مصر والارهاب الديني .. كلنا قتلة

محمد عبد المجيد في الجمعة ٠٦ - يوليو - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً



هذا المقال نشرته عام 1993 أي منذ أربعة عشر عاما ثم ضمَنته كتابي ( مداخلات ممنوعة .. أحاديث لا ترضي الرقابة ) ، وأعيدُ نشره الآن لعل الذكرى تنفع المؤمنين، ونطيل النظر للمشهد المصري خلال تلك الأعوام.

الإرهاب الديني بدا يوم بدأت المزايدة الشعبية على الإسلام، فكانت الهوية الدينية تساهم إلى حد كبير في تغطية كل الجرائم والآثام. فوالد الفتاة المصرية التي يتقدم لها شاب يشترط فيه أن يكون متدينا، لا يعرف غير المسجد والبيت، أما الأمور الأ&Iute;أخريات كالثقافة والعدل والرحمة والأمانة ودور هذا الشاب في مجتمعه فلا تهم في قليل أو كثير، إنما المهم أن يراه كل من يعرفه مؤديا الصلوات الخمس في المسجد. ورب الأسرة يشترط على أولاده مصاحبة الشباب المتدين فقط، أي الذي تبدو على ظاهره أمور الورع والتقوى، لكن رب الأسرة هذا لا يسعى لمعرفة أبعد من الظاهر، وهو يعلم تماما أن هذه الأشياء هي الأسهل تمثيلا، وهي المَخرج من مصاعب ومشاكل قد يتعرض لها أي شخص.
والكُتّاب الإسلاميون تسابقوا في العقد الأخير لوصف الصحوة الدينية، مبشرين الأمة الإسلامية بالانتصار على الأعداء، واكتساح العالم الغربي الذي سيأتيهم راكعا مسبّحا بحمد الله( كما كتب عبود الزمر في صحيفة الأحرار من معتقله في القاهرة). سباق محموم غريب اشترك فيه تقريبا كل الكتاب الإسلاميين، أو المحسوبين على الصحوة الدينية، تمهيدا لحجز أماكن لهم في المجتمع الجديد، المجتمع الذي وصفه سيد قطب بنواة الأمة الإسلامية عندما يتم القضاء على الطاغوت وتسليم الحكم لله، بعد انتزاعه من أيدي الجاهلية الجديدة.
لا يهم بعد ذلك من الذي سيحكم؛ فالخطوات واحدة في كل مكان. وجعفر النميري كان لا يرحم صغيرا أو عجوزا أو امرأة، لكن إعلانه بأنه يحكم بما أنزل الله، ويقطع أيدي اللصوص ( الذين تقتلهم المجاعة) كان كفيلا أن يلجم الأعداء (!!) والمهووسين الذين يطالبون بالديمقراطية والانتخابات العادلة والنزيهة، وحقوق المواطن. وعندما جاء إلى السلطة قاتل جديد، وبلطجي معروف، كان لا بد من تغطية دينية ظاهرية تمده بطاقة الاستمرار في السلطة والإمساك برقاب شعبه واستنزاف ثروته، فقرر" أسلمة" القوانين السودانية وقطع أيدي بعض عجائز الخرطوم وأم درمان، وجلد نساء ضعيفات خرجن من بيوتهن بعد الساعة الثامنة مساء.
حينئذ وجد عمر البشير الجماعات الدينية بكل أنواعها، الترابية والأفغانية والإخوانية والتميمية، تؤيده وتشد من أزره، وتتولى إعلاميا الدفاع عنه، حتى أن صحيفة " الشعب" المصرية المعارضة لولا بقية من حياء لجعلت منه خليفة المسلمين.
في مصر كان إطعام الوحش الديني يجري على قدم وساق، ودخلت السباقَ كلُ فئات الشعب. فالسيدة كاملة صاحبة عمارة الموت كانت محجبة وتؤدي العمرة كل عام. والريان، أكبر لصوص القرن العشرين في مصر، يقاطع المحكمة ليؤذن للصلاة وهو خلف قفص الاتهام، فتنتظره هيئة المحكمة، وتخشع القاعة بكل مَنْ فيها لأن الريان يؤدي الصلاة ولا يستطيع تأجيلها نصف ساعة حتى تنتهي المحكمة. ودار الزهراء للنشر تدخل السباق بعشرات من الكتاب والإعلاميين وأنصاف المثقفين وأرباع الأميين من أجل إغراق الأسواق بكتب غريبة يقف على رأسها أول دفاع علني عن الإرهاب واللصوص في مصر، بقلم الكاتب الماركسي الإسلامي محمد جلال كشك تحت عنوان"مذبحة شركات توظيف الأموال".
ويزداد عدد المشتركين في المزاد الديني، فيدخل فيه الفنانون والراقصات والهاربات من مباحث الآداب والأميون ومضيفات شارع الهرم، والصحفيون المحترمون وتجار وكالة البلح وأعضاء المجالس النيابية والرياضيون، وكل فئات الشعب تقريبا.
المهم أن يحصل كل مشترك على الهوية الدينية، فتتفتح له الأبواب والنوافذ ويدخل مغارة علي بابا.
أحد لاعبي كرة القدم المصريين وجد طريقة سهلة لدخول المزاد، عندما استدعاه التلفزيون لعقد لقاء يتحدث فيه عن فن اللعب، فاشترط أن ترتدي مقدمة البرنامج التي ستستضيفه الحجاب.
ولأن المجتمع كله تساهل في الإرهاب الصغير، فقد دفعت مصرُ ثمنا غاليا عندما كبر وتوحش وامتد إلى كل مكان، من معابد الأقصر إلى الأبرياء الجالسين في مقهى وادي النيل، ومن السياح الذين أتوا إلى بلد الأمن والسلام، إلى تلاميذ المدارس الذين لم يبلغوا الحلم بعد، ومن أمراء الجهاد المهووسين بالعنف والجنس إلى آلاف من المساجد الأهلية التي تحولت إلى قلاع للإرهاب، بدلا من ان تكون بيوتا يذكر فيها اسم الله، ويتوجه المؤمنون إليه سبحانه بالشكر والتسبيح.
حتى أساتذة الجامعات، المفترض فيهم العقلانية والاستنارة، أدلوا بدلوهم، واتخذ معظمهم موقفا متعاطفا مع القوى الظلامية، فيدخل أحدهم قاعة المحاضرات التي ألقى فيها مئات المحاضرات من قبل، ثم فجأة ينزل عليه وحي الشيخ عمر عبد الرحمن ويرفض إلقاء المحاضرة قبل أن تنقسم القاعة إلى طالبات على اليسار وطلاب على اليمين، ووضع حاجز بينهم! الهدف الواضح والصريح الذي يرمي إليه البروفيسور المحترم هو الإيحاء للجماعات الدينية التي استولت على مقاعد اتحادات الطلاب وهيئة التدريس أنه منهم، وأن رضاءهم عنه أهم من أي مبدأ كان يعتنقه من قبل، فمن يدري فربما كان لهم نصيب في حكم مصر!!

وترتفع درجة حرارة المزاد الديني، فترفض مجموعة كبيرة من الفنانين المصرين الاشتراك في مسلسل تلفزيوني يدين الإرهاب، فهم من ناحية جبناء ومن ناحية أخرى يتوقعون أن تصل الجماعات الغوغائية إلى كل شبر من أرض مصر الطاهرة حينئذ لن يكون لهم موطئ قدم في عالم الفن. حتى الصحف القومية، التي من المفترض وقوفها ضد قوى التخلف والرجعية، ترفض نشر مقالات كثيرة لأنها حادة وقاسية ضد الجماعات الدينية المتطرفة . إن جميع الصحف والمجلات المصرية تهادن بدرجات متفاوتة، وبعضها يقف علانية مع قوى الإرهاب ضد مستقبل بلده وأولاده وتراب وطنه.
في قاعة المحكمة، وعلى مسمع من كل وسائل الإعلام العالمية، يصرح المتطرفون أنهم كانوا وراء اغتيال فرج فودة ورفعت المحجوب ومحاولات اغتيالات أخرى، وكان التصريح تهديدا لشعب بأكمله، وتأكيدا على أن أيديهم ستصل إلى من تسوّل له نفسه الاقتراب من حرماتهم.
عندما يسأل سائق سيارة الأجرة الراكب إن كان مسلما أم لا، فإن الأمر يصبح خطيرا ولا يمكن السكوت عليه.
لكن الواقع أن هذه الظاهرة المقيتة انتشرت إلى حد كبير. وقس على هذا كل صور التخلف والإعلان عن الهوية الإسلامية، وكأن كل شخص يقوم بتقديم رشوة علنية حتى يسمح له المجتمع أن يكون فردا صالحا فيه !!
في الفيلم الرائع ( الطوفان) الذي كتب له السيناريو وأخرجه بشير الديك، مشهد للعمدة الذي يرتكب كل الموبقات لكنه قرر بعد عملية تزوير كبيرة أن يتبرع بمبلغ كبير للفقراء بعد نجاح العملية، فردت عليه السيدة الفاضلة المؤمنة، التي كانت ترمز في الفيلم إلى مصر قائلة: حتى الله تعالى تريد أن تقدم له رشوة!!
الحقيقة أن ما يحدث في مصر الآن كان متوقعا خلال السنوات العشر الأخيرة، عندما بدأ السباق المحموم في تقديم " الرشوة" الدينية. فالميكروفونات التي يقول عنها أطباء الأذن والمتخصصون أنها ستصيب الشعب كله بالصمم بعد سنوات قليلة ممنوعة بحكم القانون، لكنها تنتشر بالآلاف في طول مصر وعرضها، فمن يتجرأ على الاعتراض؟ حتى عند صلاة الفجر، التي لا يرتاد أي مسجد لأدائها غير عدد محدود من الأفراد، ينطلق هدير الميكروفونات فيوقظ العجوز ويفزع الطفل ويقلق المريض، ويحيل حياة الكثيرين إلى الجحيم، فإذا اعترضت فالرد جاهز: هل تريد أن تمنع وصول كلام الله إلى عباده المؤمنين؟
في مصر تحدد موعدا مع ضيفك فيقول لك: آتيك بعد صلاة المغرب! لكنه لا يحدد وقتا معينا، المهم هي الهوية الدينية.
وقد يضيف قائلا: هل أصلي العشاء في المسجد أم في بيتك؟(!!).
هل هناك صحوة دينية في مصر؟ عشرات من الكتاب والمفكرين والإعلاميين ورجال الدين كتبوا ونشروا مقالات وألقوا محاضرات عن الصحوة الدينية التي تبشر بكل خير، وجند كبار الكتاب أقلامهم واصفين " الصحوة الدينية" بأنها عودة إلى أصول الإسلام النقي، واكتفاء بما لدى المسلم، واختيار أخير بعد سقوط الشيوعية وقرب انهيار الرأسمالية.
إنها مأساة بكل المقاييس عندما يتحول الدين العظيم الذي اختاره لنا رب العزة ليكون خاتم الأديان، وآخر الرسالات السماوية، إلى قشور ومظاهر تخفي خلفها جبالا من الفساد والموبقات والاعتداء على حريات الآخرين والتخلف بكل صوره.
كيف تكون صحوة دينية مرتبطة بالإرهاب والتطرف والاعتداء على الآخرين؟
كيف تكون صحوة دينية، ومعها يزداد الفساد، وتنتشر الرشوة، ويعبد" المؤمنون الجدد" المال أكثر من عبادتهم للواحد القهار؟!
كيف تكون صحوة دينية، ومعها الكسل والبطالة والسرقة والاغتصاب، ويخيم على البلد العظيم صاحب الحضارات وحامل لواء الإسلام ومركز الإشعاع الديني، ظلم المسلم لأخيه وأبيه وأمه ووطنه، وتزداد الأمية فلا تتقدم جماعة دينية واحدة بمشروع للمساعدة في محوها؟! كيف تكون صحوة دينية، في حين ترتبط صور السرقات الكبرى، سرقات العصر، بأكثر الناس تمسكا بمظاهرها، من الريان إلى أشرف السعد، ومن أصحاب أبراج الموت إلى مهربي المخدرات؟! كيف تكون صحوة دينية وفي نفس الوقت يكره أصحابها كل صور الجمال والفن والإبداع من موسيقى وسينما ومسرح وأوبرا وتلفزيون و.. غيرها، ويقفون منها موقف العداء؟!
الصحوة الدينية يقظة وليست غيابا عن الوعي، وما نشاهده ونسمعه ونلمسه الآن لا علاقة له البتة بيقظة المسلم وفهمه للإسلام، واستمداده طاقة وحيوية ونشاطا وعقلانية وإيمانا صادقا من تعاليمه السمحاء.
يخوضون في الحديث عن محاسن الصحوة الدينية، فيقعون في مأزق كبير لأنهم يعلمون علم اليقين أن هناك تناسبا طرديا بين التمسك بالعقيدة السمحاء لخاتم الأديان و.. توسعة رقعة الأخلاق الحميدة والعمل والتقدم والصدق والتوازن النفسي والعلاقات الاجتماعية الصحيحة. ولو تأملت التفاصيل الدقيقة لأحد أيام مواطن مصري مسلم في عصر الصحوة الدينية لوجدتها بعيدة تماما عن الحياة التي تمنيناها، وكان لنا في رسول الله أسوة حسنة.
... فهو يستيقظ من نومه مرتين، الأولى عندما يفزعه صوت الميكروفون الموجه من المسجد القريب من منزله في صلاة الفجر، فيزلزل المنازل المتصدعة، ويسمعه الآلاف من نساء وأطفال وعجائز ومرضى، ثم يتوجه إلى المسجد عشرون شخصا يتجه معظمهم إلى أعمالهم بَعَيْدَ الصلاة. ويستيقظ مرة ثانية، ثم يتوجه إلى عمله متأخرا أو" يزوغ" من العمل، أو يستقل سيارة أجرة فيكتشف أن سائق السيارة رفع صوت الكاسيت على تسجيل لآيات القرآن الكريم تسمع المارين بالناحية الأخرى من الشارع(!!)، ولا يحتج، فهي لعبة القط والفأر. الأول يمهد لسرقة الراكب في رفع الأجرة، ويقود سيارة لم ينظفها منذ سنوات. والثاني لا يطلب خفض الصوت لئلا يتهم بالعداء للدين، وهي تهمة أسهل من إلقاء تحية الصباح، وأكثر سهولة من القبض على مائة شخص بدون تهمة في أحد شوارع الخرطوم أو طهران أو إسلام آباد...!
ويصل إلى عمله، فإن كان يعمل في القطاع العام أو الحكومة فقد ارتكب في كل يوم من الذنوب ما يثقل ميزان خطاياه، من تكاسل وغياب ونكث بالوعود والكذب على أصحاب الحاجات...الخ ، وإن كان يعمل في القطاع الخاص، فالرشوة والمحسوبية والتحايل على الآخرين وامتصاص دماء الضعفاء سمة مميزة لأغلب العاملين في هذا القطاع.
في المساء يجلس في المقهى ساعات طويلة يخوض في أحاديث اللغو والغيبة والنميمة، ويترك زوجته وأولاده في المنزل؛ فهو ليس مسؤولا عن التربية إنما تنحصر مسؤوليته في اللهو والضحك مع الأصدقاء وسهرات السمر والأنس.
أليست هذه يوميات" طبق الأصل" لمئات الآلاف من المسلمين في زمن الصحوة الدينية؟! الم ترتفع نسبة مدمني المخدرات بكل أنواعها إلى عَشر أمثالها في أقل من سبع سنوات؟ هل أدت الصحوة الدينية إلى زيادة المثقفين؟ وهل زاد الإقبال على الكتاب؟
المدرس غير الأمين الذي لا يتقي الله في تلاميذه حتى يضطروا إلى طلب دروس خصوصية، هل هو حالة فردية، أم إنه في عصر الصحوة الدينية أصح كالإيدز في إفريقيا، ينتشر فيها انتشار المتطرفين في مزارع القصب؟! الحكاية بكل بساطة أن الصحوة الدينية هي عنوان لتمنيات وأحلام المسلم الصادق، المدرك لرسالة الإسلام الحقيقية، لكنها ليست عنوانا لواقع قائم.
الصحوة الدينية التي يخوض في الحديث عنها شيوخنا وعلماؤنا الأفاضل وكتابنا ومثقفونا هي ردة دينية، وابتعاد عن الإسلام العظيم الذي ارتضاه لنا خالق الكون سبحانه وتعالى ليكون كلمة الفصل لبني آدم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
أما" الصحوة الدينية" التي مظاهرها في كل مكان ـ تقريبا ـ فهي مزاد للنفاق والفساد، وفهم معوج لتعاليم مستقيمة.
لهذا كان من السهل لأي شخص أن ينخرط فيها لأنها لا تتطلب الكثير من الأعباء والتكاليف: حجاب أو نقاب أو لحية، وشراء بعض الكتب عن عذاب القبر ونظرة الإسلام للمرأة والتبرج، وكتاب عن الغزو الفكري لأنور الجندي، وتفسير سورة النور للمودودي، وكتاب معركة التقاليد لمحمد قطب، و مائة شريط للشيخ عبد الحميد كشك تحتوي على شتائمه وسخرياته من الفن والفنانين والصحافة، ثم بعض الدروس في مساجد أهلية بناها مقاولون انفتاحيون تحت عمارات مغشوشةٌ موادُ بنائِها حتى يسهل التهرب من الضرائب.
شاب صغير السن لم يعمل منذ تخرجه، يكاد يقتله الجنس الذي يجري في دمائه كالسم الزعاف. يجلس محاطا بأتباع من الشباب الصغار ويحدثهم عن قرب عودة الخلافة، ويسهب في الحديث عن الفساد في أوروبا والانحلال والتفكك الأسري، ويمنّيهم في كل مرة أن الإسلام سيقود أتباعه قريبا إلى سحق قوى الظلم في الغرب المنحل.
ويعود صاحبنا إلى البيت وقد امتلك الدنيا كلها بين إصبعين من أصابعه، فيقرأ قبل أن ينام بضع صفحات في كتاب" جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب ليزداد اقتناعه بالمهمة العظيمة الملقاة على عاتقه، ثم يخلد إلى نوم غير عميق. فدوره الرائد والعظيم لم يمنعه من التفكير في تدبير لقمة العيش ومصروفات الزواج والاستمتاع بزوجة في الحلال بعد أن أنهكه التفكير في الجنس!!
إن للتطرف طرقا كثيرة، كلها تقريبا تؤدي إلى نفس النتائج، لكن أوسعها انتشارا ووضوحا وتأثيرا كان ومازال هو التدين الزائف، والمزايدة على حمل الهوية الدينية، والنفاق الاجتماعي الذي يسمح بوضع قشرة مقدسة فوق الفساد.
إذن فالواقع يؤكد أنها جريمة في حق الدين والوطن ومستقبل مصر، يشترك فيها الشعب قبل السلطة، وأن جماهير المسلمين تدعم الإرهاب الديني في الوقت الذي تسعى فيه السلطة للقضاء عليه.
الدعم الجماهيري يأخذ صورا عدة أهمها تقديم الدين السمح في صورة دفاع عن الظلم والفساد والتخلف والأمية والجهل، والإشهار عن الهوية الدينية صبحا ومساء، في العمل والمدرسة والمصنع والسوق والشارع والتاكسي؛ فصلاتهم لا تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
عندما كنا صغارا كانت شعائر الإسلام وفروضه تمثل علاقة خاصة بين العبد وربه، فإن صادف وكنت لدى صديق أو كنت مدعوا وحان موعد آذان العشاء، فكان بالإمكان الانتظار حتى العودة إلى المنزل، خاصة أن سماحة الإسلام ويسره قد جعل توقيتها مفتوحا إلى ما قبل صلاة الفجر. أما الآن فإن المسلم الحديث، مسلم الصحوة الدينية، لا يرضى لنفسه أن يكون الله تعالى شاهدا وحيدا على حسن إيمانه وإسلامه، فهو يبحث عن أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع يؤكدون تمسكه بتعاليم الدين وفضائل الأخلاق.
فصاحب المقهى يعرف أن لا أحد من عشرات الجالسين الذين يلعبون " الطاولة" و " الكوتشينة" و " الدومينو" ويتناقشون في كل الأمور الدينية والدنيوية يستمع إلى ترتيل آيات القرآن الكريم التي تنطلق من مذياع أو كاسيت داخل المقهى.
ونفس الأمر ينسحب على المحلات الخاصة وسيارات الأجرة. فالقرآن الكريم الذي من المفترض إذا تلي على المؤمنين خشعت قلوبهم لذكر الله، والذي إذا أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، يجعلون منه بضاعة رخيصة، وإعلانا مجانيا عن صلاح وتقوى وأمانة صاحبه، أعني صاحب الإعلان؛ أو الرشوة الدينية.
كلنا ساهمنا، مباشرة أو صراحة، في محاولات اغتيال مصر، وبدأت عمليات اغتيال الوطن عندما تحول الدين على أيدينا إلى إرهاب فكري، ورفض لحريات الآخرين، والاعتداء على خصوصياتهم، والتلويح بنار جهنم لكل من يخالفنا الرأي.
فالدكتور فرج فودة رفض النفاق باسم الهوية الإسلامية، وأكد ـ رحمه الله ـ عشرات المرات أنه لن يزايد على الإسلام، وفضح كل أنواع الكذب الرخيص، من النفاق الاجتماعي إلى شركات توظيف الأموال.
وجاءت رصاصات الغدر من أفراد الشعب الذين كان يدافع عنهم لتؤكد له ولغيره أن إعمال العقل مرفوض رفضا قطعيا.
مئات من الفنانات يدخلن حقل السينما والمسرح والتلفزيون فلا يثير دخولهن زوبعة أو ضوضاء في أي مكان، ولكن إذا قررت راقصة أو فنانة أو ممثلة اعتزال مجتمع الفن بعد أن أثارت شهوات ملايين الشباب طوال سنوات اختارت فيها عن طواعية أدوار الإغراء والجنس، فإن إشهار الهوية الجديدة يصبح أمرا مطلوبا، وهي لا تعتزل الفن قبل أن تربح مبالغ خيالية تسمح لها باستغلالها في مشروع استثماري يدر عليها أرباحا جديدة تناسب الدور الجديد في المجتمع.
أما أن تعتزل في هدوء، وتتفرغ لبيتها وزوجها فلن يفيد في شيء، لأن المطلوب إشهار الهوية الجديدة التي ترضي السادة الجدد في مجتمع الصحوة، والزواج من أحدهم أفضل عشرات المرات من زيجات مختلفة مع منتجين ومخرجين وفنانين كبار. فشركات توظيف الأموال ومافيا التصدير والاستيراد والمخدرات والرؤوس الكبيرة للفساد تحرك الشارع المصري دينيا، ما دام الدين ( الجديد) يستحي من الحديث عن الظلم والاستبداد والأمية والفقر والجهل.
أيها السادة؛ كلنا قتلة، ومسؤوليتنا في ما وصلت إليه الأوضاع في مصر الطيبة العظيمة، مسؤولية جماعية يتحملها الشعب الذي أصغى بشغف لصوت الإرهاب الديني وانصاع له. وكلنا قتلة لأننا نمنح الإرهاب قداسة، ونجعل المدخل الديني جواز مرور لكل السيئات والمفاسد والاعتداءات.
وكلنا قتلة لأننا لم نحافظ على أمن مصر، بل إننا ندافع عن التطرف، ونعيش في ازدواجية فكرية وسلوكية تسمح لنا أن نهادن الملائكة والشياطين في وقت واحد، فنطالب بالديمقراطية ونحن مستبدون، ونفرق بين العلم والإسلام، ونبني آلاف المساجد ثم نبخل على أنفسنا إذا تعلق الأمر بترميم مدرسة أو اثنتين.
كلنا قتلة لأننا سمحنا لقوى التخلف والظلام أن تسيطر على حياتنا.

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج
Taeralshmal@hotmail.com
Taeralshmal@gawab.com

اجمالي القراءات 16647