فقه الاستضعاف

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٢ - نوفمبر - ٢٠٢١ ١٢:٠٠ صباحاً

فقه الاستضعاف
أولا : استضعف واستقوى
1 ـ ال ( س ) و ( التاء ) إذا أتتا في بداية الفعل يكون معناه الطلب . ( خرج ) عندما تكون ( استخرج ) اى يطلب إخراج شيء ، قال جل وعلا في قصة يوسف : ( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ) ٌ (76) يوسف ). (سقى ) تصبح طلب السقيا حين تقول : ( استسقى ) ، قال جل وعلا في قصة موسى : ( وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ) ( 60) البقرة ). ( نكح ) أي عقد الزواج ، يختلف المعنى حين يُقال ( إستنكح ) أي طلب التزوج . قال جل وعلا : ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا )(50) الأحزاب )،( رضع ) غير ( استرضع ) ، قال جل وعلا : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) ثم في نهاية الآية:( وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ )(233) البقرة) . وهو الفارق بين ( ضعف) و ( إستضعف ). قال جل وعلا في قصة موسى : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ ) (4 ) القصص)، أي إستعمل وطلب من الوسائل التي تجعلهم ضعفاء . وفى مقابل ( استضعف ) يكون ( إستقوى ) أي طلب أن يكون قويا . هذا هو المعنى ( اللغوى ) للاستضعاف ، وأيضا ( الاستقواء ).
2 ـ هذا يخصّ من ليس طفلا ولا طاعنا في السّن ولا صاحب عاهة ، ولا صاحب مرض . نتكلم عن إنسان عادى ، هو الذى يشاء أن يكون ضعيفا أو أن يكون قويا . إذا شاء أن يكون ضعيفا فقد أعطى الفرصة لمن يطلب ( إستضعافه ) ، وإذا شاء أن يكون قويا فهو في نفسه يطلب أسباب القوة فيستقوى بها . وهذا وذاك هو داخل النفس ، وهى التي تقرر ، وهى التي تسيطر على الجسد ، وتوجهه الى أن يرفع رأسه عزّة وكرامة ، أو أن يحنى ظهره راضيا بالإهانة .
ثانيا : الحتميات
1 ـ الحتميات التي أشرنا لها سابقا هي أساس الاختيار ، من الميلاد والموت والرزق والمصائب . ليس هذا محتاجا الى تدبر قرآنى ، أنّه مُدرك بالفطرة ، يعبّر عنها قول المصريين ( العُمر واحد والرب واحد ) , ( ما ياخدش الروح إلا خالقها ) ، وأيضا قول المثل الشعبى المصرى : ( يا فرعون إيش فرعنك ، قال ما لقيتش حد يوقفنى ).
2 ـ أهم الحتميات في موضوعنا هو ( الموت ) الذى لا فرار ولا مهرب منه . الذى يختار العزّة والكرامة لا يخشى الموت ، والذى يختار أن يكون مُستضعفا يؤثر الحياة مهما كانت ذليلة ، ولديه إستعداد مسبق لتحمل الذُّل في سبيل أن يبقى على قيد الحياة .
3 ـ إذن لدينا هنا (طلب للقوة ) ( إستقواء ) داخل النفس، أو( طلب للضعف ) ( إستضعاف ) داخل النفس . طلب الاستضعاف هذا يمهد الطريق للظالم أن ( يطلب ) ضعف من قرر بنفسه أن يكون ضعيفا ، أي يأتي ( الاستضعاف ) من الظالمين بناء على استعداد مسبق من ( المُستضعفين ) . في المقابل فإن من يستقوى بنفسه ولا يرهب الموت لا يمكن أن يكون فريسة سهلة للظالمين ، بل هو الذى يكسب وينتصر ، لسبب بسيط هو ( الموت والحياة ) . الظالمون هم أيضا ( يطلبون الحياة ) و( القوى بنفسه ) في مواجهتهم ( يطلب الموت ). هم يحرصون على الحياة وهو يحرص على الموت ، فهو المُنتصر مقدما حتى لو قتلوه ، لسبب بسيط أيضا إنه الذى طلب الموت / القتل مسبقا . هو ( يستميت ) أي يطلب الموت دفاعا عن حريته ، وهو ( يستقتل ) دفاعا عن كرامته .
ثالثا : وسائل الاستضعاف : التعذيب والتشهير و( التجريس )
1 ـ فرعون موسى لم يستضعف طائفة فقط من المصريين ، بل باستضعافه هذه الطائفة أرعب بقية المصريين . لذا ترى المصريين يتم جمعهم وحشرهم كالأنعام في أي وقت، نفهم هذا من بعض آيات القرآن المجيد :
1 / 1 : ( قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) طه )
1 / 2 : ( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) الاعراف ) ( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) الشعراء )
2 ـ مصر وقتها كانت مليئة ب ( المدائن ) ، بل لم يأت لفظ ( مدائن ) إلا في مصر. هذه المدائن كانت عامرة بالمصريين . قام فرعون بتعذيب بنى إسرائيل ليرهب بقية المصريين . لم يكن تجميع الأطفال وذبحهم سرّا ، بل كان علنا لارهاب جموع المصريين الباقين . وهنا يرتبط التعذيب بالتشهير أو ب ( التجريس ) . وهو أيضا ما فعله فرعون موسى حين أمر بصلب السحرة وتقطيع أرجلهم من خلاف : ( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) الشعراء )
3 ـ فرعون وقومه صاروا أئمة للطغاة بعدهم . قال جل وعلا عنهم : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ )(41) القصص ) . وسار على ( سُنّته ) الطُغاة اللاحقون من الملوك والخلفاء والسلاطين . مارسوا التعذيب والإرهاب والتجريس ، واصبح صلب جثة الضحايا والطواف بالرؤوس المقطوعة عادة مرعية ، حافظ عليها الخلفاء ، بدءا من يزيد بن معاوية مع رأس الحسين . لم يعد هذا مستساغا في عصرنا ، فلجأ المستبدون الى وسيلة أخرى يرهبون بها الشعب ويستضعفونه ، وهى نشر أنباء التعذيب .
رابعا : نعطى أمثلة لاستضعاف الشعب وارهابه :
1 ـ التشهير والتجريس فقط :عندما ظهر فساد الخليفة عثمان بن عفان واعترضوا عليه قام عثمان بتسيير معارضيه أى كان يُطاف بهم فى الشام والعراق . وهو ما صار يُعرف بعده بالتشهير والتجريس .
2 ـ : الصّلب : في عام 231 هجرية قتل الخليفة الواثق العباسى ابن نصر الخزاعى بنفسه ، وأمر بصلب جسده فى مكان وتعليق راسه فى مكان آخر ، وهذا لارهاب جماعته الذين أرادوا السيطرة على الناس باسم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وفقا لحديث صنعوه ، وهو ( من رأى منكم منكرا فليغيره ) . أراد إستضعافهم بهذا . ولكن تغير الحال فيما بعد بوصول المتوكل بعده للحكم ناقما على أخيه الواثق . ما فعله الواثق بجثة ابن نصر ورأسه كان التشهير ، والذى صار عادة بعدها ، يكون ضحاياها من الأحياء .
3 ـ التشهير والسلخ والتسمير والقتل
3 / 1 : اشتهر المماليك باختراع أنواع فظيعة من القتل ، منها التوسيط ( قطع الضحية نصفين ) والشىّ بالنار والسلخ للأحياء ، سلخ جلد الضحية وهو حىّ .!!. وقد يرتبط السلخ بالتشهير أى يطاف بالمسلوخين المساكين في شوارع القاهرة ليتفرج عليهم الناس وينادى عليهم :( هذا جزاء من يفعل كذا)، وفي النهاية يتم صلبهم حتى يموتوا أمام أعين الناس.
3 / 2 : يذكر المؤرخ ابن الصيرفى في تاريخه : ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) عن عصر السلطان ( المتديّن) قايتباى في أحداث يوم السبت 29 ذى الحجةعام 876 ، أنهم طافوا في شوارع القاهرة بثلاثة مسلوخين من أكابر أعراب بنى حرام ، كان قد قبض عليهم الأمير قنصوه، فسلخهم وجهزهم- على حد قول مؤرخنا- وبعد أن طيف بهم في القاهرة أرسلوا إلى خارجها ليصلبوا أياماً ( ويرتدع المفسدون من قطاع الطرق من الأعراب.). العبارة الأخيرة هي المهمة . وتفنن المماليك في جريمة السلخ، فأحيانا كانوا يسلخون الضحية المسكين ثم يحشدون جلده تبناً أو قطناً يطوفون به في الشوارع جنبا الى جنب مع الضحية المسلوخ . وحدث هذا فى أواخر جمادى الأول 875 .
3 / 3 : ومنه التسمير والتوسيط بأن يعرّى المحكوم عليه بالإعدام من الثياب ثم يثبتون أطرافه بالمسامير فى خشبتين على شكل صليب ويطرح مصلوبا عليها ، ويوضع على ظهر جمل ، و يطاف به في الشوارع على هذا الحال وهذا هو التشهير . ثم يأتى السياف فيضرب المحكوم عليه بقوة تحت السرة فيقسم الجسم قسمين من وسطه فتنهار أمعاؤه إلى الأرض. وفي يوم السبت 13 ذى القعدة 875 أمر السلطان قايتباى بتسمير ستة أشخاص من قطاع الطرق وأن يتم توسيطهم بقليوب، فأشهروهم على الجمال ، يقول المؤرخ ابن الصيرفى : ( وعلقت جثثهم ليرتدع أمثالهم عن هذه الأفعال المنكرة . ) العبارة الأخيرة هي المهمة . لذا يختم مؤرخنا بقوله ( ..رب سلّم !!.). وفي اليوم التالى وهو 14 من ذى القعدة 876 أمر السلطان بتسمير أربعة من العربان والمفسدين على الجمال، اثنان بالجيزة واثنان من غيرها، وأشهروهم بالبلد، ووسّطوا منهم اثنين بباب النصر بالقاهرة لقربهم من أعراب بنى حرام ووسطوا اثنين بمصر لقربهم من الجيزة. وأمر السلطان ( المتديّن ) قايتباى بسلخ أربعة من الفلاحين عجزوا عن دفع الضرائب . قال ابن الصيرفى ( وأرسلوا إلى البلاد فاشهروا بها .. ليرتدع بها أمثالهم ). العبارة الأخيرة هي المهمة .
خامسا : الفرعون يلجأ الى استضعاف الشعب وارهابه في بداية حكمه بالذات ونعطى أمثلة
1 ـ تمّ إعداد الضابط جمال عبد الناصر ليتولى حكم مصر بانقلاب عسكرى ، وتصنيعه زعيما شعبيا . لم يكن بزعامته الشعبية محتاجا لتعذيب أحد ، خصوصا من كان يعمل معهم في خلاياهم السرية من قبل كالإخوان والشيوعيين . ولكن كان لا بد من إستضعاف القوى الحيّة في مصر . أسرف عبد الناصر في تعذيبهم ، من بقى على قيد الحياة منهم وخرج من السجن صار مُستضعفا يهتف للزعيم . !
2 ـ بعد الثورة الشعبية المصرية على العسكر ( 25 يناير 2011 ) انتهت الأمور الى رجوع العسكر للحكم ، بعد عدة مذابح لاستضعاف المصريين . ثم وصل عبد الفتاح السيسى للحكم بانقلاب عسكرى ، وجد تأييدا شعبيا كراهية في الاخوان المسلمين . كان يمكن للسيسى الاعتماد على هذه المشروعية الشعبية في مواجهة فلول الاخوان الذين إعتصموا في ميدان رابعة . وكان سهلا جدا فضّ هذا الاعتصام بخراطيم المياه . ولكن لاستضعاف المصريين ارتكب السيسى مذبحة رابعة في 14 أغسطس 2013 ، وبعدها إنفرد بالحكم باستبداد غير مسبوق .
3 ـ كان الأمير محمد بن نايف وزير الداخلية هو الأقوى من أحفاد المؤسس عبد العزيز ، فأصبح وليا للعهد في ولاية الملك سلمان بن عبد العزيز . وسجد له ابن عمه محمد بن سلمان ، وبعدها كان عزل محمد بن نايف من جميع وظائفه في 21 يونية عام 2017 ، وتعيين ابن سلمان وليا للعهد ، ثم سجن ابن نايف وتعذيبه وتعذيب الكثيرين من الأمراء . وبهذا إستضعف محمد بن سلمان كبار الأمراء ، ومهّد لنفسه الحكم مستبدا.
خامسا : المستضعف مُحبُّ للحياة وخائف من الموت
1 ـ حُبّا في الحياة وحرصا عليها إستسلم سريعا أقوى رجل في السعودية ( محمد بن نايف ) ، وأعطى يديه للقيود بلا مقاومة . هذا مع إن الخوف من الموت لا يمنع الموت ، بل يجعل الخائف أشبه بالموتى. تدبّر قول الله جل وعلا عن خوف الصحابة المنافقين ( فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ )(19) الأحزاب ) ( ( فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ ) (20) محمد ). في حالة الخوف يكونون أقرب الى الموت حرصا منهم على الحياة ، ولكن لا مهرب من الموت . لو نزعوا خوف الموت من أنفسهم ما عاشوا في ذلّة ، ولماتوا أيضا في موعدهم المحدّد سلفا .
2 ـ ونعطى مثلين من التاريخ المملوكى :
2 / 1 : في شهر جمادى الأول 680هـ يروى المقريزى أنهم قبضوا على قاطع طريق مشهور اسمه الكريدى، فسمّروه على جمل ، وأقاموا عليه أياماً يطوفون به في أسواق مصر والقاهرة ، وتعاطف معه الحارس الموكل به فقطع عنه الطعام والشراب، فلما جاع وطلب الطعام : ( قال له الحارس : " إنما أردت أن أهون عليك لتموت سريعاً حتى تستريح مما أنت فيه،" فقال له: " لا تقل كذا فإن شر الحياة خير من الموت!!" فناوله الطعام والشراب، فأتفق أنه شفعوا فيه ، فأطلقوه وسجنوه ، فعاش أياماً في السجن ثم مات . ). حرصه على الحياة مع حالته تلك ــ يُطافُ به مسمّرا على جمل ــ لم يُنجه من الموت . مات في موعده .
2 / 2 : كان المعتاد إجبار السجناء في عصر قايتباى على التسول لصالح السجّان ، وكانت على السجين أن يجمع من تسوله قدرا محددا ، وإلا تعرض للتعذيب . أحد السجناء لم يستطع جمع المطلوب فحاول الهرب خوفا من العذاب ، لحقه السجان ، ودارت بينهما معركة انتصر فيها السجين وقتل السجان. أمر السلطان قايتباى بتوسيط المسجون في يوم الأحد 11 صفر 875 . إستراح المسجون ومات في موعده ، ولكنه إنتقم من السجان على أي حال .!
أخيرا
قبل أن تستسلم وتعطى يديك للقيود هاجم هذا الذى يأتي ليقبض عليك ، ففي النهاية فلا مفرّ من الموت على أي حال . وتذكر قوله جل وعلا : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ )(78) النساء ) ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ )(8) الجمعة ).
اجمالي القراءات 2217