القاموس القرآنى : ( بخس )

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٥ - يناير - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 القاموس القرآنى : ( بخس )

أولا :

البخس في الميراث

1 ـ جاءت رسالة تحمل شكوى عن مأساة تتكرر في مجتمعات المحمديين ، موجزها أن الأخ الأكبر في الميراث يأكل حقوق إخوته الذكور وأخواته الإناث. وهنا مفارقة مؤلمة ، فالنقاش يدور حول حق المرأة في الميراث ، وبعضهم يريد المساواة ، وينسون أن الواقع بعيد عن ذلك ، فقلما تأخذ المرأة حقها كاملا في الميراث ـ بل قلما يأخذ الأخوة الذكور الصغار حقوقهم كاملة في الميراث ـ فهى عادة سيئة أن يأكل الأخ الأكبر حقوق أخوته ذكورا وإناثا ، وإذا أعطى للأخوة الذكور بعض حقوقهم فإن من النادر إعطاء الأخوات حقوقهن كاملة، بل أصبح شائعا في بعض المجتمعات ألّا تطمع الأخت في أخذ كامل حقها من ميراثها من الأب أو الأم ، وربما تتنازل عنه  بالرضا أو بالقهر .

2 ـ  وهناك طريقة فريدة لأكل حقوق الورثة ، وهى أن يقوم الأخ الأكبر بشراء حقوق الورثة الآخرين بالثمن الذى يحدده . وهذا شائع في الريف ، حيث تكون أغلب التركات أراضى زراعية ، ولا يصح في الثقافة الريفية أن تتقسم الأرض وترث البنت أو الأخت فيتملك زوج البنت أو زوج الأخت أرضا يعتبرونها قصرا على العائلة ولا يصح أن تصل الى غريب بحجة أنه زوج البنت أو زوج الأخت .

3 ـ على سبيل المثال : مات رجل وترك خمس عشرة أفدنة  ، وله ورثة إبن وبنت . حسب الشرع يأخذ الإبن ضعف البنت ، أي تأخذ البنت خمسة أفدنة ، والإبن عشرة . قد يبدو هذا معقول نظريا ، ولكنه مكروه في الثقافة الذكورية المسيطرة على شعوب المحمديين ، خصوصا في البيئات الريفية . وأفضل الحلول في تلك الثقافة ـ ليس حرمان البنت من حقها ـ ولكن إعطاءها ثمن حقها ، أي يشترى أخوها أرضها وحقها بالسعر الذى يراه ويفرضه ، وبالتقسيط المريح ( جدا ). وقد يعتبرون هذا إكراما للبنت أن أخذت حقها .

4 ـ الفارق هائل بين تشريع الرحمن جل وعلا في الميراث وما يتم تطبيقه فعلا . وهذا التطبيق المُحجف يتجاهل التهديد والتحذير من أن عقاب من يتعدى حدود الله جل وعلا في الميراث يكون مصيره الخلود في النار . قال جل وعلا بعد تشريعات الميراث : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١٣﴾ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿١٤) النساء ).  هل يستحق حطام الدنيا ـ  مهما بلغ ــ الخلود في عذاب مهين في النار ؟

5  ـ المثال السابق هو أصدق تعبير عن ( البخس ) . ومنه نعرف أن البخس يعنى الظلم .

6 ـ وكون البخس يعنى الظلم أي إن هناك طرفا أقوى يشترى بالسعر الذى يحدده هو ويفرض هذا السعر على الجانب الضعيف الذى  لا مفر أمامه إلا الرضى بالظلم .

ثانيا :

البخس في دول الإستبداد

1 ـ يقوم الإستبداد على الظلم ، ويتلاقى الظلم مع البخس .

2 ـ المستبد يعتبر نفسه يملك الأرض ومن عليها ، ويرى من حقه أن يأكل أموال ( الرعية ) كيف شاء ، وأن يقتل منها من يشاء ، فهم ( رعية ) أي حيوانات رعى مملوكة له ، وهو لها الراعى . وقد يعتدل المستبد فيكتفى بأن يجعل نفسه وملأه ( الأسياد ) و ( الجهات السيادية ) بما يعنى أن غيرهم هم مماليك وعبيد للأسياد . والعادة أن العبيد المملوكين لا يملكون لأنهم مملوكون للجهات السيادية ، بالتالى فللأسياد أن يفرضوا ما يشاءون من قوانين سياسية و( سيادية ) وبما يحقق لهم المكاسب . وليس غريبا أن تتكاثر القوانين وتتضارب حسب أهواء الملأ الأسياد ، وحسب ما يحقق منافعهم الوقتية والدائمة . في هذا المناخ من الإستبداد والإستعباد والإسترقاق يكون البخس شائعا ، ويصبح قانون التعامل بين الناس المحكومين ، فمن يستطيع أن يظلم لا يتوانى عن الظلم ، والأكثر نفوذا يظلم من دونه، ويبخسه حقه . وبهذا يفسد التعامل التجارى ، فالتاجر صاحب المال لا بد أن يبحث عن صاحب نفوذ ، وصاحب النفوذ يحتاج لمن يستثمر نفوذه ويترجمه الى أموال .  

2 ـ  وفى نظم الحكم التي تزعم الإشتراكية والإقتصاد المُوجّه تتدخل الدولة في السوق لتدمر حرية التجارة وقانون العرض والطلب ، إذ يفرضون سعرا يشترون به المحصول من الفلاح ، ويبيعون ما يشترونه منه بأضعاف أضعاف . ولا يستطيع الفلاح سوى توريد المقرر عليه وإلا تعرض للسجن أو الغرامة . وهنا يكون البخس قانونا معتمدا .  

 ثالثا :

 البخس بمعنى الظلم ( قرآنيا )

قال جل وعلا :

1 ـ  ( مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ﴿  ١٥﴾ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١٦﴾ هود ). أي يعطيهم الله جل وعلا أجرهم في الدنيا دون بخس أي ظلم .

2 ـ  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّـهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّـهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا )  ﴿البقرة: ٢٨٢﴾. لا يبخس منه شيئا هو تحريم لأى بخس أي ظلم في كتابة الديون .

3 ـ قال الجن المؤمنون : ( وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ﴿الجن: ١٣). المؤمن لا يخاف بخسا ولا رهقا أي ظلما .

رابعا :

البخس في القصص القرآنى

1 ـ كان أهل مدين يتوسطون الطريق التجارى ، ويتحكمون فيه ، وكانوا أولى  قوة ، إستخدموا قوتهم في الفساد في الأرض ، وتميزوا بهذا الفساد في القصص القرآنى ، بحيث أن تعبير (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ  ) جاء في حقهم ثلاث مرات على لسان نبيهم شعيب عليه السلام ، في : ﴿هود: ٨٥﴾( الشعراء 183 ) ( العنكبوت 36 ) ، بينما جاء مرة واحدة عن قوم ثمود على لسان النبى صالح عليه السلام ( الأعراف 74) وأخرى عن بنى إسرائيل في عصر موسى عليه السلام ( البقرة 60 ). وإرتباط تعبير : (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ  ) يعطى دلالة على تحكمهم فيما يحيط بهم من أرض ، أى لا يقتصر فسادهم داخل مدينتهم ولكن ما حولها ، وهذا بسبب موقعهم على الطرق التجارية ، وتحكمهم فيها ، وفرضهم الفساد لمصلحتهم .

2 ـ أكثر من هذا فقد كان محور دعوة شعيب لقومه مدين تخص منع الفساد التجارى بالإضافة الى ( لا إله إلا الله ) . نرى هذا في قوله جل وعلا :

2 / 1 ـ   ( وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّـهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿الأعراف: ٨٥﴾

2 / 2  (   وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّـهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ﴿٨٤﴾ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿هود: ٨٥﴾

2 / 3  ـ  ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ﴿١٧٦﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴿١٧٧﴾ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿١٧٨﴾ فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ ﴿١٧٩﴾ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٨٠﴾  أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ﴿١٨١﴾ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴿١٨٢﴾ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿الشعراء: ١٨٣﴾ .

3 ـ ويتضح من الآيات الكريمة السابقة إنهم كانوا يفرضون بقوتهم التطفيف في الكيل والميزان عند البيع ، كما كانوا يفرضون السعر البخس عندما يشترون .

خامسا :

تحريم البخس في الشريعة الإسلامية

1 ـ تكرر فى تحريم البخس الأوامر والنواهى . قال جل وعلا :

1 / 1 : في الوصايا العشر : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) ﴿الأنعام: ١٥٢﴾

1 / 2 : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴿٣٥﴾ الاسراء )

1 / 3 : (  وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴿  ٧﴾  أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ﴿  ٨﴾  وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴿الرحمن: ٩﴾ .

2 ـ وجاء في تحذير وتهديد هائل قوله جل وعلا : ( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ﴿١﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿٢﴾ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴿٣﴾ أَلَا يَظُنُّ أُولَـٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ﴿٤﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿٥﴾ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٦﴾ المطففين ).  

3 ـ ومفهوم أنه ضمن ( العدل ) وهو المقصد الأساس للشريعة الإسلامية  ، في قوله جل وعلا : ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿٩٠﴾ النحل ). والبخس ضمن البغى .

4 ـ كما أن العدل أو القسط هو الهدف من إنزال الكتب الإلهية ، قال جل وعلا : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ  ) ﴿الحديد: ٢٥﴾

5 ـ كما يتصل هذا بقاعدة التراضى ، وهى أساس في تشريعات الإسلام في الأحوال الشخصية من زواج ورضاعة ( البقرة 232 : 233 ) ( النساء 24 ) وجاء هذا في المعاملات التجارية في قوله جل وعلا : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ )﴿٢٩﴾ النساء ) . لا يتفق التراضى مع الإكراه في التعامل التجارى ، فالتراضى من الطرفين عدل ، والإكراه من طرف على آخر هو ظلم ، والله جل وعلا لا يحب الظالمين ولا يريد ظلما للعالمين .

6 ـ وقد يأتي مصطلح ( البخس ) بمعنى القليل ، وليس مرتبطا بالظلم إذ تم عن تراض . في قصة يوسف قال جل وعلا: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)  ﴿يوسف: ٢٠﴾ . ( شروه ) أى باعوه بثمن بخس لأنهم كانوا زاهدين فيه لا يرغبون فيه. 

اجمالي القراءات 3429