الثقافة والشهادة والفرق بينهما

عوني سماقيه في الأربعاء ٢٥ - يوليو - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الأصدقاء الأعزاء

أني أعيش في الولايات المتحدة الأمريكية في ولاية كارولينا الشمالية وفي بلدة صغيرة تعدادها لا يتجاوز أربعة آلافنسمة اسمها "الكن " Elkin " والاسم مشتق من حيوات الالك وهو من فصيلة الغزال ويشبهه الي حد كبير.
وفي هذه البلد، كما هو في أغلبية البلاد، مهما صغرت، توجد دار للكتب "يطلق ععليها اسم مكتبة وهي ليست بما يعرف في مصر بمكان لبيع الكتب والمجلات، فجميع الكتب والمجلات علي أنواعها متوفرة لسكان البلده ليقترضوها بالمجان؛ كما توفر المكتبة عدuml;دا من أجهزة الكمبيوتر للرواد بشرط عدم الدخول الي أية مواد مخلة بالاداب. ولقد تعودت علي ارتياد "المكتبة" لقراءت الكتب والمجلات حيث تتوافر فيها المقاعد المريحة واتي تطل علي منظرشلال صغير مريح للأعصاب. كما توجد مكاتب وماكينات لنسخ ما تحتاجه من المواد التي ترغبها. والمكتبة متصلة بشبكة المكاتب في الولاية بأجمعها، فلو افترضنا أنك ترغب في أية كتاب غير متوافر في هذه المكتبه فسوف يتصل القائم علي شئون المكتبة بجميع المكاتب الأخري بالولاية ويحضره لك في ظرف أيام بدون مقابل. ولقد تعودنا أنا وزوجتي علي الاستماع الي كتب مقروءة ،ومسجلة علي شرائط أو أقراص، في مشاوير السيارة التي تحتاج الي وقت طويل الأمد نسبيا حيث نقضي ما يقرب من ساعة ونصف عند ذهابنا أسبوعيا مرة أو مرتين الي بلدة كبيرة نسبيا سواء لعمل زوجتي أو لزيارة الأصحاب من أهل "البندر" مثل أخي الأصغر سنا والكبير مقاما، فوزي فراج.
والذي أود ذكره هنا أنه عند ذهابي الي المكتبة ألاحظ وجود عددا كبير نسبيا من الأطفال والشباب حيث يتراوح السن من خمسة سنوات الي العشرين، هذا الي جانب الشيوخ من أمثالي! وبالرغم من صغر سن البعض فلن تجد أيا منهم يتصايح أو يتكلم بصوت مرتفع. ولصغار السن، يوجد قسم خاص بهم حيث تجد الآباء يجلسون من أطغالهم ليقرؤا لهم أو يقرأ الكبار كتبهم والصغار الكتب الخاصة بهم وقد يسأل الطفل الأب أو الأم عندما تواجهه صعوبة ما أثناء قراءته. وهكذا ينشأ الطفل والقراءة عنده شيئا أساسيا في حياته. ويحضرني هنا أن أحفادي الاثنين منذ الصغر كانوا معتادين علي قراءة الكتب وفي أثناء دراستهم المعادلة للمرحلة الاعدادية كان عليهم أن يقرؤا كتابا في الأسبوع يناقش في الفصل الدراسي ويحاسب التلميذ علي مدي استيعابه لما قرأه. وهذه الكتب قد تكون قصصا لكتب مشهورين مثل مارك تواين، أو قصصا كلاسيكسة أو علمية؛ وتكون مهمة المدرس انتقاء الكتب حتي لا يمل التلاميذ.
وهنا تحضرني الذاكرة أثناء الدرسة الثانوية في الأربعينات، أو الجامعية في الخمسينات، أنه لم توجد مكتبة في المدرسة، أو ما يمكن تسميته مكتبة في كلية الهندسة. وأتذكر أنه في العام الثاني من دراستي بهندسة الاسكندرية أني حاولت اقتراض كتاب غي علم الميكانيكا. وبعد جهد من السؤال عن مكان المكتبة علمت بأنها في الدور الثاني من مبني الادارة (علي ما أتذكر) فذهبت وحاولت أن أقترض الكتاب الوحيد الذي وجدته في الموضوع ولكن المسئول ضحك وكأني كنت أمزح "يا أستاذ مفيش كتاب يطلع من هنا" فقلت "أنا عندي محاضرات من الساعه الثامنة صباحا الي الساعة الواحدة والنصف ظهرا، ثم تبدأ المعامل العملية والنظرية الي الساعة الخامسة (وقت انتهاء مواعيد المكتبة) فمتي أقرأ؟ ثم أنه لم توجد أماكن مريحة للقراءة!
وكانت هذه أول وآخر مرة أذهب فيها للمكتبة طوال خمسة سنوات وسنتين للدرسات العليا.
وهاجرت الي أمريكا بعد عام النكسة ولأسباب عديدة يصعب ذكرها في هذا المقام، ووفقني المولي تعالي أن يتم أولادي الدراسة الجامعية وأن يكمل أحدهما دراسته في احدي الجامعات المرموقة. وفي احدي المرات كنت أزوره تمدة أسبوع، وسألته ان كان من الممكن أن يقترض لي كتابا لنجيب محفوظ، أولاد حارتنا (أو أولاد جبلاوي) فقال بالطبع. وذهبت معه لأجد أن هناك أكثر من مكتبة: واحدة للطلاب في المرحلة الأولي(graduates under-) والثانية للدراسات المتقدمة والمدرسين, والثالثة للأساتذة. وذهلت للامكانيات الهائلة المتوافرة لطلاب العلم. وللعلم، فقد وجدت كتاب نجيب محفوظ باللغة العربية وأيضا مترجم للانجليزية.
وقد يتساءل البعض عن سبب هذه المقدمة الطويلة! والاجابة هي أني قرأت في الجرائد المصرية علي الانترنت ما كتب عن نتيجة الثانوية العامة وأن عدد التلاميذ الحاصلون علي أكثر من 100% بلغ 1661 كما أن الحد الأدني للقبول في كلية الطب هو %.798 كما أن كلية الاقتصاد تتطلب %97.4 ! ويا للعجب!
في الخمسينات كانت كلية الطب تطلب فوق السبعين في المائة والهندسة حوالي الستين. فهل تري أن الأجيال الحالية علي مستوي أرقي كثيرا من الذكاء حيث أن أول الثانوية العامة في أيامي كان حاصل علي% 90 وكنا نعتبره نابغة لن تتكرر!
والاحتمال الثاني هو أن مستوي التعليم والتجاوز في التصحيح مختلف عن الأيام الماضية.
وتري ما مدي المعلومات العامة لخريجي المدارس والجامعات المصرية وما مدي امكانية اطلاعهم علي الكتب المختلفة في نواحي الثقافة والمعلومات العامة؟
سمعنا عن مكتبة الاسكندرية الجديدة التي قام بافتتاحها الكثيرين من كبار رجال، ونساء، الحكم. والاسكندرية مدينة كبيرة يسكنها، مع ضواحيها، علي ما بلغني ما يقرب من سبعة ملايين نسمه. ولكني لا أدري عن مدي سهولة اقتراض الكتب منها وهل يتوافد عليها أفراد الشعب بنقس النسبة في بلدتي الصغيرة الكن؟

الاخوة والأخوات ... علي ما تعلمت، سواء في المدارس أو في معترك الحياة، الثقافة هي أساس نهوض أية أمة تبغي الارتقاء. الثقافة لا تمت الي الشهادات التي تعطي للطلاب. ان شخصا مثل بيل جايت Bill Gates) ( ،والذي وصل ليكون أثري رجل في العالم أجمع، لم يكمل دراسته الجامعية لسبب انشغاله بتكوين شركته (ميكرو سوفت) ولكن ذلك لم يقف في سبيل ثقافتة. وقد قاد شركته الي أعلي المستويلت ماديا وعلميا. وقد شاهدته وسمعته في مناسبات عديدة علي التلفزيون، كان آخرها عندما رجع من القارة الأفريقية من زوجته بعد التبرع بمئات الملايين من الدولارات لانشاء مستشفيات ومدارس ولمحاولة الحد من مرض الايدز. وكم أعجبت بذلك الرجل البسيط والمتواضع والخير وبمدي ثقافته ومعلوماته العامة التي جمعها من قراءاته وليس من شهاداته!

وهنا تحضرني شخصية أخري تثير الاعجاب، وهي شخصية أوبرا وينفري ( Oprah Winfrey) والتي نشأت في عائلة ليست غنية بأي المعايير وكافحت حتي وصلت الي أعلي الدرجات من الثقافة والغني. ولدت في أوائل الخمسينات سوداء في ولاية تينيسي المشهورة بالاضطهاد العنصري. وكافحت وقرأت كتيرا حتي نالت من الثقافة ما أهلها لشفل منصب فر شركة تليفزيون محلية (كانت ما زالت في دراستها الثانوبة) ومنها الي شركة تليفزيون في مدينة شيكاجو وأسست ما سمي بمنتدي أوبرا للكتاب حيث كانت تقرأ كتبا كثيرة قبل أن ترشح أحدهم لينضم الي مجموعتها لتناقشه في برنامجها علي شاشة التليفزيون. وكانت الكتب التي ترشحها في أغلب الأحيان تصل في الحال الي قائمة الآكثر بيعا Best Seller) )
وهنا وجب ذكر أنها هي الأخري ذهبت الي أفريقيا وتبرعت بملايين عديده لتنشئ مدارس للاناث. وفي أربعة أعوام متتالية كان اسمها علي قائمة أكثر الشخصيات النسائية تاثيرا.
تري كم من سيداتنا من مقدمي البرامج في التليفزيون يقرب من أوبرا ثقافيا؟

أصدقائي، في اعتقادي أنه لن تتقدم بلادنا الي ما نصبوا اليه ان لم نحرص علي الثقافة والتعليم الجاد ليس لغرض الحصول علي شهادة بل لكي نستطيع أن نساير ركب الحضارة.

وأنهي مقالي بحكاية حدثت لي عند تخرجي من كلبة الهندسة عام 1956 . جاءني أمر التكليف للعمل في ورش بلدية الأسكندريه بالحضرة. وكان معي في أمر التكليف زميلي في الدراسة المهندس عادل عبد الواحد حيث كان تخصصنا هندسة السيارات. وعند ذهابنا الي مكان عملنا تبين لنا أن الورش ليست لديها في الواقع حاجة لأية مهندسين. كانت الورش مخصصة لصيانة سيارات البلدية بجميع أنواعها. وكانت طرق الصيانه بدائية ومليئة بالأخطاء الفنية والتي في الواقع تضر أكثر مما تفيد. وأخذنا الحماس حيث تقدمنا سويا بمشروع للارتقاء بمستوي العمل الفني. وتقدمنا بمشروعنا الي وكيل الورش وهو مهندس معماري فقال "والله يا ولاد ده موضوع شائك والمفروض يتعرض علي المدير." وبحماس الشباب المتهور جاوبنا سويا "طب وماله.. نعرضه علي المدير طبعا". وذهبنا الي المدير وعرضنا عليه مشروعنا وشرحناه بالتفصيل مع بيان الأضرار الحالية وما يمكن تفاديه منها. وبسرعه أخذ السيد المدير ألاوراق ووضعها في سلة المهملات "الزباله" وقال: "شوفوا بقي يا ولاد ... البلدية بقالها فوق الخمسين سنه ماشية كده وحتمشي كده كمان خمسين سنه ولا انتم ولا الي أجعص منكم حيقدر يغيرها"
سلمنا أمرنا الي الله. وبدأت أحضر معي كتابا في هندسة السيارات لكي أمضي وقتي في قراءته. وفي اليوم التالي دخل السيد وكيل الورش ورآني أقرء فسألني "انت بتقرا ايه" ... يا داهيه دقي ... اتخرب بيتك يا عوني والأمر لله. "لا يافندم دا كتاب في هندسة السيارات" وذهلت عندما قال "ليه يابني ...هو انت عندك امتحان؟ مش انت اتخرجت وللا ايه؟" وجاوبت "تمام يافندم اتخرجت بجيد جدا" ونظر الي بعطف قائلا "تعالي يا عوني في مكتبي أجيبلك قهوه وتقرأ الأهرام والأخبار ... ألا قوللي والنبي ... ايه الفرق بين الكربوراتير والرادياتير؟ أنا دايما متلخبط بينهم"
أصدقائي ... لست أبالغ ولا أتهكم ... بل هذا حدث بالتفصيل والله علي ما أقول شهيد.
وتحياتي وأطيب تمنياتي لكم.

عوني

اجمالي القراءات 7239