الحوار الأخير بين رئيس يحتضر و ... رئيس يرث

محمد عبد المجيد في الأحد ٢٦ - أغسطس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

oslo 03.07.2006

عندما تَمّ استدعاءُ جمال مبارك على عَجَل إلى مقر الرئاسة بشرم الشيخ ظن من نبرة صوت والدته، سيدةِ مصر الأولى وحَماة سيدةِ العهد الجديد، أن مَلَك الموت تمكن أخيرا من قبض روحٍ لم يعد هناك أي أمل في توبة صاحبها، حتى بعد أنْ اقترب منه عزرائيلُ من قبل عدة مرات، ومنها أثناء استشفائه الميونيخيّ حتى كاد يلمس موضعَ الروحِ فيه.

لم يقل لها كما قال هاملت: لا عباءاتي الحالكة وحدها يا أُمّاه .. ولا المألوف من ثياب السوادte;واد الحزين .. ولا غُضون الغمّ في المُحَيّا .. لا .. ولا النهر السَخيّ من العين ، لكنه انطلق قبل أن يسمع نصيحةَ أمه الغالية، فهو يعرفها كما يعرف أصابع يديه: إياك أن تترك مِصرَنا لهؤلاء المصريين الغوغاء، فكل ما على أرضها، وفي سمائها، وما يجري مع نيلها يُسَبّح بحمد أبيك، وسيأتيك طوعا أو كرها، فحذاءُ ضابط الأمن على وجه المستشار كان رسالةً واضحةً وصريحةً لسبعين مليونا من البشر بأننا، أسرةَ مبارك، سنجعل كلّ مصري يجثو على ركبتيه عندما يسمع صوتك في ربع القرن القادم.

ساعاتٌ قليلةٌ وكان يجلس أمام والده، يتأمل شحوبَ وجهه، ويُصغي لكل كلمة، ولكن خيالَه كان هناك ... سابحاً في مُلْكِ مصر، ومُلتَهماً بعينيه مئات المقالات بأقلام كان مِدَادُها خليطاً من دماء الأبرياء، ومن فضلات ما تدفعه بطونُ المصريين لتراب الأرض ، فلا تدري إنْ كان هؤلاء المنافقون الذين يبايعونه، يبيعونه مِصْرَنا بثمنٍ بخسٍ دراهمَ معدودة، أم يأكلون في بطونهم سُحْتاً ونارا!

لحظاتُ صمتٍ طالتْ قليلا.

مبارك الأب: طلبتُ من والدتك التي تستعجل تسليمي إياك وثيقةَ تَمَلُّك أرض الكنانة أنْ تستعجل حضورَك، فالروحُ، يا ولدي، لها أجَلٌّ لا يؤخر ساعة أو بعض الساعة.
مبارك الابن: أكمل، يا أبي العزيز، فقد خلعتَ قلبي من موضعه، وأخشى أنْ تتوب في لحظة صفاءٍ إيمانيٍّ عن آلاف من الجرائم والذنوب والانتهاكات التي مارسْتَها ضد هؤلاء القوم!

مبارك الأب: ألا تعرف أباك أيها الأبله؟ وهل أنا مؤمنٌ بحسابِ الآخرة حتى أتوب إلى إلههم ومعبودهم وما يؤمنون أنه ربُّ العرش العظيم؟
إنَّ هناك عرشاً واحداً لا يستطيع عِفريتٌ من الجِنّ أنْ يأتي بمثله ولو أمره سليمانُ النبي إنْ أبلغه بذلك سبعون هُدهُداً بعدما تفقد الطيرَ فلم يجدهم.
مبارك الابن: إني جدّ خائفٌ أنْ يكون هناك حسابُ يوم الحشر، ولك أنْ تتخيل ربعَ مليون مصري مرّوا ظُلماً وبُهتاناً على سجونك في ربع قرن، ومئات من الذين قضوا تحت التعذيب، وموافقتَك على استمرار تسميم المصريين، وأوامرَك بتسهيل نهب وطنٍ، ورجالاً اغتصبهم رجالُك، ونساءً تحرش بهن تحت سَمْعِك وبَصَرِك ذئابُك الأوفياءُ في أقسام الشرطة، وفقراً أعطيناه حريةَ إذلال المصريين، وفَسادا جعَلْتَه عنواناً لعهدك، وكرامةَ المصري التي رَضيَتْ بحذائك حتى لو هوىَ على وجوه حُمْاة العدالة وممثلي السماءِ على الأرض.

مبارك الأب: لو كان في قلبي مثقالُ ذَرّةٍ من إيمانٍ لاستيقظ ضميري وأنا أقرأ طوال سنوات حُكْمي عَمّا عاناه المصريون، وتلك أهم نَصْيحةٍ أُسْدِيكَها: ويّلٌ لك إنْ أشفقتَ على مصري أو رَحِمْتَه أو اخترتَ رجالاً شرفاءَ حولك، أو يأتيكَ مستشاروك بِذَويّ الضمائر الحية والعاشقين لهذا البلد، فذلك هو المحظور!
مبارك الابن: أعترفُ لك، أبي العزيز، أنني اضطربتُ لبعض الوقت عندما شاهدتُ مِصْرَ كُلَّها تلتف حَوّل قُضاتها، وظننتُ أنَّ نهايتنا شارفتْ على اسدالِ الستارِ علىَ أكبر عملية استغفال للشعبِ منذ دَفْنِ أول تابوت في وادي الملوك.

مبارك الأب مُقاطعاً: ورأيتَ بأمّ عينيك المشهدَ لولاياتك الخمسِ القادمة أكثر وضوحاً من البلهارسيا في أجساد القرويين.
قضاةُ مِصْرِ العشرون ألفا يمثلهم أقل من أربعمئة، يشاهدون أحَدَهم يصرخ وضابط الأمن يركله في وجهه، ثم تتناهى إلى أسماعم صرخاتُ شباب في عمر أولاد أكثرهم يتم اقتيادهم عُنوة من الرصيف المقابل إلى سجون الخوف وزنزانات الرعب في عهدي.
وينتهي الاعتصامُ، وتحتفل نقابةُ الصحفيين بأحد أبطال القضاة، ويتضاحكون، ويتغامزون، ويرفعون سَبّابة ووسْطىَ النصر، لكنهم يضعون أصابعَهم في آذانهم خشية أن تخترقها صرخاتُ شباب مثل الورد والفُلّ والياسمين جاءوا مفعَمين بحب مِصْرَ والثقة في قضاتها، فَخَرّيَفْنا ربيعَهم، وانتهكنا عفتَهم، واغتصبتْ فحولةُ مُخبرينا وضباط أمني الشرفَ من أجسادهم.
مبارك الابن: هل معنى ذلك أنَّ الخطرَ تَبَخّر نهائياً، وأنَّ ترشيحَ أعضاءِ الحزبِ الوطني في مجلس الشعب لابنك أضحى علىَ مَرْمَى حجر من رؤوس المصريين؟

مبارك الأب: خطرٌ واحدٌ بَقيّ يُمثل لك مانعاً مِنْ تَسَلًّم الحُكم، ولمصر أملاً في التخلص من حُكم أسرتنا!
مبارك الابن: أحسبُ أنك ستشير إلى جنرالات الجيش في ثكناتهم.

مبارك الأب: هؤلاء انتهى خطرُهم عندما شاهدوا أبناءَ بلدِهم، ومنهم أولادهم وبناتهم وحرماتهم تُنْتَهَك في رابعة النهار، وهم يلوذون بصمت الصمت خلف أسلحة يراقبها أصدقاؤنا الأمريكيون والاسرائيليون كما تراقب أمُّك أباك خشيةَ ترددي في تسليمك مفاتيح وادي النيل.
مبارك الابن: ربما المثقفون والمؤرخون والمفكرون والاعلاميون والشرفاء وعمالقة صناعة القرار السياسي والتعليمي والفني والأدبي وعلماء الأمة من مسلمين وأقباط، والقضاة والمحامون ورؤساء النقابات ومحررو صحف المعارضة واٌقطاب مناهضة حُكمِنا لو اجتمعوا على قلب رجل واحد؟

مبارك الأب: هؤلاء في الواقع لو جُمِعَ عُشْرُهم أو خُمْسُهم في ساعة واحدة لخرجتْ مِصْرُ كلُّها في طوفان يكتسح أسرَتنا ورجالَنا، وحيتاناً أطعمناها، ولصوصاً فتحنا لهم خزائنَ مصر، ومحتالين فَرّغوا جيوبَ متوسطي الدخل في حالة هائجة من الاستغلال المتفشي.
إنهم صفوة المجتمع، وخلفهم سَيُهَرّول سبعون مليونا ليُعَلّقوا المشانقَ لنا قبل أن تُصْدِر محكمةُ الشعب حُكّمَها علينا، لكنَّ هناك شعرةً واحدة رفيعة من المصالح المشتركة تربطنا بهم حتى لو بدا لك أنهم على وشك اذاعة البيان رقم واحد.
مبارك الابن: ربما آلاف المقالات والتحقيقات والوقائع التي تصف التفاصيلَ الدقيقةَ لجرائمنا، وتُلين قلوباً من جرانيت، وتفجّر في شرايين قارئيها غضباً يزلزل الأرضَ من تحت أقدامنا؟

مبارك الأب: مقالٌ واحدٌ لابراهيم عيسى أو عادل حمودة أو عبد الحليم قنديل أو محمد عبد الحكم دياب أو أمين يسري أو عبد الله السناوي أو عشرات غيرهم لو تم نشرُه في بلد آخر فسَيَرّجم أبناءُ البلدِ زعيمَهم في فراشه!
وعشرةُ آلاف مقال وتحقيق عن جرائمنا لا يزيد تأثيرُها في المصري عن عشر دقائق ليمارس بعدها حياتَه العادية، بل قد يرى بارقةَ أملٍ فيك أو في أبيك رغم ما أذقناه من ويلاتٍ تبكي منها صخورُ الأرضِ ورمالُ الصحراء.
مبارك الابن: تلك هي الأخطارُ التي قد يفلت بسببها، مجتمعة أو منفردة، مُلْكُ مِصْرَ من وَلَدِك الذي أعدَدَته لعقدين من الزمان ليُجَدّد دماءَ الاستحمار الجماعي في أعرق أمم الدنيا قاطبة.

مبارك الأب : الخطرُ الوحيدُ ليس يسارياً أو ناصرياً أو إخوانياً أو إسلامياً أو قبطياً أو أيديولوجياً أو انتفاضةَ الجَوّعىَ أو الثأرَ لكرامة أو الاعتصامَ المدني أو مسيرة القضاة أو اضراب الصحفيين عن الطعام أو غضب أهالي عَبّارَة تمْلِكها أنت وتغرق ومعها كلُّ المصريين الفقراء في قاع البحر الأحمر.
عندما يتأمل المصري في مفهوم ( ولكن مصر هي أيضا بلدي) ، ثم يتجرع هذا الفهمَ كما يرتشف المريضُ دواءً عَصِيّا على الاستساغة، فيجري في كل أوصاله مَجْرى الدم، عندئذ سيرى المشهدَ بتفاصيله، ويمنحه حبُه لمصرَ وعيّاَ حقيقياً وشجاعةً نادرةً واحتقارا لنا، وخوفا على بلده، وانخراطا في أي عمل مناهض لحكمنا، وتتوقف سخريتُه من المخالفين له في الفكر والرأي والعقيدة والمذهب والتوَجّه لتصبح المعارضةُ لنا هديراً تسمعه في كل بيت مصري، وفي أي شارع وميدان وزقاق وحارة.
حتى هذه اللحظة فأنت في مأمن، وليرقص المصريون في إستاد القاهرة ويغنون ( المصريين أَهُمّهَ)، ويَدّعي كل منهم وصْلاً وهياماً وعشقا في وطنهم، أما كلمةُ السر والسحر وهي ( ولكنَّ مصر هي أيضا بلدي ) فهي تنقل المصري إلى حالة الدفاع المستميت عن كرامته وماله وعِرْضه وأرضه ودينه وممتلكاته وشرف أخيه وعفة أخته، وسيرى أموالَ المصارف المنهوبة مالَه، ومرضى الكبد أهلَه، والمعتقلين ظلماً أقرباءَه، والمغتَصَبين في أقسام الشرطة أشقاءَه، والمتظاهرات المتحرش بهن شقيقاتِه، والعاطلين عن العمل ذويه، والمليارات التي جمعتُها أنا وأنت وأخوك علاء تمّتْ سرقتها من أفواه أولادهم.
لن يهتز حُكْمُك، ابني العزيز جمال، شِبراً واحداً ما لم يعثر المصريون على قوة الدفع البركانية في ( ولكنَّ مصرَ هي أيضا بلدي ).
هل تعرف لماذا انفضّ اعتصامُ القضاة وعادوا إلى أُسَرِهم وأحضان زوجاتهم؟
لأنهم لم يقتربوا من مِفتاح السحر والسِرّ والعاصفة والبركان والغضب في ( ولكنَّ مصر هي أيضا بلدي )، وإلا لما فضّوا الاعتصامَ قبل أن نفرج نحن عن آخر شاب تم اعتقاله واغتصابه لأنه حَمَىَ القضاةَ بصدره وطيبته وحبه الجارف لمصر.
و( لكنَّ مصرَ هي أيضا بلدي ) لو آمن بها القضاةُ لتيقنوا أن محمد الشرقاوي وزملاءه هم أيضا أبناؤهم.
مبارك الابن: ماذا ستكون ردود أفعال قيادات الصفوة والنخبة والمعارضة عندما يعلن رئيسُ مجلس الشعب ترشيحَ أعضاء الحزب الوطني لابنك رئيساً؟

مبارك الأب: هذا يتوقف على إيمانهم بأن مصر أيضا بلدهم وإلا فهنيئا لك ربع قرن من الحُكم الواحد المطلق، متمنياً أن تُحَلق روحي بعد مماتي بعدة سنوات فوق مصر فلا ترى إلا آثارا لحضارة بادتْ واختفت، وملايين المصريين يتسولون طعامهم من دول أفريقية فقيرة، ورجالك يمسك كل منهم سوطاً يهوى به على ظهر مصري، ومعتقلات أكثر عددا من المدارس والمستشفيات والجامعات.

وهنا أشار مبارك الأبُ لابنه أن ينصرف قائلا له بصوت خفيض أقرب للمحتضر: بَلّغ أمَّك أنك تسلمت وصيتي ولن تفرط فيها ما حييت.
وخرج جمال مبارك، ونظر تحته فوجد كتائبَ من النمل تتحرك حول قدميه في صمت، وتبسّم ضاحكاً، ثم أخرج محموله وقال: عليك الاعداد فورا لحملة مبايعة، فرجالُنا كلابُنا، وبطونُهم مليئة بفضلاتنا، وهم ينتظرون الأمر بتزييف الهوية المصرية وإرادة الشعب، وتزوير أوراق وطن لم يعد وطنهم.

محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
http://taeralshmal.jeeran.com
http://www.taeralshmal.com
Taeralshmal@hotmail.com
http://Againstmoubarak.jeeran.com
http://blogs.albawaba.com/taeralshmal

اجمالي القراءات 12655