الفصل الثالث : ( الحرية : حرية الدين ، وحرية الرأى والتعبير )
الحرية الدينية فى الدولة الاسلامية

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٦ - سبتمبر - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً

  الحرية الدينية فى الدولة الاسلامية  

كتاب ( ماهية الدولة الاسلامية )

الباب الأول :  القيم الأساس للدولة الاسلامية

الفصل الثالث : (  الحرية : حرية الدين ، وحرية الرأى والتعبير )

  الحرية الدينية فى الدولة الاسلامية

  جذور الحرية الدينية في الإسلام :

 هي الأساس في وجوده في هذه الدنيا . بل هي الأساس في خلق الله تعالى للكون وهى الأساس في فكرة اليوم الآخر . ونعطى تفصيلا :

خلق الكون :

 1 ـ فالله جل وعلا أبدع ما نراه من كواكب ونجوم ومجرات . وتلك النجوم والمجرات تقع بين الأرض والسماوات التى لا نراها ، وبالتعبير القرآنى ( وما بينهما ) : ( وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) (17) ( 18 ) المائدة ) ، وصفها رب العزة بالمصابيح للسماء الدنيا ،   قال جل وعلا :

1 / 1 :( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) (12)  فصلت ).

1 / 2 :  ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ  ) (5)  الملك ) . السماوات السبع تقع فيما وراء الكون الذي تعجز العقول عن مجرد تخيله .

2 ـ أولو الألباب هم الذين يتفكرون في الحكمة من خلق السماوات والأرض. قال جل وعلا : (  إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) آل عمران ) .

3 ــ فالله سبحانه وتعالى لم يخلق السماوات والأرض باطلا ، بل بالحق . قال جل وعلا :

3/ 1 : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ) ( 16 ) الأنبياء ) .

3 / 2 : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ) (  3  ) التغابن .) 

3 / 3 : (  وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) الدخان ).

4 ـ وهذا الكون وتلك السماوات مع عظمتها الهائلة فقد خلقها الله تعالى لهدف واحد ، هو اختبار ذلك المخلوق المسمى بالإنسان . قال جل وعلا : (  وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً  ) (7) هود )

تدمير الكون ويوم الفصل

1 ـ ونتيجة هذا الاختبار وموعده يكون يوم القيامة ، يوم يقوم الناس لرب العالمين : (  يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) المطففين )، وقبله تقوم الساعة ويدمر الله سبحانه وتعالى ذلك الكون وتلك السماوات ويأتي بأرض جديدة وسماوات جديدة ويحاسب الناس على أعمالهم في الدنيا يوم الفصل . قال جل وعلا : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)ابراهيم ).

2 ـ لو شاء الله جل وعلا لجعل يوم الفصل فى هذه الدنيا . قال جل وعلا : ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)  يونس ). ولكن جعل الفصل (  يوم الفصل ). قال جل وعلا :

2 / 1 : ( وَإِذَا الرُّسُلُ وُقِّتَتْ (11) لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) المرسلات ).

2 / 2 : ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38)  المرسلات )

2 / 3 : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17) النبأ ) .

2 / 4 : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) الدخان  ) .

3 ـ  عن تأجيل الحكم فى الاختلافات الدينية الى يوم الفصل قال جل وعلا عن :

3 / 1 : البشر جميعا :

3 / 1 / 1 : ( قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) الزمر )

3 / 1 / 2 : ( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)  الأنعام )

3 / 1 / 3 : ( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ )( 56 ) الحج ).

3 / 2 : بنى اسرائيل :

3 / 2 / 1 : ( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)  يونس )

3 / 2 / 2 : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) النحل  ) 

3 / 2 / 3 : (  إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) السجدة )

3 / 2 / 4 :  (  إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) الجاثية )  

3 / 3 : بين اليهود والنصارى : ( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)   البقرة ).

4 ـ المختلفين فى عيسى عليه السلام : ( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) آل عمران )،

5 : وقت نزول القرآن الكريم :

5 / 1 : النبى محمد عليه السلام والكافرين :

5 / 1 / 1 : ( اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) الحج )

5 / 1 / 2 : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) الزمر )

5 / 1 / 3 : (  وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)  الزخرف )  

5 / 2 : المهاجرين وذويهم الكافرين : ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ )(3) الممتحنة )

5 / 3 : المنافقين من الصحابة وغيرهم : ( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )( 141)   النساء ) .

5 / 4 : المؤمنين وأهل الكتاب : ( إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) المائدة ).

أخيرا :

1 ـ هذا التعليم القرآنى نزل فى مكة والمدينة ليتربى الناس على الحرية الدينية المطلقة قبل وأثناء الدولة الاسلامية فى المدينة ، وأن لها جذورا فى الهدف من خلق السماوات والأرض ، وأنه لاختبار الانسان ، وأن هذه الحرية تترتب عليها مسئولية سيكون موعدها يوم الفصل ، والى هذا اليوم يتأجل الحكم فيها على البشر الى يوم الدين الذى يحكم فيه مالك يوم الدين .

2 ـ وكل إنسان له اختياره حين يوجد على هذه الأرض ويعيش فيها فترة عمره المقدرة له سلفا ، وبعد هذه الحياة يموت ويعود إلى البرزخ الذي منه جاء، ومطلوب من الإنسان في تلك الحياة أن يعرف أن الله أوجده في هذه الدنيا لاختبار يوم الفصل . وحين يقضى الإنسان حياته غافلا عن ذلك الهدف من وجوده يفشل في الاختبار ويكون مصيره إلى النار . وسيقال له حينئذ : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) 115 ) المؤمنون )

3 ـ ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قد جعل عناصر الاختبار متوازنة وعادلة ، فقد خلق الإنسان على الفطرة النقية العاقلة ، أي الميزان الحساس الداخلي الذي يميز بين الخير والشر والذي يؤمن بالله وحده ، وفى مقابل هذه الفطرة سلط عليه الشيطان للغواية ، وأرسل له الرسل وأنزل معهم الكتب الالهية ، وزين له الدنيا وغرورها، وفوق ذلك كله خلقه حرا في أن يطيع أو أن يعصى وفى أن  يؤمن أو أن يكفر ، وجعل له سريرة يحتفظ فيها بكل أسراره ونوازعه ومشاعره وهواجسه وأفكاره بعيدة عن متناول كل مخلوق سواه لتكون له ذاتيته المستقلة ، فإذا أراد أن يكون حرا كان حرا وإذا أراد بمحض اختياره أن يكون عبدا لغيره من البشر ومن الأفكار كان كذلك ، والمهم أن الاختيار في يده هو ، وعن طريق هذا الاختيار يستعمل الإنسان حريته كما شاء .

4 ـ هذه الحرية في الدنيا تنتهي عند لحظة الاحتضار والموت ، وبعدها يتعين على الإنسان أن يواجه مسئوليته عنها يوم الدين . وحديث القرآن الكريم عن يوم القيامة يأتي دائما بصيغة المبنى للمجهول ، يقول جل وعلا عنه فى سورة الزمر : ( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 69 ) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ) ( 70 ) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا  ) ( 71)  ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ) ( 73 ) .

5 ـ إن كل فرد ــ حتى من الأنبياء ـ سيؤتى به يوم القيامة ( مُحضرا ) مقبوضا عليه . قال جل وعلا :  

5 / 1 : ( وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)  (يس ).

5 / 2 : ( إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ) (53) يس ). أي يتم إحضارنا يوم الحساب حيث تنعدم  حرية الإرادة وإمكانية الهرب .

6 ـ فالله سبحانه وتعالى أعطانا حرية الإرادة في الدنيا ليختبرنا . وأنزل الدين فى كتب إلاهية ، ولم ينزل معها سيفا وملائكة تأمر الناس بإتباع ذلك الدين ، ولم يجعل الجحيم في هذه الدنيا بحيث أن من يكفر ويعصى يؤتى به ليلقى في الجحيم أمام أعين البقية من البشر ، ولو فعل هذا ما كان هناك اختبار أو امتحان ، وإنما أنزل الدين شأنا شخصيا ، من إهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها .

7 ـ والله جل وعلا لم يعط سلطته فى الدولة الاسلامية لبعض الناس ليعاقبوا باسمه من أختلف معهم في الرأي أو من كفر بالله . والذين يدعون لأنفسهم هذا الحق المزعوم إنما يفسدون القضية من جذورها ويتقمصون دور الإله حيث لا إله إلا الله ويتحكمون فيما رغب عن التحكم فيه رب العزة جل وعلا . هذه الفئة من البشر هم أعداء الرحمن جل وعلا ، لأنها :

7 / 1 : تزيف دين الله وتغتصب سلطاته التي هى لذاته يوم الدين.

7 / 2 : تعطى الحجة لمن ينكر حساب الآخرة وعذاب النار . فاذا كان هناك إرغام على الإيمان . وإذا كان هناك إكراه في الدين ، فلا مجال حينئذ لأن يكون هناك حساب وعقاب يوم الدين .

7 / 3 : يعطون دين الله تعالى وجها قبيحا متشددا دمويا متحجرا متأخرا . ويسهمون في إبعاد أغلبية الناس عنه . وهذا الوجه القبيح لا علاقة له بدين الله تعالى بل هو وجههم هم . وهو دينهم هم .

7 / 4 ـ وهم دائما يسعون الى فرضه على الآخرين بالقوة والعدوان ، وقد زعموا أنفسهم وكلاء لله سبحانه وتعالى فى الأرض ليقتلوا الناس باسمه وليفرضوا عليهم سلطانهم بحجة أنه شرع الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا .

8 ـ ولأنهم الأعداء الحقيقيون لدين الله فإن الله سبحانه وتعالى شرع القتال ضد عدوانهم .   فالقتال فى الاسلام ليس لإرغام الناس على دخول الإسلام وإنما لتقرير حق الناس في الإيمان أو في الكفر وفى رفع وصاية الكهنوت عليهم .

9 ـ إن الدين لله جل وعلا وحده ، ولم يجعل سلطة للأنبياء ـ وهم صفوة البشر ـ فى إكراه أحد على الإيمان ، وكل منا ينتهي اختياره بلحظة وفاته ، وبعد قيام الساعة سيواجه كل منا مصيره في يوم الدين .

اجمالي القراءات 1834