الذكر المبارك
والقرءان ذي الذكر

يوسف ترناصت في الإثنين ١٧ - أغسطس - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

   من صفات القرءان الكريم، أنه ذو ذكر، يقول سبحانه وتعالى : {..صَ وَالقُرْءَانِ ذِي الذِّكْرِ(ص 1)}، ولفظة الذكر هنا في الآية الكريمة جاءت معرفة ب((ال)) التعريف، والملاحظ ان لفظة ((القرءان)) ولفظة ((الذكر)) جاءتا مربوطتين بأداة ((ذي))، وهذه أداة تستعمل للدلالة على ان الكلمة المسبوقة موصوفة بصفة تأتي بعد الأداة، فالقرءان هنا موصوف، و لفظة الذكر هي الصفة، وللفهم أكثر نقرأ قوله تعالى : {..وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ(الفجر 10)}، ففرعون هنا شيء والأوتاد شيء آخر، والآية تعني أن فرعون صاحب الأوتاد، وكقوله تعالى : {..اِن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينٍ(القلم 14)}، أي ان كان صاحب مال (له مال) وصاحب أولاد (له أولاد).

  فما هي هذه الصفة الخاصة بالقرءان والتي تسمى ب((الذكر)) ؟.
  ان أساس القرءان الكريم غير لغوي، فهو مجموعة من القوانين الموضوعية الناظمة للوجود ولظواهر الطبيعة والأحداث الإنسانية من حيث الأصل، والتي ينزلها الله سبحانه على كل قوم من الأقوام بلسانهم، يقول سبحانه : {..وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم..(ابراهيم 4)}.

  والقرءان الكريم جعل له الله أساسا لغويا لقوله سبحانه : {..إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا(الزخرف 3)}، وانتقال القرءان الى صيغة قرءانية بلسان عربي تم بصيغة منطوقة لذا فهو يتلى بصيغة صوتية منطوقة مسموعة أو غير مسموعة، وهذا ما يسمى بالذكـر، فما المقصود إذن بالذكر؟

- المقصود بالذكر :

  من معاني ((الذكر)) تحويل الأفكار والأحاسيس والمشاعر الى شيء مسموع تدركه الآذان، كقوله تعالى : {..قَالُوا تَالله تَفْتَؤا تَذْكُـر يوسُفَ حَتّى تَكونَ حَرَضًا أَو تَكونَ مِنَ الهَالِكينَ(يوسف 85)}.

  والقرءان الكريم من صفاته انه ذو ذكر، أي أنه في صيغة قابلة للقرءاة والتلاوة، وهي الصيغة اللغوية الصوتية العربية التي يذكر بها القرءان، يقول سبحانه : {..مَا يَأْتِيهِم مِن ذِكـرٍ مِن رَبِّهِم مُحدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُـوه وَهُم يَلْعَبُونَ(الأنبياء 2)}، فكلمة استمعوه هنا تعود على ((ذكر)) للدلالة على ان الذكر شيء مسموع.

 وبما ان هذه الصيغة عربية، فقد قال سبحانه للعرب : {..لَقَد أَنْزَلْنَا إِلَيْكُم كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُـم أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(الأنبياء 10)}، وهذا الذكر فهو بلسان عربي مبين، لقوله تعالى : {..وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ العَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ(الشعراء 192 الى 195)}، وقوله : {..فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا(مريم 97)}.

  وهذه الصيغة اللغوية الصوتية للقرءان الكريم، بها تتحقق العبادة التي هي تلاوة وقراءة القرءان الكريم، التي أمرنا بها الله سبحانه الى جانب العبادات الأخرى، يقول سبحانه : {..اِتلُ مَا أوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصّلاَةَ إِنَّ الصّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكبَرُ وَالله يَعلَمُ مَا تَصنَعونَ(العنكبوت 45)}، وقوله : {..إِنَّمَا أُمِرْتُ أَن أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ وَأُمِرْتُ أَن أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَن أَتْلُوا القُرْءَانَ فَمَن اِهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُل إِنَّمَا أَنَا مِنَ المُنْذِرِينَ(النمل 91 و92)}، وقوله : {..إِنَّ الّذِينَ يَتلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُوا الصّلاَةَ(فاطر 29)}، لذلك يغدو صحيحا أن يقول الله سبحانه : {..ذَلِكَ نَتْلُوه عَلَيْكَ مِنَ الءَايَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ(آل عمران 58)}.

  والصياغة اللغوية للقرءان الكريم جاءت ميسرة للقراءة وللفهم معا، وهذا من إعجاز رب العالمين، فالصياغة ميسرة للقراءة لقوله تعالى : "فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ"، ومدام ميسر للقراءة فهو ميسر للفهم وللتفكر والتعقل لقوله : {..وَلَقَد يَسَّرنَا القُرءانَ لِلذِّكرِ فَهَل مِن مُدَّكِرٍ(القمر 17 و22 و32 و40)}.

  وهذا اللسان العربي المبين الذي نزل به القرءان كان مختلفا عن لسان العرب أنذاك، والذي وصفه سبحانه باللسان الأعجمي، يقول سبحانه : {..وَلَقَد نَعْلَم أَنَّهُم يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُه بَشَرٌ لِسـانُ الَّـذِي يُلحِـدونَ إِلَيـهِ أَعجَمِـيٌّ وَهَـذا لِسـانٌ عَـرَبِيٌّ مُبيـنٌ(النحل 103)}، والدليل على فصاحة القرءان الكريم وبلاغته، وبساطته أنه لو كان بلغة العرب أنذاك ولهجتهم، فانه سيكون مستعصي الفهم بالنسبة للأجيال المتعاقبة نظرا لتطور اللغة واللهجات، لقوله سبحانه : {..وَلَو جَعَلْنَاه قُرْءَانًا أَعْجَمِيَّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَت ءَايَاتُه ءَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِّيٌّ قُل هُو لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفاءٌ وَالِّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي ءَاذَانِهِم وَقرٌ وَهُوَ عَلَيهِم عَمًى أُولَئِكَ يُنادَونَ مِن مَكَانٍ بَعيدٍ(فصلت 44).

 
 
ذ.يوسف ترناصت
باحث في الثرات الإسلامي.
اجمالي القراءات 2031