هل هناك فائدة للكتابة لمن لا يسمع!
لن أكتب عن جمال خاشقجي!

محمد عبد المجيد في الجمعة ٠٢ - أكتوبر - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 
كعادتي الساذجة في حُسْن النيــّة لدىَ التعامل مع قضايا عربية إنسانية واتخاذي موقفا أخلاقيا ظنا مني أنني سأكون في حزب الأغلبية الرافضة للظلم، وجدتُ أنَّ أعوامي الطويلةَ لم تُعلـّمني أنَّ حِسَّ العدالةِ في عالمنا العربي نائمٌ في أغلب الأوقات، أو يتلقىَ التوجيهاتِ من القصرِ أو من المنبر إذا أرادوه مستقيظــًا.
بعد شهرين من تصفية جمال خاشقجي في قنصلية بلدِه في استانبول، ونـَـشْر جثته بمنشار جاء في طائرة خاصة، وتسليمها لمتعهد دفن أو حرق أو إخفاء الموتىَ؛ كنت قد تأكدت أن صمتَ قلمي إذا تباطأ سيصبح جريمة ضمير، فكتبتُ رؤيتي الشديدة مُحمِّلا ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان المسؤولية كما كانت تشير كل الدلائل والقرائن والاعترافات الضمنية والتقارير الصحفية.
لم أهاجم الملك سلمان فخبرتي الشخصية كانت تدعمني؛ فأنا أعرفه واقتربتُ من رؤيته في قضايا كثيرة، وتحدثت وكتبت في عهده، أميرا لمنطقة الرياض ما لم يكتبه صحفي آخر عن التطرف الديني والمؤسسة الدينية المتخلفة ورفضي للنقاب ودفاعي عن الطفل الذي تمنعه المؤسسة الدينية أن يركب السيارة التي تقودها أمه، ولكن يتم حشره في سيارة سائق أجنبي و.. محروم جنسيا. 
كتبت الكثير وتمنيته ملكا عندما كان وليا للعهد، ووليا للعهد عندما كان أميرا لمنطقة الرياض، في كتابات صريحة أثارت غضب الكثيرين في المملكة إلا هو، فقد ظل الملك سلمان داعما معنويا لقلمي، وأوصىَ وزيرَ الإعلام المستشار علي الشاعر، رحمه الله، بي خيرًا، أي حمايتي من المتطرفين، وفي زيارتي الأخيرة شعرت بالخطر إلا أنَّ استقبال الأمير سلمان(الملك) لي كان إشارة للجميع أنني في حمايته.  وكنت قد قررت أن لا أزور المملكة ما بقي لي من عُمر بعدما داخلني الشك إثر زيارتي الأخيرة.
لكن بعد وصول ابنه الأمير محمد بن سلمان إلى الحُكْم، عمليــًا وليس رسميــًا، وخضوعه لابتزاز ترامب المالي، وصمته على إهانة الرئيس الأمريكي علنـًا لوالده الملك سلمان، ثم اعتقاله لعشرات من أقاربه الأمراء والمسؤولين ليدفعوا الإتاوة كما يدفع هو لواشنطون تغيرت زاوية رؤيتي له؛ وليس للملك الذي ما زلت أحمل له كل المحبة فكان وهو أمير للرياض يستقبلني استقبالا حفيا وجميلا ودافئا رغم كتاباتي الشديدة.
ثم جاء الثاني من أكتوبر عام 2018 فانكسر ما بيني وبين المملكة، وأضحت زيارتي المستقبلية مستحيلة، حتى لو أطال الله في عُمري، وكتبت، كما قلت، بعد شهرين من تقطيع جسد الصحفي السعودي حيث أصبح الصمتُ أمَّ الجرائم.
ظننت للوهلة الأولىَ أن الجريمة ستحرّك ضمائر المسؤولين والمثقفين والإعلاميين في عالمنا العربي؛ لكنني كنت غارقــًا في أوهام المثالية، وهذا ليس فكراً فوقيــًا، معاذ الله؛ فلست أفضل أو أشجع من زملائي ممن يخطّون أوجاعَهم على الورق، لكنني للحقيقة صُدِمْت من البلادة والتناحة والبرود والسكوت كأن من أنتظر كتاباتِهم ومواقفَهم المُعلنة والجريئة التي تدين جريمة الغدر بإنسان أعطته السلطات السعودية الدبلوماسية الأمانَ فقطع المُنشارُ الاثنين معا: العهد و.. جسدَ المغدور به!
حينها دبَّ اليأسُ من الضمير العربي في نفسي، فمن يضع يدَه في جيب ولي العهد السعودي لن يسحبها ليضعها فوق المصحف الشريف ويُقسم بالله على العدل.
بعد ذلك وجدت أنْ لا فائدة من الحديث عن هذه الجريمة بالذات فحفيفُ أوراق المال أعلىَ صوتـــًا من حناجر المسؤولين والمثقفين والإعلاميين، فبيننا وبين الدفاع عن المظلومين والشهداء والمقتولين والمقطوعين والسجناء والمعتقلين بُعد المشرقين.
نظرت حولي في العامين المنصرمين فعثرت بشق الأنفس على صيحات حيّة خارجة من حناجر غمستْ حبالــَها الصوتيةَ في القلوب والعقول و.. الضمائر!
لهذا فليس لديَّ ما أقوله اليوم بمناسبة مرور عامين على الجريمة، فالمفاوضات على ثمن الصمت يمكن أنْ تجريها أمريكا والغرب وتركيا وقطر وإيران، في المساجد والكنائس والمعابد، في دور النشر الكبيرة ومكاتب كبار الصحفيين في بروجهم العاجية، ولن يبقىَ غير خطيبة جمال خاشُقجي وذكرياتها معه، وبعض زملائه، وعدة أسطر تحت عنوان: حدث في مثل هذا اليوم!
سيأتي اليوم الذي نقوم فيه بوصف السمك الذي ينسىَ أن ذاكرتَه مثل ذاكرة الإنسان .. العربي!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 2 أكتوبر 2020
     
 
اجمالي القراءات 2111