نقد رسالة المعلمين للجاحظ

رضا البطاوى البطاوى في الإثنين ٢٥ - مايو - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

نقد رسالة المعلمين للجاحظ
الرسالة سبب تأليفها هو هجاء أحدهم للمعلمين وهو من وجه له الجاحظ الرسالة حيث قال :
"وليس علينا لأحد في ذلك من المنة بعد الله الذي اخترع ذلك لنا ودلنا عليه، وأخذ بنواصينا إليه، ما للمعلمين الذين سخرهم لنا، ووصل حاجتهم إلى ما في أيدينا وهؤلاء هم الذين هجوتهم وشكوتهم وحاججتهم وفحشت عليهم، وألزمت الأكابر ذنب الأصاغر، وحكمت على المجتهدين بتفريط المقصرين، ورثيت لاباء الصبيان من إبطاء المعلمين عن تحذيقهم"
وقد استهل الجاحظ الرسالة بالدعاء لمن هجا المعلمين أن يكف الله عنه الغضب والهوى وأن يهديه للعدل وهو الإنصاف فقال :
1- مدخل
"فصل منه: أعانك الله على سورة الغضب، وعصمك من سرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف، ورجح في قلبك إيثار الأناة فقد استعملت في المعلمين نوك السفهاء، وخطل الجهلاء، ومفاحشة الأبذياء، ومجانبة سبل الحكماء، وتهكم المقتدرين، وأمن المغترين ومن تعرض للعداوة وجدها حاضرة، ولا حاجة بك إلى تكلف ما كفيت"
وبين الجاحظ فضل المعلمين وهم الكتاب فقال :
2- فضل المعلم
"فصل منه: ولولا الكتاب لاختلت أخبار الماضين، وانقطعت اثار الغائبين وإنما اللسان للشاهد لك، والقلم للغائب عنك، وللماضي قبلك والغابر بعدك فصار نفعه أعم، والدواوين إليه أفقر والملك المقيم بالواسطة لا يدرك مصالح أطرافه وسد ثغوره، وتقويم سكان مملكته، إلا بالكتاب ولولا الكتاب ما تم تدبير، ولا استقامت الأمور وقد رأينا عمود صلاح الدين والدنيا إنما يعتدل في نصابه، ويقوم على أساسه بالكتاب والحساب
وليس علينا لأحد في ذلك من المنة بعد الله الذي اخترع ذلك لنا ودلنا عليه، وأخذ بنواصينا إليه، ما للمعلمين الذين سخرهم لنا، ووصل حاجتهم إلى ما في أيدينا وهؤلاء هم الذين هجوتهم وشكوتهم وحاججتهم وفحشت عليهم، وألزمت الأكابر ذنب الأصاغر، وحكمت على المجتهدين بتفريط المقصرين، ورثيت لاباء الصبيان من إبطاء المعلمين عن تحذيقهم، ولم ترث للمعلمين من إبطاء الصبيان عما يراد بهم، وبعدهم عن صرف القلوب لما يحفظونه ويدرسونه، والمعلمون أشقى بالصبيان من رعاة الضان ورواض المهارة ولو نظرت من جهة النظر علمت أن النعمة فيهم عظيمة سابغة، والشكر عليها لازم واجب"
والرجل هنا يبين أن المعلمين هو دعائم الدولة فلا يقوم عدلها إلا بهم من النواحى المختلفة والمفروض أن يبين الجاحظ أن الظلم والكفر يخرج من بين أيديهم إن حادوا عن رسالتهم فوافقوا الحكام على الظلم
وقد بين أنه يكفى المعلمين فضلا شىء واحد وهو تعبهم الشديد فى تعليم الأولاد وأن على المجتمع أن يشكرهم لهذا
وبين الجاحظ أن المتعلمين على نوعين الحفاظ والمستنبطين أى الفهام فقال :
3- الحفظ والاستنباط
"فصل منه: وأجمعوا على أنهم لم يجدوا كلمة أقل حرفا ولا أكثر ريعا، ولا أعم نفعا، ولا أحث على بيان، ولا أدعى إلى تبين، ولا أهجى لمن ترك التفهم وقصر في الإفهام، من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه:
«قيمة كل امريء ما يحسن»
وقد أحسن من قال: «مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها»
وكرهت الحكماء الرؤساء، أصحاب الاستنباط والتفكير، جودة الحفظ، لمكان الاتكال عليه، وإغفال العقل من التمييز، حتى قالوا: «الحفظ عذق الذهن» ولأن مستعمل الحفظ لا يكون إلا مقلدا، والاستنباط هو الذي يفضي بصاحبه إلى برد اليقين، وعز الثقة والقضية الصحيحة والحكم المحمود: أنه متى أدام الحفظ أضر ذلك بالاستنباط، ومتى أدام منزلة منه ومتى أهمل النظر لم تسرع إليه المعاني، ومتى أهمل الحفظ لم تعلق بقلبه، وقل مكثها في صدره وطبيعة الحفظ غير طبيعة الاستنباط والذي يعالجان به ويستعينان متفق عليه، ألا وهو فراغ القلب للشيء، والشهوة له، وبهما يكون التمام، وتظهر الفضيلة ولصاحب الحفظ سبب اخر يتفقان عليه، وهو الموضع والوقت فأما الموضع فأيهما يختار إذا أرادا ذلك الفوق دون السفل وأما الساعات فالأسحار دون سائر الأوقات، لأن ذلك الوقت قبل وقت الاشتغال، وبعقب تمام الراحة والجمام، لأن للجمام مقدارا هو المصلحة، كما أن للكد مقدارا هو المصلحة"
والفقرة تبين أن أساس التعلم الأول الفهم وليس الحفظ ومن اجتمع له الاثنان فقد فاق الحافظ والفاهم
كما بين أن أهم ساعات التعلم أوقات السحر وهو فهم خاطىء فالسحر للاستغفار كما قال تعالى "وبالأسحار هم يستغفرون"
التعلم يحدث فى كل الأوقات ولكن خير الأوقات هو وقت اليقظة الكامل والسحر من الليل حيث غلبة النوم
ثم بين أن أفضل المعلمين من مارس تعليم الصغار والكبار من خلال تتبع أعمال كبارهم فى شتى المجالات فقال :
4- اكثر العظماء كانوا معلمين
"فصل منه: ويستدل أيضا بوصايا الملوك للمؤدبين في أبنائهم، وفي تقويم أحداثهم، على أنهم قد قلدوهم أمورهم وضميرهم ببلوغ التمام في تأديبهم وما قلدوهم ذلك إلا بعد أن ارتفع إليهم في الحنو حالهم في الأدب، وبعد أن كشفهم الامتحان وقاموا على الخلاص
وأنت- حفظك الله- لو استقصيت عدد النحويين والعروضيين والفرضيين، والحساب، والخطاطين، لوجدت أكثرهم مؤدب كبار ومعلم صغار، فكم تظن أنا وجدنا منهم، من الرواة والقضاة والحكماء، والولاة من المناكير والدهاة، ومن الحماة والكفاة، ومن القادة والذادة، ومن الرؤساء والسادة، ومن كبار الكتاب والشعراء، والوزراء والأدباء، ومن أصحاب الرسائل والخطابة، والمذكورين بجميع أصناف البلاغة، ومن الفرسان وأصحاب الطعان، ومن نديم كريم، وعالم حكيم، ومن مليح ظريف، ومن شاب عفيف ولا تعجل بالقضية حتى تستوفي اخر الكتاب، وتبلغ أقصى العذر، فإنك إن كنت تعمدت تذممت، وإن كنت جهلت تعلمت، وما أظن من أحسن بك الظن إلا وقد خالف الحزم"
وفى العبارة الأخيرة يذم الجاحظ الذى ذم المعلمين بأن المفترض فيه هو ظن السوء
وقد بين الجاحظ أن لكل أى مجال هناك معلمون له فقال :
5- لجميع أصناف العلوم معلمون
"فصل منه: قال المعلم: وجدنا لكل صنف من جميع ما بالناس إلى تعلمه حاجة، معلمين، كمعلمي الكتاب والحساب، والفرائض والقران، والنحو والعروض والأشعار، والأخبار والاثار، ووجدنا الأوائل كانوا يتخذون لأبنائهم من يعلمهم الكتابة والحساب، ثم لعب الصوالجة، والرمي في التنبوك، والمجثمة، والطير الخاطف، ورمي البنجكاز وقبل ذلك الدبوق والنفخ في السبطانة وبعد ذلك الفروسية؛ واللعب بالرماح والسيوف، والمشاولة والمنازلة والمطاردة، ثم النجوم واللحون، والطب والهندسة، وتعلم النرد والشطرنج، وضرب الدفوف وضرب الأوتار، والوقع والنفخ في أصناف المزامير ويأمرون بتعليم أبناء الرعية الفلاحة والنجارة، والبنيان والصياغة والخياطة، والسرد والصبغ، وأنواع الحياكة نعم حتى علموا البلابل وأصناف الطير الألحان وناسا يعلمون القرود والدببة والكلاب والظباء المكية والببغاء، والسقر وغراب البين، ويعلمون الإبل، والخيل، والبغال، والحمير، والفيلة، أصناف المشي، وأجناس الحضر، ويعلمون الشواهين والصقور والبوازي، والفهود، والكلاب، وعناق الأرض، الصيد ويعلمون الدواب الطحن، والبخاتي الجمز حتى يروضوا الهملاج والمعناق، بالتخليع وغير التخليع، وبالموضوع والأوسط والمرفوع ووجدنا للأشياء كلها معلمين"
والجاحظ هنا لا يفرق بين معلمى الخير ومعلمى الشر كمعلمى النرد أو الشطرنج وتعليم الحيوانات التى لم يطلب الله تعليمها مع انه فرق بينهم فى قوله فى فقرة تالية:
" فلم يعرضوا لأحد من هذه الأصناف التي اتخذ الناس لها المعلمين من جميع أنواع الحق والباطل"
ثم بين الجاحظ أن الإنسان فيه من كل حيوان طبيعة كالحقد والخداع فقال :
6- الانسان عالم صغير
"وإنما قيل للإنسان العالم الصغير، سليل العالم الكبير، لأن في الإنسان من جميع طبائع الحيوان أشكالا، من ختل الذئب وروغان الثعلب، ووثوب الأسد، وحقد البعير، وهداية القطاة وهذا كثير، وهذا بابه ولأنه يحكي كل صوت بفيه، ويصور كل صورة بيده ثم فضله الله تعالى بالمنطق والروية وإمكان التصرف وعلى أنا لا نعلم أن لأحد من جميع أصناف المعلمين لجميع هذه الأصناف- كفضيلة المعلم من الناس الأحداث المنطق المنثور، ككلام الاحتجاج والصفات، والمناقلات من المسائل والجوابات في جميع العلامات، بين الموزون من القصائد والأرجاز، ومن المزدوج والأسجاع، مع الكتاب والحساب، وما شاكل ذلك ووافقه واتصل به، وذهب مذهبه"
وهو كلام خاطىء فالحيوانات شرعها غير شرع الناس ولا يمكن وصفها بالصفات المحرمة على الإنسان كالخداع والحقد ولا حتى بالصفات المحللة فى شرغ الناس فشريعة الله للحيوان غير شريعته للناس ومن ثم لا يمكن أن نصف الحيوان المفترس بالحقد أو الشره عندما يفترس لأن هذا الأمر حلال مباح فى شريعته
ثم فرق الجاحظ بين المعلم والمؤدب فقال :
7- معنى المعلم والمؤدب
وقالوا: إنما اشتق اسم المعلم من العلم، واسم المؤدب من الأدب وقد علمنا أن العلم هو الأصل، والأدب هو الفرع والأدب إما خلق وإما رواية، وقد أطلقوا له اسم المؤدب على العموم والعلم أصل لكل خير، وبه ينفصل الكرم من اللؤم، والحلال من الحرام والفضل من الموازنة بين أفضل الخيرين، والمقابلة بين أنقص الشرين فلم يعرضوا لأحد من هذه الأصناف التي اتخذ الناس لها المعلمين من جميع أنواع الحق والباطل، والسرف والاقتصاد، والجد والهزل، إلا هؤلاء الذين لا يعلمون إلا الكتاب والحساب، والشعر، والنحو، والفرائض، والعروض وما بالسماء من نجوم الاهتداء والأنواء والسعود، وأسماء الأيام والشهور، والمناقلات ويمنعهم بالغرامة، ويأخذهم بالصلاة في الجماعة، ويدرسهم القران، ويهذب ألسنتهم برواية القصيد والأرجاز، ويعاقب على التهاون، ويضرب على الفرار، ويأخذهم بالمناقلة، والمناقلة من أسباب المنافسة لحقيق بخلاف هذه السيرة، وبضد هذه المعاملة"
وهذه التفرقة ليس لها لزوم فى الإسلام فالمعلم فى الإسلام لابد أن يكون مؤدبا بعلمه وهو علم الله وإلا فقد صفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومن ثم خرج بسبب عدم عملها إلى الكفر
ثم تحدث الجاحظ عن كون المؤدبين غالبا مستواهم المالى منحدر إلى الحضيض فليس اهم مال غالبا فقال :
8- فقر الأدباء
فصل منه: وقد ذهب قوم إلى أن الأدب حرف، وطلبه شؤم وأنشد قول الشاعر:
ما ازددت في أدبي حرفا أسر به إلا تزيدت حرفا تحته شوم
إن المقدم في حذق بصنعته أنى توجه فيها فهو محروم
ولم نر شاعرا نال بشعره الرغائب، ولا أديبا بلغ بأدبه المراتب، ذكر يمن الأدب، ولا بركة قول الشعر فإذا حرم الواحد منهم، والرجل الشاذ ذكر حرف الأدب وشؤم الشعر وإن كان عدد من نال الرغائب أكثر من عدد من أخفق ومهما عيرنا من كان في هذه الصفة فإنا غير معايرين لأبي يعقوب الخريمي؛ لأنه نال بالشعر وأدرك بالأدب وليس الذي يحمل أكثر الناس على هذا القول إلا وجدان المعاني والألفاظ، فإنهم يكرهون أن يضيعوا بابا من إظهار الظرف وفضل اللسان وهم عليه قادرون"
وفقر المعلمين يعود إلى الحكام فهم يحرمونهم من المال حتى لا يقدروا على تعليم الناس الحق لأنهم منشغلون بتحصيل لقمة العيال فى الليل والنهار ومن ثم فهم يجعلونهم لا يجدون وقتا لتعليم الناس الحق الذى يقض على الحكام مضاجعهم لأن الحق يسلبهم كل المميزات التى حصلوا عليها بالظلم
ثم بين الجاحظ أن المعلم يخاطب المتعلمين على قدر عقولهم حتى يقدر على تعليمهم فقال :
9- المعلم يراعي مستوى الصبي العقلي
"فصل منه: وقد قالوا: الصبي عن الصبي أفهم، وبه أشكل وكذلك الغافل والغافل، والأحمق والأحمق، والغبي والغبي، والمرأة والمرأة قال الله تبارك وتعالى: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا لأن الناس عن الناس أفهم، وإليهم أسكن فمما أعان الله تعالى به الصبيان، أن قرب طبائعهم ومقادير عقولهم من مقادير عقول المعلمين
وسمع الحجاج- وهو يسير- كلام امرأة من دار قوم، فيه تخليط وهذيان، فقال: مجنونة، أو ترقص صبيا! ألا ترى أن أبلغ الناس لسانا، وأجودهم بيانا وأدقهم فطنة، وأبعدهم روية، لو ناطق طفلا أو ناغى صبيا، لتوخى حكاية مقادير عقول الصبيان، والشبه لمخارج كلامهم، وكان لا يجد بدا من أن ينصرف عن كل ما فضله الله به بالمعرفة الشريفة، والألفاظ الكريمة وكذلك تكون المشاكلة بين المتفقين في الصناعات"
وهو يبين طريقة يسمونها حديثا تعلم الأقران وهى قوله " الصبي عن الصبي أفهم، وبه أشكل"
وبين الجاحظ أن العلوم التى ينبغى تعليمها هى علوم المعاملات أى العلوم العملية التى تنفع الناس فى حياتهم وهو يطالب بعدم التعمق فى تعليم الأولاد النحو وفى هذا قال :
10- تعليم النحو والرياضة
"فصل منه: وأما النحو فلا تشغل قلبه منه إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن، ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه، وشعر إن أنشده، وشيء إن وصفه وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو أولى به، ومذهل عما هو أرد عليه منه من رواية المثل والشاهد، والخبر الصادق، والتعبير البارع وإنما يرغب في بلوغ غايته ومجاوزة الاقتصار فيه، من لا يحتاج الى تعرف جسيمات الأمور، والاستنباط لغوامض التدبر، ولمصالح العباد والبلاد، والعلم بالأركان والقطب الذي تدور عليه الرحى؛ ومن ليس له حظ غيره، ولا معاش سواه وعويص النحو لا يجري في المعاملات ولا يضطر إليه شيء فمن الرأي أن يعتمد به في حساب العقد دون حساب الهند، ودون الهندسة وعويص ما يدخل في المساحة وعليك في ذلك بما يحتاج إليه كفاة السلطان وكتاب الدواوين
وأنا أقول: إن البلوغ في معرفة الحساب الذي يدور عليه العمل، والترقي فيه والسبب اليه، أرد عليه من البلوغ في صناعة المحررين ورؤوس الخطاطين؛ لأن في أدنى طبقات الخط مع صحة الهجاء بلاغا وليس كذلك حال الحساب"
ثم بين ما ينبغى تعليمه للأولاد فى الكتابة فقال :
11- تعليم صناعة الكتابة
"ثم خذه بتعريف حجج الكتاب وتخلصهم باللفظ السهل القريب المأخذ إلى المعنى الغامض وأذقه حلاوة الاختصار، وراحة الكفاية، وحذره التكلف واستكراه العبارة؛ فإن أكرم ذلك كله ما كان إفهاما للسامع، ولا يحوج إلى التأويل والتعقب، ويكون مقصورا على معناه لا مقصرا عنه، ولا فاضلا عليه فاختر من المعاني ما لم يكن مستورا باللفظ المتعقد، مغرقا في الإكثار والتكلف، فما أكثر من لا يحفل باستهلاك المعنى مع براعة اللفظ وغموضه على السامع بعد أن يتسق له القول، وما زال المعنى محجوبا لم تكشف عنه العبارة فالمعنى بعد مقيم على استخفائه وصارت العبارة لغوا وظرفا خاليا وشر البلغاء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيىء المعنى، عشقا لذلك اللفظ، وشغفا بذلك الاسم، حتى صار يجر إليه المعنى جرا، ويلزقه به إلزاقا حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى اسما غيره، ومنعه الإفصاح عنه إلا به والافة الكبرى أن يكون رديء الطبع بطيء اللفظ، كليل الحد، شديد العجب، ويكون مع ذلك حريصا على أن يعد في البلغاء، شديد الكلف بانتحال اسم الأدباء فإذا كان كذلك خفي عليه فرق ما بين إجابة الألفاظ واستكراهه لها وبالجملة إن لكل معنى شريف أو وضيع، هزل أو جد، وحزم أو إضاعة، ضربا من اللفظ هو حقه وحظه، ونصيبه الذي لا ينبغي أن يجاوزه أو يقصر دونه ومن قرأ كتب البلغاء، وتصفح دواوين الحكماء، ليستفيد المعاني، فهو على سبيل صواب ومن نظر فيها ليستفيد الألفاظ فهو على سبيل الخطأ والخسران ها هنا في وزن الربح هناك؛ لأن من كانت غايته انتزاع الألفاظ حمله الحرص عليها، والاستهتار بها إلى أن يستعملها قبل وقتها، ويضعها في غير مكانها ولذلك قال بعض الشعراء لصاحبه: أنا أشعر منك! قال صاحبه: ولم ذاك؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه وإنما هي رياضة وسياسة، والرفيق: مصلح واخر مفسد ولا بد من هدان وطبيعة مناسبة وسماع الألفاظ ضار ونافع فالوجه النافع: أن يدور في مسامعه، ويغب في قلبه، ويختمر في صدره، فإذا طال مكثها تناكحت ثم تلاقحت فكانت نتيجتها أكرم نتيجة، وثمرتها أطيب ثمرة؛ لأنها حينئذ تخرج غير مسترقة ولا مختلسة ولا مغتصبة، ولا دالة على فقر؛ إذ لم يكن القصد إلى شيء بعينه، والاعتماد عليه دون غيره وبين الشيء إذا عشش في الصدر ثم باض، ثم فرخ ثم نهض، وبين أن يكون الخاطر مختارا، واللفظ اعتسافا واغتصابا، فرق بين ومتى اتكل صاحب البلاغة على الهوينى والوكال، وعلى السرقة والاحتيال، لم ينل طائلا، وشق عليه النزوع، واستولى عليه الهوان، واستهلكه سوء العادة
والوجه الضار: أن يتحفظ ألفاظا بعينها من كتاب بعينه، أو من لفظ رجل، ثم يريد أن يعد لتلك الألفاظ قسمها من المعاني، فهذا لا يكون إلا بخيلا فقيرا، وحائفا سروقا، ولا يكون إلا مستكرها لألفاظه، متكلفا لمعانيه، مضطرب التأليف منقطع النظام فإذا مر كلامه بنقاد الألفاظ وجهابذة المعاني استخفوا عقله، وبهرجوا علمه
ثم اعلم أن الاستكراه في كل شيء سمج، وحيث ما وقع فهو مذموم، وهو في الطرف أسمج، وفي البلاغة أقبح وما أحسن حاله ما دامت الألفاظ مسموعة من فمه، مسرودة في نفسه، ولم تكن مخلدة في كتبه وخير الكتب ما إذا أعدت النظر فيه زادك في حسنه، وأوقفك على حده"
وما سبق فى تعليم الكتابة هو مصيبة كبرى فى التعليم فالتعليم فى بلادنا قائم عليها حيث تختص الكتابة قراءة وكتابة وبديعا وبيانا ومعانى ونصوصا بأكثر من ثلث الحصص التعليمية والأطفال يتعلمون فيها امورا بعيدة عن واقع الحياة العملية فلا النحو ولا البديع ولا البيان وما شاكلهم أمور نسأل بعضنا بعضا عنها فى واقع الحياة والمفترض أن يكون تعليمنا هو تعليما واقعيا فدروس القراءة والنصوص يجب ان تدور حول ما نتعامل به فى حياتنا الواقعية وليس نصا عن حب الوطن أو وصف الماء أو وصف البحيرة او مدح النهر أو وصف صنم أو أثر ...والنحو والبديع لا يجب تعليمهم وإنما يجب تعليم الأولاد أن خير الكلام ما قل ودل فى تعليم الحق والباطل
قم تحدث الجاحظ عن عبد الله بن المقفع فقال :
12- عبد الله بن المقفع
"فصل منه: ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين: عبد الله بن المقفع، ويكنى أبا عمرو، وكان يتولى لال الأهتم، وكان مقدما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة، واختراع المعاني وابتداع السير وكان جوادا فارسا جميلا، وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله، وكان يتعاطى الكلام ولم يكن يحسن منه لا قليلا ولا كثيرا وكان ضابطا لحكايات المقالات، ولا يعرف من أين غر المغتر ووثق الواثق وإذا أردت أن تعتبر ذلك، إن كنت من خلص المتكلمين ومن النظارين، فاعتبر ذلك بأن تنظر في اخر رسالته (الهاشمية) ، فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم، ردي المدخل في مواضع الطعن عليهم وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم، فيظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء إلا نفذ به فيه، كالذي اعترى الخليل بن أحمد بعد إحسانه في النحو والعروض، أن ادعى العلم بالكلام وبأوزان الأغاني، فخرج من الجهل إلى مقدار لا يبلغه أحد إلا بخذلان الله تعالى فلا حرمنا الله تعالى عصمته، ولا ابتلانا بخذلانه"
وبالكلام عن ابن المقفع والخليل ينبهنا الجاحظ إلى ضرورة أن تكون كتابات المعلمين عما يحسنونه من فروع العلم ولا يتجهوا للتأليف فيما يجعلونه كفعل الرجلين ثم ذكر الرجل فصلا به حديث عن شاعرين جاهليين ولكن يبدو أن بقية الفصل محذوف او ضائغ من الكتاب فقال :
"فصل منه: وهذان الشاعران جاهليان، بعيدان من التوليد، وبنجوة من التكليف"
13- تعلم التجارة والصيرفة افضل من عمل السلطان
فصل منه: ومن خصال العبادة وإن كانت كلها راجحة فليس فيها شيء أرد في عاجل، ولا أفضل في اجل من حسن الظن بالله تعالى وعز ثم اعلم أن أعقل الناس السلطان ومن احتاج إلى معاملته، وعلى قدر الحاجة إليه ينفتح له باب الحيلة، والاهتداء إلى مواضع الحجة وما أقرب فضل الراعي على الرعية من فضل السائس على الدابة ولولا السلطان لأكل الناس بعضهم بعضا، كما أنه لولا المسيم لوثب السباع على السوام ودعني من تدريسه كتب أبي حنيفة، ودعني من قولهم: اصرفه إلى الصيارفة؛ فإن صناعة الصرف تجمع مع الكتاب والحساب المعرفة بأصناف الأموال، ولا تجد بدا من حلة السلطان ودعني من قول من يقول: قد كانت قريش تجارا؛ فإن هذا باب لا ينقاس ولا يطرد ومن قاس تجار الكرخ وباعته، وتجار الأهواز والبصرة، على تجار قريش، فقد أخطأ مواضع القياس، وجهل أقدار العلل قريش قوم لم يزل الله تعالى يقلبهم في الأرحام البريئة من الافات، وينقلهم من الأصلاب السليمة من العاهات، ويعبيهم لكل جسيم، ويربيهم لكل عظيم ولو علم هذا القائل ما كانت قريش عليه في التجارة لعرف اختلاف السبل، وتفاوت ما بين الطرق ولو كانت علتهم في ذلك كعلة تجار الأبلة، ومحتكري أهل الحيرة، لثلمت دقة التجارة في أعراضهم ولنهك سخف التربح من مروءاتهم، ولصغر ذلك من أقدارهم في صدور العرب، ولوضع من علوهم عند أهل الشرف وكيف وقد ارتحلت أليهم الشعراء كما ارتحلت الى الملوك العظماء، فأسنوا لهم العطية، ولم يقصروا عن غاية، فسقوا الحجيج وأقاموا القرى لزوار الله تعالى، وهم بواد غير ذي زرع فلو أنه كان معهم من الفضل ما يبهر العقول، ومن المجد ما تحرج فيه العيون، لما أصلح طبائعهم الشيء الذي يفسد جميع الأمة ولقد أورث ذلك صدورهم من السعة بقدر ما أورث غيرهم من الضيق ولو كانت سبلهم عند الملوك إذا وفدوا عليهم، أو وردوا بلادهم بالتجارات، سبل غيرهم من التجار لما أوجهوهم وقربوهم، ولما أقاموا لهم قرى الملوك وحبوهم بكرامة الخاص وإذا كانت قريش حمسا تنسك في دينها، وتتأله في عبادتها وكان مانعا لهم من الغارات والسباء، ومن وطء النساء من جهة المغنم، ولذلك لم يئدوا البنات ولا ولدت منهم امرأة غيرهم من جهة السباء، ولا زوجوا أحدا من العرب حتى يتحمس ويدين بدينهم ولذلك لما صاروا إلى بناء الكعبة لم يخرجوا في بنائها من أموالهم إلا مواريث ابائهم ونسائهم، خوفا من أن يخالطه شيء حرام، إذ كانت أرباح التجارات مخوفا عليها ذلك فلما كانوا بواد غير ذي زرع ويحتاجون إلى الأقوات، وإقامة القرى، لم يجدوا بدا من أن يتكلفوا ما يعيشهم ويصلح شأنهم، فأخذوا الإيلاف، ورحلوا إلى الملوك بالتجارات فهذا هو السبب فانظر كم بين علتهم وعلة غيرهم! فيسرك بعد هذا أن يتحول ابنك في مسلاخ صالح الزرازريشي، أو في طباع ابن بادام، أو في عقل ابن سامري فإن زعموا أن أصحاب السلطان بعرض مكروه فليعلموا أن كل مسافر فبعرض مكروه، وقد قال بعض الحكماء: «المسافر ومتاعه على قلت إلا من حفظ الله» ، يعني على هلاك وراكب البحر أشد خطرا، ومشتري طعام الأهواز أشد تهورا، ورافع الشراع بعرض هلكة والمتعرض للملاحة والمعرض نفسه للسباع أقل شفقة وسكان الجزائر والسواحل أحق بالتعرض، وأولى بالخوف والمنهوم بالطعام الردي، والمدمن للشراب أشبه بأصحاب التغرير، والمتباري في ذلك والمتزيد منه أحق بتوقع الحدثان وحوادث الأزمان، قد جرت عليه عادة الدهر وسيرة الأيام وهذا كله أحق بالاهتمام وإن كنت إلى الإشفاق تذهب، وإلى إعطاء الحزم أكثر من نصيبه، وكيف دار الأمر فإن التاجر قد استشعر الذل، وتغشى ثوب المذلة وصاحب السلطان قد تجاوز حد العز والهيبة وإنما عيبه سكر السلطان، وإفراط التعظيم قد استبطن بالعز، وظاهر بالبشر واستحكمت تجربته، وبعدت بصيرته حتى عرف مصلحة كل مصر، وإصلاح كل فاسد، وإقامة كل معوج، وعمارة كل خرب ولا أعلم في الأرض أعم إفلاسا ولا أشد نكبة، ولا أكثر تحولا من يسر إلى عسر، ولا رأينا الجوائح إلى أحد أهدى منها إلى أموال الصيارفة فكيف يقاس شأن قوم تعمهم المعاطب بشأن قوم أهل السلامة فيهم أكثر، والنكبات فيهم أقل "
فى الفقرة الطويلة السابقة نجد الجاحظ يخبرنا أن الحرف اللغوية غير مجدية كالصرف اللغوى فخير منه عنده الصيرفة وهى التعامل فى العملات والذهب والقضة وأيضا الخير التجارة التى كتجارة قريش
ونجد الرجل هنا يمدح قريشا مدحا عظيما مع ان الكفار الذين كذبوا رسالة النبى(ص) كانوا قريشيين بقيادة التجار الأغنياء وقد اتخذوا تجارتهم وسيلة لحرب الإسلام
والرجل يمدحهم بما عابه الله فيهم من طهارة الأرحام وعدم ممارسة الزنى وعدم وأد البنات وهو كلام يناقض ان تلك كانت شيئا قليلا من معايبهم
وهو يمدحهم بأن تجارتهم لا تقاس بها تجارة المدن الأخرى وأنهم كانوا يستعملونها فى سقى واطعام الحجاج وهو كلام لا يقوله إلا مخبول لأنهم كانوا يبتغون من خلفهم مصالحهم التجارية وغيرها فالدرهم الذى كانوا يصرفونه على الماء والطعام كانوا يأخذونه دنانير من خلال بيع الأصنام والملابس والتمائم والمحرمات والمباحات ألأخرى التى كانوا يبيعونها للحجاج والعمار
وفى نهاية الكتاب نصائح بعدم اتخاذ أصحاب السوء أصحاب وعدم وجود وقت فراغ غير مستغل فى المنافع حتى يحب المتعلم المعلم أكثر من أمه وفى هذا قال :
"وبعد هذا فإني أرى ألا تستكرهه فتبغض إليه الأدب، ولا تهمله فيعتاد اللهو على أني لا أعلم في جميع الأرض شيئا أجلب لجميع الفساد من قرناء السوء، والفراغ الفاضل عن الجمام درسه العلم ما كان فارغا من أشغال الرجال، ومطالب ذوي الهمم واحتل في أن تكون أحب إليه من أمه ولا تستطيع أن يمحضك المقة، ويصفي لك المودة مع كراهته لما تحمل إليه من ثقل التأديب عند من لم يبلغ حال العارف بفضله فاستخرج مكنون محبته ببر اللسان، وبذل المال ولهذا مقدار من جازه أفرط والإفراط سرف ومن قصر عنه فرط، والمفرط مضياع ولا تستكثرن هذا كله فإن بعض النعمة فيه تأتي على أضعاف النعامة، والذي تحاول من صلاح أمر من تؤمل فيه أن يقوم في أهلك مقامك، وإصلاح ما خلفت كقيامك، لحقيق بالحيطة عليه، وبإعطائه المجهود من نفسك
وقال زكريا عليه السلام: رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين
فعلم الله تبارك وتعالى، فوهب له غلاما، وقال الله عز وجل: وليس الذكر كالأنثى اعلم أنه أعطاك ولدا عبرة عين العدو، وقرة عين الصديق الولي
فاحمد الله وأخلص في الدعاء، وأكثر من الخير إن شاء الله"

اجمالي القراءات 3070