعدد الآية كل الذكور الذين ‏يحل لهم أن يدخلوا على النسوة بلا إذن: ‏‏(...أو بني إخوانهن أوبني أخواتهن أونسائهن" بفتح النون" ...*) 31-24. ‏‏(... ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن" بفتح النون" ولا ما ‏ملكت أيمانهن " من العبيد الذكور" واتقين الله أن الله كان على كل شيء ‏شهيدا*) 55-33. ‏‎ ‎كما قلت من قبل فإن الآيات المحكمات في كل الرسالات يتوقف‎ ‎العمل بها ‏كأوامر واجبة التنفيذ بعد توقف الوحي بانتهاء حياة الرسول الحامل لتلك‎ ‎الرسالة علما أن القرآن يحتوي على آيات محكمات لرسل آخرين: مثلا نقرأ ‏في سورة‎ ‎البقرة عن أهل الكتاب الآيات المحكمات التاليات:‏
‏(‏‎ ‎وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا‎ ‎أتتخذنا هزوا ‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين* قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما‎ ‎هي ‏قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما ‏تؤمرون* قالوا‏‎ ‎ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة ‏صفراء فاقع لونها تسر‎ ‎الناظرين*) 67-69-2‏‎.‎‏ ‏أمثال تلك الآيات لم يعد لها حكم وقد أصبحت في حكم المنسية‎ ‎وتبقى في ‏القرآن للذكرى وللعبرة والتاريخ وكنموذج للإطلاع على حكم الله تعالى‎ ‎وأوامره في الأرض خلال فترة إستمرار الوحي على رسله‎.‎‏ ‏لذا عندما أقرأ الآيات المحكمات الآمرة بالقتال في القرآن فإني‎ ‎أتخيل الله ‏تعالى هو القائد الأعلى لجيوش المؤمنين في الأرض والرسول محمد عليه‎ ‎الصلاة والسلام هو قائد المؤمنين المباشر في أرض الحجاز الذي كان وكأن ‏على أذنيه‎ ‎سماعة هاتف نقال يسمع بها أوامر الله تعالى مباشرة، مبينة له في ‏كل موقف ماذا‎ ‎عليه أن يفعل، وكما يجيبه عن الأسئلة الهامة التي كانت ‏تطرح عليه من‎ ‎الناس أو من المؤمنين، وكما يحميه من نفسه ويعصمه عن ‏الخطأ قبل وقوعه مما‎ ‎يجعله تحت مراقبة الله الدائمة فيعصمه من نفسه ومن ‏الناس كما يحميه سبحانه من‎ ‎غدر شياطين الإنس والجن‎.‎‏ ‏هكذا إذا تابعنا في تخيل الصورة نستطيع أن نعلم أن فترة حياة‎ ‎الرسول من ‏بعد بعثته، خاصة في الفترة المدنية، كان الحكم كله فيها بيد الله‏‎ ‎تعالى ‏وحده، وبالتالي لا يمكن لأحد منا أن يقيس على تلك الفترة أبدا‎. ‎‏ ‏تخيل مثلا، كيف يخبر الله تعالى المؤمنين الذين كانوا يعدون‎ ‎بالعشرات في ‏مكة، في السنة الرابعة للبعثة، الموافقة لسنة: 614 ميلادية، وينزل على‏‎ ‎تلك ‏الفئة القليلة أوائل آيات سورة الروم التي يعد فيها سبحانه المؤمنين بالنصر‎ ‎على أكبر إمبراطوريتين في العالم معا، وهما الروم والفرس في بضع سنين ‏من بعد‎ ‎أن تأخذ الروم التي كانت قد غلبت فعلا في تلك السنة، ثأرها من ‏الفرس، والذي تم‎ ‎بحسب ما كتبه مؤرخوا المسلمين في العام السابع للهجرة، ‏والموافق لسنة 628 ميلادية*. ‏‏*‏‎ ‎أرجوا أن يراجع القارئ موضوع: ماهي أكبر التنبؤات في القرآن؟‎ ‎من هذا الكتاب، الذي هو بعنوان: مفهوم ‏الإسلام بين الآبائية( السلفية) والقرآن ‏‎.‎‏ ‏يجوز أن المؤمنين قد فرحوا فعلا لذلك النصر الذي تم للروم في‎ ‎العام ‏السابع الهجري، ولكنهم لم يفرحوا حتما حبا وتفضيلا للروم على الفرس كما‎ ‎يظن علماء المسلمين إلى هذا اليوم، بل لعلمهم أن العد التنازلي للمدة التي‎ ‎حددها الله تعالى في بضع سنين، قد بدأت بالفعل‎.‎‏ ‏علما أني لم أقرأ في كل كتب السيرة أن المؤمنين قد فرحوا‎ ‎بنصر الروم ‏على الفرس، بل قرأت العكس تماما، وهو أن الرسول الكريم قد أرسل أول‎ ‎غارة للمؤمنين على الروم عندما كان هرقل ما زال يحتفل في أورشليم ‏القدس،‎ ‎بنصره على الفرس، تنفيذا لأمر الله تعالى‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا‎ ‎فيكم غلظة ‏واعلموا أن الله مع المتقين*) 123-9‏‎.‎‏ ‏ألا نلاحظ من دقة الله تعالى، في خطابه المباشر من تلك الآية‎ ‎المحكمة ‏كيف أمر فيها سبحانه المؤمنين بالقتال من دون رسولهم للكفار الذين يلونهم‎ ‎من الشمال من كفارالروم والفرس لعلمه سبحانه أن نصرهم الذي وعدهم به ‏في السنة‎ ‎الرابعة من بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام في أوائل سورة ‏الروم لعلم الله تعالى وحده بالغيب أن نصر المسلمين على الروم والفرس ‏سيتم بعد وفاة رسوله الكريم بعدة سنوات. ‏ألا نلاحظ أيضا كيف استخدم سبحانه كلمة الكفار بدلا عن‎ ‎المشركين التي ‏كانت تستخدم فقط للإشارة الى الحروب مع المشركين داخل‎ ‎الجزيرة ‏العربية‎. ‎‏* ‏‏*: مشكلة عرب الجزيرة لم تكن الكفر بل الإشرك بدليل شهادات كثير في القرآن، وردت في الآيات:61-9، و ‏‏63-29، و 25-31، و 38-39، و9-43، و87-43، التي تقول: ‏‏( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون*) 87-43. ‏علما أن الرسول الكريم هو الذي بدأ تلك الحرب فعلا، وحاربهم في‎ ‎غزوتي ‏مؤتة وتبوك التان تمتا فعلا خلال حياته مشتركا في غزوة تبوك بنفسه‎.‎‏ ‏بينما نجد الأمر الخاص بمجاهدة الكفار مع المنافقين الذين‎ ‎كانوا بين صفوف ‏المؤمنين أتى مختلفا بالصيغة والمضمون‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) 73-9‏‎.‎‏ ‏حيث أتى الأمر بالجهاد الذي لا يعني أبدا القتال في آيات‏‎ ‎القرآن، كما أن ‏كلمة الكفار هنا تعني الذين أنكروا رسالة الرسول من أهل الكتاب مع‎ ‎أنهم ‏كانوا يقولون بظهور الرسول قبل ذلك*. ‏‏*للحاشية: ظنا منهم أنه سيظهر من أحفاد إسحق دون أن يتوقعوا‎ ‎ظهوره من أحفاد إسماعيل، عليهم الصلاة ‏والسلام أجمعين‎.‎‏ ‏وتسمية الكفار هنا تميزهم عن مشركي العرب من الجاهليين‎.‎‏ ‏نعلم من القرآن والسيرة النبوية أن الله تعالى قد أنهى حرب‎ ‎الرسول مع ‏المشركين التي أعلنت بعد نزول الآية‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك،‎ ‎وحرض المؤمنين، عسى الله أن ‏يكف بأس الذين‎ ‎كفروا. والله أشد بأسا وأشد تنكيلا * ) 84-4‏‎.‎‏ ‏لقد كان الله تعالى وحده هو الذي يعلم على أن ذلك النوع من‎ ‎القتال يجب أن ‏يتوقف مع توقف الوحي، والذي تم إيقافه فعلا بأمر منه‎ ‎سبحانه، قبل موت ‏الرسول في خطبة حجة الوداع، بعد أن أنزل سبحانه على رسوله الكريم‎ ‎في ‏أواخر ماأنزل من القرآن‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي...*) 256-2‏‎.‎‏ ‏لكن حرب الروم والفرس التي كان يعلم بأمرها المؤمنون كانت حرب‎ ‎بقاء ‏أو فناء ولم تكن حربا لنشر الدين، فالله تعالى يعلم قبلنا جميعا أن نشر أفكار‎ ‎وعقائد الدين لايمكن أن تتم بالحرب والقتال بالسيوف والرماح بل بالحكمة ‏والموعظة‎ ‎الحسنة‎.‎‏ ‏أما إن تساءلنا قائلين: ما حكم تلك الآيات المحكمات في عصرنا‎ ‎اليوم ؟ ‏نقول:نجد حكمها في القرآن بقوله سبحانه وتعالى‎ :‎‏ ‏‏(‏‎ ‎ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) 106-2‏‎.‎‏ ‏أي أن سبحانه قد جعلها في حكم المنسية‎.‎‏ ‏وإن تساءلنا: ما الفرق بين النسخ والإنساء في تلك الأية؟ ‏نقول: يمكن أن نعلم من آيات القرآن أن المقصود بالنسخ هو إزالة‎ ‎النص ‏المنسوخ من كتاب الله لكونه أصلا مما ألقى الشيطان في أمنية الرسول بإذن ‏الله‎ ‎تعالى حتى يبرهن الله تعالى للمؤمنين أن نبيهم ورسولهم غير معصوم ‏بذاته عن الخطإ‎ ‎ولا من الشيطان إن لم يعصمه ربه الذي يرى ويسمع ‏ويراقب ما يبلغ رسوله للناس تماما‎ ‎كما أنزله عليه سبحانه‎:‎‏ ‏‏(‏‎ ‎وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى‎ ‎الشيطان في ‏أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله‎ ‎عليم حكيم *) ‏‏52-22‏‎.‎‏ ‏أماعن الإنساء الذي مصدره من نسي ومن النسيان، فموضوعه يتعلق‎ ‎فقط ‏بالآيات المحكمات، التي في مجموعها تشكل كما قلنا أم الكتاب كما ذكره ‏الله‎ ‎تعالى في القرآن‎.‎
فكل تلك الآيات المحكمات التي كانت ملزمة للرسول عليه الصلاة‎ ‎والسلام ‏وحده على اعتبار أنه كان المسؤول الوحيد أمام الله تعالى عن تنفيذها‎ ‎بمؤازرة المؤمنين الذين كانوا معه من صحابته خلال حياته‎.‎‏ ‏أما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام تبقى تلك الآيات في القرآن‎ ‎بلا فعــل، ‏وفي حكم المنسية، للعبرة وللتاريخ فقط‎.‎‏ ‏حقيقة الأمر أن الحب والطاعة مع التفاني لله تعالى ولرسوله،‎ ‎كان هو ‏المحرك الفعلي لجميع المؤمنين من حوله، لدرجة جعل المشركين والكافرين ‏ممن‎ ‎كانوا حولهم، ينتبهون إلى تلك الحقيقة، فقصدوا إيذاء الرسول وبدأوا ‏فعلا‎ ‎يعيرون المؤمنين مثلا وهم يقولون‎: ‎‏ ‏إن نبيكم ورسولكم هو مجرد أذن يسمع وحي السماء ثم ينقل لكم ما‎ ‎سمعه ‏من الوحي الذي يقول له قل: فيقول، وأنتم تطيعون ما يسمع ولا تطيعون ما ‏يأمر،‎ ‎فأجابهم سبحانه في نفس السورة المحكمة بقوله الكريم‎:‎‏ ‏‏(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون: هو أذن، قل: أذن خير لكم،‎ ‎يؤمن ‏بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله‎ ‎لهم عذاب أليم *) 61-9‏‎.‎‏ ‏هكذا تتوضح الصورة بعد هذا الشرح، على أن الآيات المحكمات التي‎ ‎اعتبرها سبحانه وسماها أم الكتاب، كانت هي المحرك الحقيقي لحركة‎ ‎المؤمنين ودخولهم إلى دين الله الفاعل والفعال في‎ ‎عصر الرسول الكريم‎. ‎
‎ ‎تم موضوع المحكم من الآيات وسننشر موضوع ‏
ب - ماهي السبع المثاني؟‏
في الأسبوع القادم إنشاء الرحمن الرحيم.‏
نيازي عزالدين

اجمالي القراءات 9028