جدلية الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٦ - سبتمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :
1 ـــ فى الستينيات – عصر الصحوة القومية العربية – بدأ الدكتور جمال الفندى يكتب من واقع تخصصه العلمى فى الفلك عن الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم ، وتبعه الدكتور عبدالرزاق نوفل الذى تشعب وأشار إلى الإعجاز العددى والحسابى فى القرآن الكريم ، وتبعهم أخرون .
كان جهدا فرديا يقوم به متخصصون فى العلوم الطبيعية ، ليس لهم خلفية فى التراث السنى أو الفقهى ، بل كانوا يدخلون على القرآن الكريم بعقليتهم العلمية المحايدة يحاولون فهم الآيات فى ضوء التشابه أو التطابق بينها وبين حقائق العلم الحديث ، وقد أفلحوا ليس فقط فى ريادة هذا الموضوع ، ولكن أيضا فى تأكيد حقيقة الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم .
2 ـــ سقطت الدعوة للقومية العربية فى حرب يونيو 1976 ، وقد تم دفنها بالكامل فى حرب الخليج الثانية باحتلال صدام للكويت ، واحتل مكان القومية الإنتماء السلفى الوهابى السنى الذى سيطر بفعل قطار النفط السريع على التعليم والأعلام والثقافة فظهرت " أسلمة العلوم " و " أسلمة البنوك " بعد أسلمة الأعلام وأسلمة الثياب بالجلباب والحجاب والنقاب .
وتأثرت قضية الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم بهذا المناخ الجديد ، فاتسعت وأصبحت حرفة دخلها الأدعياء والمرتزقة ، وتطورت من ناحية الكم لتشمل ما عرف بـــ " الطب النبوى " ، وأصبح يطلق عليها " الأعجاز العلمى فى القرآن والسنة " ،ولم يبق إلا أن يقال عنها " الأعجاز العلمى فى القرآن والسنة و السلفية والوهابية والسعودية " وتعمقت نوعيا لترتبط بالإسلام الذى إحتكر السلفيون لأنفسهم الحديث عنه .
3 ـــ أحدث هذا التطور النوعى والكمى خصومة كاملة مع المنهج العلمى والمنهج القرآنى ؛فالمحترفون الجدد من المؤلفين فى الأعجاز العلمى فى " القرآن والسنة " دخلوا على فهم القرآن الكريم من خلال المصطلحات التراثية ، فالملاحظ فيما كتبه " زغلول النجار" مثلا كثرة إستشهاده بالتراث فى فهم معانى الآيات القرآنية ، ثم يقرؤها فى ضوء الحقائق العلمية كى ينسب إعجازا علميا إلى تلك الأحاديث أو ما يعرف بالسنة النبوية.
الخطأ يتجلى هنا فى أن فهم القرآن الكريم من خلال التراث يوقع فى الأختلاف والإنتقاء ، ويصبح القرآن الكريم متهما بأنه " حمال أوجه" أى تختلف معانى الآية وتتحمل التفسيرات المتناقضة ، وبالتالى لا يكون كما قال تعالى " كتاب مبين " ، " كتاب أحكمت آياته " .
فالمنهج العلمى فى فهم القرآن الكريم لا يكون إلا بفهم مصطلحات القرآن الكريم نفسه وليس من خلال ثقافات لاحقة ومصطلحات تم تداولها بعد نزول القرآن الكريم بقرون.
ثم إن الدخول على القرآن الكريم وفهمه من خلال ما قاله أئمة التراث ينسف قضية الأعجاز العلمى فى القرآن من أساسها، فأولئك الأئمة التراثيون غفلوا عن الأعجاز العلمى فى القرآن الكريم ، وتعاملوا مع الآيات القرآنية ذات المحتوى العلمى بإخضاعها لثقافتهم ومذاهبهم ، وأكثر من هذا صاغوا لها تأويلات وصنعوا لها أحاديث مفتراه نسبوها ظلما وزورا للنبى محمد عليه السلام بعد موته بقرنين وأكثر من الزمان،فكيف يتم بناء الإعجاز العلمى على ما قاله هؤلاء الأئمة ؟
إنهم لو كانوا قد فهموا الأيات العلمية فى القرآن الكريم – وهى واضحة ومباشرة – لاختلف تاريخ البشرية ، ولتوصل العرب والمسلمون فى العصر العباسى إلى ما اكتشفه الغرب بعدهم بعدة قرون.!..
كان من الممكن إختصار ألف عام من التخلف والقرون المظلمة مرّت بها البشرية لو أنهم :
*ـ ألتفتوا إلى منهج القرآن الكريم فى البحث العلمى التجريبى وطبقوه..
*ـ قصروا الايمان بالغيب على ما جاء فى القرآن الكريم فقط دون غيره.
*ـ استفادوا بما أورده القرآن الكريم من حقائق علمية تسبق عصرها.
*ـ أطاعوا القرآن الكريم فى التعقل و التبصر والابتعاد عن الخرافات والأساطير.
لم يفعلوا ذلك فأصابوا الاسلام فى الصميم ، وتحولوا الى أنصاف آلهة فى قلوب أتباعهم .. ولا يزالون ، بدليل تلك الاتهامات التى لا تزال تلاحق الاسلام بسبب ما فعلته به الوهابية و السلفية. وحتى عندما التفت بعض المسلمين المتخصصين فى العلوم الطبيعية الى الاعجاز العلمى للقرآن الكريم ما لبث أن تدخل فيها السلفيون بما يحملونه على ظهورهم من أسفار و تراث فأفسدوا القضية بأكملها، وهم ـ فى الواقع ـ ما دخلوا فى شىء إلا أفسدوه .. وكذلك يفعلون..!! ..
4 ـــ على أن هذه الخصومة مع العلم والعقل والقرآن لم تعطل مسيرة السنيين والوهابيين والسلفيين فى تدعيم قضية " الإعجاز العلمى فى القرآن والسنة " بل تحولت بنفوذهم وبترولهم إلى تجارة رائجة تنشأ من أجلها الجمعيات وتنعقد بسببها المؤتمرات وتتسع لها الفضائيات والصحف والدوريات ومواقع الإنترنت . وكان من الطبيعى أن يمتد الإرتزاق إلى الدجل ، وأن يمتد الدجل ليس فقط فيما يكتبون وما يقولون ولكن أيضا فى الربط بين الإعجاز العلمى وبين الطب .
5 ـ فقد انتشر ما يعرف بالطب النبوى ، وذاع ـ مثلا ـ أساطير عن الحبة السوداء " ،وتم إفتتاح عشرات العيادات التى تداوى بالقرآن الكريم . وتوثقت العلاقة بينها وبين حلقات الزار والتداوى من المس الشيطانى والربط الجنسى وكتابات المحبة و التأليف بين القلوب.
وبهذا أعيد لنا فى العصر الحالى ما ساد من خرافات فى العصرين المملوكى والعثمانى مما كان يعرف بالطب الروحانى والتداوى بلمسة من الشيخ المقدس أو تراب ضريحه أوفضلات المجاذيب ومخلفات الأولياء الصالحين .
صحيح أن الغرب عرف " الطب البديل " و" التداوى بالأعشاب " والتحرز من إستعمال المركبات الكيماوية فى الطعام والدواء، ولكنه يمارس ذلك فى ظل منهجية علمية بحثية صاومة .
صحيح أن لكل شعب تجاربه الطبية وخصوصا أصحاب الحضارات القديمة التى لا تزال حية ومستعملة فى ثقافة أبنائها مثل الحضارة الصينية وهى التى قدمت تراثها الطبى وانتفع به العالم ، ومنه ما اصطلح على تسميته بـ " الأبر الصينية " ، ولكن الصحيح أيضا أن تلك الموروثات يتم التعامل معها بمنهجية علمية علمانية ، بمعنى أنهم لا ينسبونها للدين ولا يلصقونها بالأنبياء والوحى .
ولكن أساس التخلف ـ الذى نسعد به دائما ـ أننا نغطى ثقافتنا الإجتماعية والطبية بعباءة الدين ، فيصبح تراثنا القديم فى التداوى " طبا نبويا " ثم نتجرعه بالتسليم، ونموت به لندخل الجحيم.!!
قد يوجد الصحيح والفاسد فى أى تراث طبى،ولا عيب فى هذا، العيب هو أن ينسب ذلك للإسلام ولرسول الأسلام عليه السلام .
ثانيا :
1ـ النفوذ الكبير للفكر السلفى الوهابى قوبل بمعارضة علمانية مفتونة بمنجزات الغرب الحضارية، فحدث إستقطاب بين التيارين السلفى الرجعى التقليدى والعلمانى الحداثى ، وامتد هذا الأستقطاب من ميادين السياسة والحكم والأدب إلى قضية الأعجاز العلمى فى القرآن .
التطرف السلفى فى إسناد إعجاز علمى متوهم للسنة والأحاديث والطب النبوى قوبل بتطرف علمانى يستنكر أو يسخر من وجود إعجاز علمى حتى فى القرآن نفسه . أى أن الخطأ السلفى ووجه بخطأ أخر، وكلاهما يخاصم العلم وينكر حقائق ثابتة ملموسة .
2 ـــ ليس كل الذين يهاجمون الأعجاز العلمى فى القرآن الكريم ممن يكرهون القرآن الكريم وينطبق عليهم قوله تعالى "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ: محمد 9 " ، ولكنهم كلهم ليست لهم علاقة وثيقة بالقرآن ومصطلحاته ومناهجه تمكنهم من فهم إعجازاته العلمية،وهذا ما سنتعرض له فى الحلقات القادمة .
وهم مع إنتسابهم للعلم إلا أنهم سطحيون فى رؤيتهم العلمية للعلم نفسه،ولكنهم بما يعلمون مغرورون، وليس هذا إتهاما ولكنه توصيف مستمد من القرآن الكريم نفسه .
3 ـ يقول تعالى عن سطحيتهم هم وامثالهم من أكثرية البشر" وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ : الروم 7:6 " .أى يعلمون مجرد القشور والظواهر من الحياة الدنيا ، أما الأخرة فهم عنها غافلون .
أولئك السطحيون مبهورون بالتقدم العلمى متناسين أننا نستخدم ما نكتشفه دون أن نعلم حقيقته وماهيته شأن كل ما سخره الله تعالى لنا.
وللتدليل على ذلك لنبدأ مع الانسان الأول حين إكتشف النار واستخدمها ولا يزال يستخدمها حتى الأن ، ولكنه حتى الآن لا يفهم كنه النار وطبيعتها وماهيتها، ولا يعرف مستقرها أو مستودعها، ومن أين أتت والى أين تعود ، ثم استخدم الماء فى النقل البحرى وحتى الأن لا يفهم ماهية الماء.
وخلال مسيرة البشرية فى تقدمها العلمى أكتشفت الكهرباء والجاذبية والمغناطيس ، واستخدم الانسان كل هذا القوى الطبيعية ولكنه لم يصل إلى حقيقة وكنه وماهية الكهرباء والمغناطيس والجاذبية، بل حتى لا يستطيع رؤية أحداها . أى أنهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ...
4 ـ أكثر من ذلك .
أقرب شىء إلى الأنسان نفسه التى تسيطر على جسده وتسيره ... أين هى فى الجسد ؟ وما هى ؟ ومن أين أتت وإلى أين تمضى عند النوم ، وكيف تعود؟
بل الحياة ذاتها ـ فينا وحولنا ـ تستعصى على التحليل؛ فلا يستطيع أحد تحليل الخلية الحية إلا بعد موتها ، أما ( الحياة )ذلك الجزء الغامض فيها الذى به تتحرك وتتكاثر وتتغذى لا يمكن رؤيته . ينطبق ذلك على أدنى درجات الحياة ، وهى تفاعل المركبات الكيماوية فى الجمادات إلى الحياة المتوسطة فى الفيروسات التى تكون بلورات ثم تتحول بالماء إلى حياة ، إلى البكتيريا والجراثيم والفطريات إلى الحشرات وبقية المخلوقات ؛كل هذه الحيوات التى تحيط بنا وتتخللنا لا نعرفها ، وإن كنا نتعامل معها ونستخدمها ونحاربها وتحاربنا ...
الله سبحانه وتعالى هو الأعلم بها "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ : الملك 14 " .
فإذا ذكر الخالق جل وعلا بعض الحقائق عما خلق فإن أكثر الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا يسارعون بالإستهزاء والسخرية ...
والناس دائما أعداء ما جهلوا ..
5 ـ وهنا ندخل على سمة أخرى من سماتهم وهى الغرور المقترن بالإستهزاء.
الأمم السابقة كان لهم أيضا علم وحضارات ـ ولا تزل لها آثار باقية ، وقد أصيبت بغرور العلم وقال تعالى عنهم "فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون :غافر 83". هو نفس ما نشهده الأن من كتابات بعض السطحيين الذين ينظرون للقرآن الكريم بنصف عين ، وبعضهم يصل به الغرور إلى درجة الإستهزاء المشار إليه فى الأية الكريمة السابقة ، فيتساءل ساخرا عن كلام الهدهد لسليمان وكلام سليمان مع النمل وعن يأجوج ومأجوج وعرش ملكة سبأ..وكل هذا سنتعرض له فى حلقات قادمة بعونه جل وعلا..
ولكن هذا يدخل بنا على قضية مفصلية فى الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم ، وهى التدرج العلمى فى المستوى العلمى للبشر خلال مسيرتهم التاريخية على هذا الكوكب .
وهو موضوعنا القادم .

اجمالي القراءات 24352