المقريزى يؤرخ للعام الأخير من حكم برسباى (3 )
ماذا كان يفعل أكابر المجرمين عام الطاعون ؟

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٨ - أبريل - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

السلطان المملوكى برسباى وابن حجر العسقلانى أكابر المجرمين في طاعون عام 841

المقريزى يؤرخ للعام الأخير من حكم برسباى (3 )

ماذا كان يفعل أكابر المجرمين عام الطاعون ؟

ثامنا : شهر شوال، أهل بيوم الخميس:

1 ـ  ( وفيه ركب السلطان من القلعة، وأقام يومه بخليج الزعفران خارج القاهرة. وعاد من آخره بعد أن فرق مالاً في الفقراء، فتكاثروا على متولى تفرقة ذلك، حتى سقط عن فرسه، فغضب السلطان من ذلك، وطلب سلطان الحرافيش، وشيخ الطوائف، وألزمهما بمنع الجعيدية أجمعين من السؤال في الطرقات، وإلزامهم بالتكسب، وأن من شحذ منهم يقبض الوالى عليه، وأخرج ليعمل في الحفير. فإمتنعوا من الشحاذة، وخلت الطرقات منهم، ولم يبق من السؤّال إلا العميان والزمناء وأرباب العاهات، ولم نسمع بمثل ذلك. فعم الضيق كل أحد، وإنطلقت الألسنة بالدعاء على السلطان، وتمنى زواله، فأصبح في يوم الأربعاء سابعه مريضًا قد إنتكس، ولزم الفراش.).

1 / 1 : عاقب برسباى الشحاذين بمنعهم من التسول ، وكانوا طوائف أهمهم كان يطلق عليهم إسم ( الجعيدية ) ، وكانت لهم ما يعرف الآن بالنقابة ، ولهم ( سلطان الحرافيش ) وبقية المتسولين كانوا طوائف لهم شيوخ . هذا يدل على ارتفاع نسبة الفقر وتعدّد طوائفهم . وكانت العادة أنه إذا وقف شخص يتبرع يتزاحمون عليه وقد يوقعونه من فوق فرسه . وحدث هذا مع الذى كان يفرّق صدقات برسباى . هددهم بالتسخير في الحفر ، مما يدل على قوتهم على العمل . إستثنى منهم المرضى والعميان والمشلولين ( الزمناء ) .

1 / 2 : لم يكن هذا العقاب مسبوقا فسخط الناس على السلطان ودعوا عليه فإزداد مرضه . قال المقريزى ( ولم نسمع بمثل ذلك. فعم الضيق كل أحد، وإنطلقت الألسنة بالدعاء على السلطان، وتمنى زواله، فأصبح في يوم الأربعاء سابعه مريضًا قد إنتكس، ولزم الفراش.).

1 / 3 : لا ننسى أن برسباى ( المشهور بالبخل والجشع ) إضطر للتصدق حين إشتد عليه المرض . وهكذا شأن أكابر المجرمين عند المحنة .

2 ـ ( وفي هذه الأيام: إشتد البلاء بأهل الذمة من اليهود والنصارى، وألزمهم الذى ولى أمر مواريثهم أن يعملوا له حساب من مات منهم من أول هذه الدولة الأشرفية، وإلى يوم ولايته. وأخرق بهم وأهانهم. وألزمهم أيضًا أن يوقفوه على مستنداتهم في الأملاك التى بأيديهم، فكثرت الشناعة عليه، وساءت القالة في الدولة.) . مرضه الشديد لم يمنعه من ظلم أهل الكتاب وسلب تركات من يموت منهم . بل أخذ في فحص وثائق ممتلكاتهم من بداية سلطنته حتى ذلك الوقت . كان ظلما هائلا إستوجب التشنيع عليه حتى من غير أهل الكتاب.

3 ـ ( وفي هذه الأيام: تزايد بالسلطان مرضه. ومنذ إبتدأ به المرض، وهو آخذ في التزايد، إلا أنه يتجلد، ويظهر أنه عوفي. ويخلع على الأطباء، ويركب وسحنته متغيرة، ولونه مصفراً، إلى أن عجز عن القيام من ليلة الأربعاء سابعه.  ). الله جل وعلا يعذّب أكابر المجرمين في الدنيا قبل الآخرة . قال جل وعلا : (  مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) 123 ) النساء ) . المستبد الذى يقهر شعبه بالتعذيب لا بد أن يتعرض لآلام التعذيب في حياته ؛ نفسيا وجسديا . وهو يتحمل الألم حتى يبدو قويا أمام أصدقائه وأعدائه وأعدقائه ، يتألّم وهو يبتسم حتى لا يظهر ضعفه ويطمع فيه الطموحون للسلطة . يظل المستبد يتظاهر بالقوة والعافية يكتم الآهات ويمنع نفسه من الصراخ إلى أن يقهره مرضه فيصرخ ويسقط .!. ضحاياه الذين يعذبهم هم أفضل حالا ، هم تحت التعذيب يخففون عن أنفسهم بالصراخ . في النهاية لم يتحمل برسباى ، وعجز ..وصرخ .!

4 ـ ( وفي يوم الإثنين تاسع عشرة: خرج محمل الحاج مع الأمير أقبغا الناصرى أحد الطبلخاناه ، ونزل بركة الحجاج على العادة، فمات عدة ممن خرج بالطاعون، منهم ابن أمير الحاج وأبيه، في هذا اليوم ومن الغد بعده.) . إن كانت للطاعون فائدة فإنه قد قضى على أشرس المماليك وهم المماليك الجلبان السلطانية ( الأشرفية ). وكانوا يتسلطون على المصريين بالسلب والنهب والإغتصاب والإهانة .

5 ـ ( وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: خلع على الأطباء لعافية السلطان.)، عافية مؤقتة فرح بها السلطان فكافأ الأطباء .

6 ـ ثم كانت الكارثة بعدها مباشرة، وهى توسيط إثنين من أكابر الأطباء . التوسيط هو قتل الضحية بقطعه نصفين ، أي يضربونه بالسيف في منتصف جسده ، فيصبح جسده نصفين منفصلين ، وتنهار أحشاؤه على الأرض ، ويظل يعانى الى أن يموت . موتة فظيعة إشتهر بها أكابر المجرمين المماليك.  قطع الرقبة أخف ألما . يقول المقريزى :

( وفي يوم السبت رابع عشرينه: وسّط السلطان طبيبيه اللذين خلع عليهما بالأمس( يقصد أمس الأول )، وهما العفيف وزين خضر، وذلك أنه حرص على الحياة، وصار يستعجل في طلب العافية، فلما لم تحصل له العافية ساءت أخلاقه، وتوهم أن الأطباء مقصرون في مداواته، وأنهم أخطأوا التدبير في علاجه، فطلب عمر بن سيفا والى القاهرة، فلما مثل بين يديه، وهو جالس وبين يديه جماعة من خواصه، منهم صلاح الدين محمد بن نصر اللّه كاتب السر، والأمير صفى الدين جوهر الخازندار ...، وفيهم العفيف وخضر . أمره أن يأخذ العفيف ويوسطه بالقلعة. فأقامه ليمضي فيه ما أمر به، وإذا الخضر فأمره أن يوسط خضر أيضًا، فأخذ الآخر وهو يصيح. فقام أهل المجلس يقبلون الأرض، ومنهم من يقبل رجل السلطان، ويضرعون إليه في العفو، فلم يقبل، وبعث واحدًا بعد أخر يستعجل الوالى في توسيطهما وهو يتباطاً، رجاء أن يقع العفو عنهما. فلما طال الأمر بعث السلطان من أشد أعوانه من يحضر توسيطهما ، فخرج وأغلظ للوالى في القول. فقدم لعفيف فاستسلم، وثبت حتى وُسّط قطعتين بالسيف. وقدم خضر، فجزع جزعا شديداً، ودافع عن نفسه، وصاح، فتكاثروا عليه فوسّطوه توسيطًا شنيعا، لتلوّيه وإضطرابه. ثم حُملاً إلى أهليهما بالقاهرة. فساء الناس ذلك، ونفرت قلوبهم من السلطان، وكثرت قالتهم، فكانت حادثة لم ندرك مثلها.) .!

  6 / 1 تعذيب برسباى بالمرض أفقده عقله فظن أن طبيبيه أهملا علاجه فأمر بقتلهما شرّ قتلة . بالتوسيط.! . الطبيبان ــ وهما من أهل الكتاب ــ كانا في حضرته مع المقربين عنده فأمر بتوسيط أولهما ، ثم ظهر الآخر فأمر بتوسيطه أيضا. توسّل الحاضرون للسلطان أن يعفو عنهما فلا ذنب لهما ، ولكنه تمسّك برأيه . تباطأ ( والى القاهرة / مدير الأمن ) في التنفيذ لعل السلطان يقبل الشفاعة فيهما ، ولكن السلطان أرسل رسولا يشهد التنفيذ ، وأغلظ هذا الرسول للوالى فقام بالتنفيذ. أحدهما إستسلم فكان حاله أهون ، الآخر ظلّ يتلوّى ويقاوم فأتعب نفسه .

6 / 2 : نقم الناس على برسباى ، وكثرت أقاويلهم فيه .

6 / 3 : تقبيل الأرض بين يدى السلطان المملوكى كان من المراسم . وهو سجود كامل له . وكان مفروضا على الشريف أمير مكة أن يسجد ليقبل حافر الجمل الذى يرسله السلطان المملوكى الى مكة ضمن ركب الحجّاج . قاضى القضاة ابن حجر ( أمير المؤمنين في الحديث ) يرى هذا شرعا مقبولا .!

7 ـ ( ومن حينئذ تزايد البلاء بالسلطان إلى يوم الخميس تاسع عشرينه، فاستدعى السلطان الأمير الكبير جقمق العلاى الأتابك ومن تأخر من الأمراء المقدميِن، وقال لهم: انظروا في أمركم، وخوفهم مما جرى بعد المؤيد شيخ من الإختلاف وإتلاف أمرائه، فطال الكلام، وإنفضوا عنه، على غير شىء عقدوه، ولا أمرًا أبرموه.).

7 / 1 :عاش برسباى تحت عذاب المرض حتى يوم الخميس 29 شوال . أيقن بالموت فإستدعى قائد الجيش ( الأتابك ) جقمق و كبار القادة ( المجلس العسكرى في عصرنا ) ، وأمرهم أن ( ينظروا في حالهم ) وخوّفهم من الاختلاف والحروب بينهم كما حدث بعد المؤيد شيخ وصراعه مع رفيقه نيروز. ولكنهم إختلفوا .

تاسعا : شهر ذى القعدة، أهل بيوم السبت:

1 ـ ( والناس في أنواع من البلاء الذى لم نعهد مثله مجتمعًا، وهو أن السلطان تزايدت أمراضه، وأرجف بموته غير مرة، وشنع الموت في مماليكه سكان الطباق ...) . السلطان مريض والإشاعات كثيرة ، وفى العادة أن إقتراب موت السلطان مؤذن بوقوع الفتن والحروب ، والذى يدفع الثمن هم سكان القاهرة . ثم الطاعون منتشر ، ومن أفضاله أنه منتشر بين أسوأ أنواع المماليك ، وهم مماليك السلطان الأشرف برسباى ( الأشرفية ) . لذا تنازل السلطان عن الحكم ــ وهو حىّ ـ لإبنه يوسف جمال الدين ( المقام الجمالى يوسف بن برسباى ). يقول المقريزى : ( وفي يوم الثلاثاء رابعه: عهد السلطان إلى ولده المقام الجمالى يوسف. ). وأورد المقريزى التفصيلات في هذا الحدث الهام ، وهى تحتاج توضيحا لأن المقريزى يكتب بمصطلحات وخلفيات عصره ، والتي يفهمها الباحث المتخصص في التاريخ المملوكى . يقول المقريزى :

2 ـ (  وذلك أنه لما تزايد به المرض، حدث عظيم الدولة القاضى زين الدين عبد الباسط الأمير صفى الدين جوهر الخازندار في أمر المقام الجمالى، وأشار له أن يفاوض السلطان في وقت خلوته به، أن يعهد إليه بالسلطة من بعد وفاته، ويحسن له ذلك، فإتفق أن السلطان أمر الأمير جوهر أن يحرر له جملة ما يتحصل من أوقافه على أولاده، فلما أوقفه على ذلك، وجد السبيل إلى الكلام، فأعلمه. بما أشار به القاضى زين الدين عبد الباسط من العهد إلى المقام الجمالى، فأعجبه ذلك، وأمر بإستدعائه فلما مثل بين يديه، سأله عما ذكر له جوهر عنه، فأخذ يحسّن ذلك، ويقول: في هذا إجتماع الكلمة، وسد باب الفتن، وعمارة بيت السلطان، ومصلحة العباد، وعمارة البلاد ، ونحو ذلك من القول.) :

2 / 1 : ( الخازندار ) هو الأقرب الى السلطان لأنه ( وزير مالية السلطان ) وهى غير مالية الدولة المملوكية . في الفتن بين أكابر المجرمين المماليك يكون هناك ضحايا خاسرين ، قد يفقد أحدهم حياته وأمواله . وربما يظل حيا ولكن تتم مصادرة أمواله . الجناح المدنى من أكابر المجرمين من القادة العاملين في الوظائف الديوانية كالقاضى عبد الباسط والعاملين في الوظائف الدينية والتعليمية كالقاضى ابن حجر ــ إخترع أسلافهم حلا شرعيا يتمكن به الأمير أو السلطان المملوكى من تحصين ثروته من المصادرة حين ينهزم أو يموت تاركا ذرية ضعافا ينهب الآخرون تركاتهم . هذا الحلّ هو الأوقاف . ( الأمير / السلطان) المملوكى يوقف ممتلكاته من أرض زراعية وحوانيت جارية على عمل خيرى مثل مدرسة أو خانقاة أو قُبّة أو مسجد ، ويعين فيها مجموعة من المدرسة والموظفين والطلبة ويجعل لهم مرتبات ومصاريف للشغل ، وهى بعض الفتات . ثم يعين نفسه أو إبنه قائما على الوقف . هذا هو ( الوقف الأهلى ) والذى به أقام المماليك عمائرهم الدينية في القاهرة وغيرها من المال السُّحت المنهوب . برسباى اقام له جامعا . وهو على فراش الموت كان يراجع إيراد الأوقاف التابعة له ، فطلب من الخازندار التابع له الأمير جوهر  ( أن يحرر له جملة ما يتحصل من أوقافه على أولاده.) ، ورآها الخازندار فرصة ليفاتح برسباى في أن يعهد لإبنه  جمال الدين يوسف.

2 / 2 : صاحب الإقتراح هو القاضي عبد الباسط أكبر رتبة في الجناح المدنى من أكابر المجرمين ، ولقبه ( عظيم الدولة القاضى زين الدين عبد الباسط  ). مع هذا اللقب الفخم والمنصب الكبير فقد كان عبد الباسط ضحية مستمرة للمماليك السلطانية ، وهو يخشى موت السلطان برسباى ووقوع فوضى وفتن يكون هو من أبرز ضحاياها. لقد عانى عبد الباسط الكثير منهم  ، منها ما ذكره المقريزى في أحداث شهر صفر عام 838 ، يقول: ( وفي يوم الخميس ثالث عشره‏:‏ ثارت مماليك السلطان سكان الطباق بقلعة الجبل وطلبوا القبض على المباشرين بسبب تأخر جوامكهم في الديوان المفرد، ففر المباشرون منهم ونزلوا من القلعة إلى بيوتهم بالقاهرة، فنزل جمع كبير من المماليك إلى القاهرة ، ومضوا إلى بيت القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش ، وهو يومئذ عظيم الدولة وصاحب حلِّها وعقدها ، فنهبوا ما قدروا عليه‏. ) . لذا أوعز عبد الباسط للخازندار بإقتراح للسلطان أن يولى إبنه يوسف . يقول المقريزى :

3 ـ (  فأجاب السلطان إلى ذلك، ورسم له باستدعاء الخليفة والقضاة والأمراء والمماليك وأهل الدولة، وحضورهم في غد، فمضى عنه القاضى زين الدين ونزل إلى داره بالقاهرة، وبعث إلى المذكورين أن يحضروا غدًا بين يدى السلطان بكرة النهار، وتقدم إلى القاضى شرف الدين أبى بكر الأشقر نائب كاتب السر بكتابة عهد المقام الجمالى، وذلك أن القاضى صلاح الدين محمد بن نصر اللّه كاتب السر من حين وسط العفيف وخضر تغير مزاجه، وإشتد جزعه إلى أن حُمّ في ليلة الجمعة، ونزل من القلعة، ولزم الفراش ومرضه يتزايد، وقد ظهر به الطاعون في مواضع من بدنه، فبادر القاضى شرف الدين، وكتب العهد ليلاً. ). كاتب السّر ( سكرتير السلطان ) ( القاضى صلاح الدين محمد بن نصر اللّه ) كان في أزمة نفسية بسبب مأساة توسيط الطبيبين ، وهو يخشى التوسيط ، ومن خوفه أصابته الحمى ولحقه الطاعون . والعادة أن كاتب السّر هو الذى يكتب عن السلطان ، وأهم ما يكتبه هو عقد ولاية العهد . لذا قام بالمهمة نائب كاتب السّر وهو أيضا قاضى .! ( القاضى شرف الدين أبى بكر الأشقر نائب كاتب السر ) فكتب ولاية العهد لابن السلطان . 

اجمالي القراءات 3457