من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )
مدرسة ابن تيمية في القرنين الثامن والتاسع من الهجرة :

آحمد صبحي منصور في السبت ٠٢ - نوفمبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

  مدرسة ابن تيمية في القرنين  الثامن والتاسع من الهجرة :

من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )

1 ـ ظهر ابن  تيمية ت 728 في القرن الثامن الهجري ممثلا للفهاء الحنابلة، وخصماً عنيفاً للصوفية والشيعة والظلمة من الحكام , وقرن القول بالعمل ورفع السيف مع القلم فعاش حياته في صراع محتدم يتهدده القتل , يخرج من سجن إلى حبس إلى نفى  , وهو متمسك بعقيدته ويقول (إذا قتلتموني فهي شهادة وإذا حبستموني فهي عزلة وإذا نفيتموني فهي سياحة ) .

 2 ـ وأثمرت حركة ابن تيمية مدرسة علمية فقهية في العصر المملوكي ، كان من أشهر أعلامها ابن قيم الجوزيه ت 751 وابن كثير المؤرخ المفسر ت 774 , وجمهرة من العلماء والفقهاء الذين واصلوا مسيرة ابن تيمية وتحملوا معه وبعده صنوف الأذى والاضطهاد لإنكارهم على الصوفية أصحاب السيطرة على العصر , فابن القيم كان كثيرا ما يحبس مع شيخه ، وقد ضربوه وعزّروه لأنه أنكر الشفاعة والتوسل بالأنبياء وزيارة القبر النبوي وزيارة قبر إبراهيم الخليل , وأثناء الحبس الأخير لابن تيمية – والذي مات فيه – كان ابن القيم رفيقه في السجن[1] , ووصفه المؤرخ ابن كثير بأنه ( كانت له خصوصية بالشيخ ابن تيمية ومناضلة عنه وإتّباع له في كثير من آرائه .. وامتحن بسبب ذلك وأوذي )[2].

3 ـ لقد كان عصر ابن تيمية عصر التصوف وسيطرته ، لذا حكم عليه وعلى مدرسته بالاضطهاد لأنهم أنكروا أموراً أجمع عليها عصرهم واعتبروها أساس التدين . وإذا رجعنا إلى ما قبل عصر ابن تيمية بخمسة قرون وجدنا النقيض , وجدنا رواد التصوف مضطهدين بالقتل والنفي والمحاكمات ، حتى أن فريقاً منهم آثر النفاق والتقية وتستر بالفقه واختفى كالجنيد , ثم إذا ظهر أعلن تمسكه بالكتاب والسنة وتبرأ من الحلاج الذي قتلته صراحته في إعلان عقيدته الصوفية .إلا أن الجنيد مع هذا كان متمسكاً بعقيدته الصوفية مستمرا في تلقينها لأتباعه المخلصين ولكن في قعر بيته خفية عن الناس ، بعد أن يغلق الباب ويضع المفاتيح تحت وركه خشية أن يضبط متلبساً ويتهم بالكفر والزندقة[3] . ثم دارت الأيام وتقرر التصوف على يد الغزالي ، ثم انتشر وتسيد الحياة الدينية ، وأخذ دوره في اضطهاد خصومه الفقهاء المنكرين من الحنابلة ، وقاسى ابن تيمية وأتباعه في القرن الثامن ما قاساه الجنيد وأصحابه في القرن الثالث ، مع اختلاف العقيدة ، مما يدلنا على أن العقائد في صراع مستمر ومتجدد طالما تحكم فى المجتمع دين وتدين .

4 ـ ونعود لابن تيمية ومدرسته لنجدهم في غمرة التصوف الذي سيطر على عصرهم يعتبرون الجنيد معتدلاً ، ويطالبون صوفية عصرهم بإتباعه فيما يعلنه من تمسك بالكتاب والسنة , ولم يعرف ابن تيمية وأتباعه أن الجنيد قال مقالته تقية ونفاقاً خوف القتل والاعتقال وصلب الحلاج ماثل أمام عينيه يخوفه من نفس المصير .

5 ـ ولأن ابن تيمية انخدع في الجنيد ونفاقه فقد كان له رأى حسن في الصوفية يقول عنهم: ( أن الصوفية مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله , ففيهم السابق بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين .. وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة ، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم كالحلاج مثلاً ، فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه عن الطريق مثل الجنيد سيد الطائفة وغيره[4].

6 ـ وكابن تيمية انخدع تلميذه ابن القيم بكلام الجنيد وأتباعه المنافقين، فنراه في كتابه ( إغاثة اللهفان ) يورد تصريحات الجنيد وأمثاله عن الالتزام بالقرآن والسنة , يقول ( وأهل الاستقامة منهم سلكوا على الجادة ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات حتى يقوم عليها شاهدان .. وقال الجنيد : مذهبنا هذا مقيد بالأصول الكتاب والسنة فمن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ويتفقه لا يقتدي به )[5] ويظهر أن ابن القيم نقل كلامهم من الرسالة القشيرية .

7  ـ وفى القرن التاسع ظهر تلميذ متأخر من المدرسة التيمية هو برهان الدين البقاعي ، الذي أعلن تكفير ابن الفارض وابن عربي ، وقرن القول بالعمل على عادة مدرسة ابن تيمية , إلا أنه مثلهم انخدع بمنافقي الصوفية الأوائل يقول: ( أن المحققين منهم بنوا طريقهم على الإقتداء بالكتاب والسنة )[6] واحتج بأقوالهم على صوفية عصره فقال ( وقد قال أهل الله كالجنيد وسرى السقطى وأبو سعيد الخراز وغيرهم .. كذا )[7]. أى يجعلهم ( اهل الله ).!! تعالى الله جل وعلا أن يكون له (أهل ).!!

8 ـ وقد قلنا إن ابن الجوزي في كتابه ( تلبيس إبليس ) كان متأثراً بالتصوف ورموزه ، ومن الطبيعي أن يكون حسن الظن بروّاده الأوائل ، وظهر ذلك في مواضع كثيرة من ( تلبيس إبليس ) ووضح أكثر في تلخيصه ( حلية الأولياء ) لأبى نعيم الأصفهاني تحت عنوان ( صفوة الصفوة )، أي أنه أرخ بنفسه لرواد التصوف الأوائل ، ثم تابع القشيري الصوفى في فرية أن الدعاء عند قبر معروف الكرخي مستجاب واحتفل بالمشاهد عموماً ودعا لزيارتها .

9 ـ  وإذا رجعنا إلى مدرسة ابن تيمية وجدنا انخداعاً بمنافقي الصوفية ممن ظهروا للناس باعتبارهم معتدلين متمسكين بالكتاب والسنة ، وإن شاركوا ابن الجوزي في تقديره للجنيد وأتباعه فقد خالفوه في أمور أساس ، أبرزها نبذ التوسل بالقبور والتشفع بها وبأصحابها , وقد رأينا كيف تعرض ابن القيم للضرب والإهانة لأنه أنكر الشفاعة والتوسل بالأنبياء وزيارة القبر النبوي وقبر الخليل إبراهيم . ثم كانت المحنة الأخيرة لأبن تيمية وحبسه الأخير بسبب فتوى له تحرم التوسل بالقبور[8].

10 ـ وقد كانت زيارة القبور والتوسل بأصحابها أهم رموز التدين في العصر المملوكي خصوصاً القبر النبوي في المدينة وقبر الخليل إبراهيم بالشام والصخرة في بيت المقدس. وقد زايد الصوفية على ابن تيمية ومدرسته بأنهم ينتقصون من قدر الأنبياء لإنكارهم التوسل بهم والحج إلى قبورهم ، وعلى ذلك اضطهدوا ابن تيمية وأصحابه، وأيّدهم العامة والحكام وعامة الفقهاء المتأثرين بالتصوف والقضاة الرسميون الذين كانوا يحكمون بالسجن والتعزير والنفي على ابن تيمية وأصحابه . إلا أن ذلك كله لم يرهب المدرسة التيمية ، بل زادها إصرارا على الحق، فتميزت هذه المدرسة بأنها تقرن القول بالعمل ، حتى أن إبن تيمية قام بنفسه ومعه أصحابه المؤمنون بهدم كثير من الأنصاب المقدسة التي أشاع الصوفية التوسل بها، يقول ابن القيم: ( وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسّر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين كالعمود المخلق ، والنُّصُب الذي كان بمسجد النارنج عند المصلى يعبده الجهال ، والنُّصُب الذي كان تحت الطاحون الذي عند مقابر النصارى ينتابه الناس للتبرك به , وكان صورة صنم في نهر القلوط ينذرون له ويتبركون به. وقطع الله سبحانه النُّصُب الذي كان عند الرحبة يُسرج عنده ويتبرك به المشركون , وكان عموداً طويلاً على رأسه حجر كالكرة ، وعند مسجد درب الحجر نُصُب قد بني عليه مسجد صغير يعبده المشركون، يسّر الله كسره )[9].

11 ـ وتلك الأنصاب ــ التي كانت موجودة ومقدسة في دمشق ــ في عهد ابن تيمية كان في قرافة مصر ما يماثلها ، وقد شهدنا في فصل المزارات ما كان يعتاده الناس من زيارتها والتوسل بها والاعتقاد في شفائها للأمراض . ، وحين أتى ابن تيمية إلى مصر أعلن أن مشهد الحسين مشهد الكذب مصنوع على أساس زعم خاطئ بأن فيه رأس الحسين وذكر ما قاله البخاري أن رأس الحسين قد دفن في البقيع إلى جانب قبر فاطمة الزهراء .

12 ـ وثمة ناحية أخرى أكدت عليها مدرسة ابن تيمية وتميزت بها عن ابن الجوزي الذى  كان يورد كثرة من الأحاديث الضعيفة في كتابه تلبيس إبليس ، حتى لم يتحرج من الاستشهاد بكلام كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وهما أكبر مصدر للإسرائيليات في فكر المسلمين . فإذا التفتنا لمدرسة ابن تيمية وجدنا انحيازاً للقرآن الكريم مصدرا أساسا للعقائد مع الاستشهاد بما يعتبرونه أحاديث صحيحة ، مع محاولة لتنقية الأحاديث ، خصوصا تلك الضلالات التى تسوغ العقائد الشركية . وفى هذا المجال تذكر لابن تيمية كتاباً في الأحاديث الموضوعة أسمه ( أحاديث القصاص ) وكتاباً آخر لابن القيم هو ( المنار المنيف في الصحيح والضعيف ) ولم يحفلا فيه برد السند قدر اهتمامهما بنقد المتن وعرضه على كتاب الله ، وهو اتجاه جديد في مجال علم الحديث .

13 ـ عاش ابن تيمية حياة مضطربة غير مستقرة بين حبس ونفى وجهاد واعتقال، فكان جل تأليفاته رسائل ومسائل ، حفلت بإشارات كثيرة عن تاريخ الحياة الدينية في عصره ، وقد جُمع بعضها في كتاب ( مجموعة الرسائل والمسائل ).

أما ابن القيم فتيسر له قدر من الهدوء بعد رحيل شيخه ، فأخرج العديد من المؤلفات،يهمنا منها كتابه( إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ) , وقد جرى فيه على نسق ( تلبيس إبليس ) حتى في مضمون العنوان , وهما معاً يمثلان نوعاً من الكتابة الفقهية التي تنكر على الناس في عصرهما وتبين لهم أوجه الخطأ والصواب , وفى أثناء ذلك تحفل بكثير من الإشارات التاريخية عن الحياة الدينية والاجتماعية والأخلاقية والعقلية . 

 

 



[1]
السلوك 1، 2 ، 273 , شذرات الذهب 6ر 186

[2]ذيل ابن العراقي .مخطوط ورقة 146 . رقم المخطوط بدار الكتب 5615 تاريخ.  

[3] الشعراني . الطبقات الكبرى 1ر10 ,13 , 14

[4] رسالة الصوفية والفقراء 16 , 17

[5] إغاثة اللهفان 1ر 124 : 125.

[6] تحذير العباد من العناد 209 وما بعدها تحقيق عبد الرحمن الوكيل

[7] تاريخ البقاعي . مخطوط ورقة 8 رقم المخطوط بدار الكتب – 5631تاريخ

[8] تاريخ ابن كثير 14ر 123.

 

[9] إغاثة اللهفان 1ر 212 .

اجمالي القراءات 3904