من الفصل الأول من كتاب : ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى ــ دراسة عملية )
ثامناً: فلسفة القصص القرآني ( 1 )

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٧ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

                     ثامناً: فلسفة القصص القرآني ( 1 )

من الفصل الأول من كتاب : ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى ــ دراسة عملية )

منبع الفلسفة القرآنية وهدفها :

1 ـ تنبع هذه الفلسفة من كون القرآن الكريم كلام الله المعجز الذي أنزله على خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فالنبي الخاتم أرسل للبشر كافة – بل للجن أيضاً – منذ عصره وإلى أن تقوم الساعة. والرسول عليه الصلاة والسلام بشر مقضي عليه بالموت (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ..الزمر30) ولابد للدعوة أن تستمر بعد موته ممثلة في القرآن الذي تكفل الله بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ..الحجر9).

2 ـ والقرآن كلام الله الذي أنزله إعجازاً للبشر في كل زمان ومكان , وهدف الإعجاز فيه أن يهتدي الناس إلى نه لا إله إلا الله  ، خالصاً من شوائب الشرك واتخاذ الأولياء والواسطات والشفعاء , هدف الإعجاز فيه أن يكون حجة على المشركين في كل زمان ومكان منذ عهد الرسول الخاتم عليه السلام وإلى أن تقوم الساعة .

3 ـ والقرآن الكريم كلام الله الذي خلق الناس وهو أعلم بخلقه (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ؟.. الملك14) (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ..النجم32).

4 ـ  ومن واقع هذا العلم الإلهي بالبشر منذ آدم وإلى أن تقوم الساعة كان إعجاز القصص القرآني وكانت فلسفته في أسلوب الدعوة الى لا إله إلا الله.

الصفات العامة لكل إنسان وكل مشرك :

1 ـ وأول ملمح في فلسفة القصص القرآني تتجلى في النظرة للإنسان ككل وكجنس, له خصائص معينة تنعكس على تاريخه عبر كل العصور, وقد عبر عنها بأسلوب فصيح معبر خالق الإنسان وهو الأعلم بما خلق.

1 / 1 : فالإنسان لا يعرف ربه إلا في الشدة (إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ ..فصلت51) (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى..العلق6: 7) (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ،إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ.. المعارج 19: 22)

1 / 2 : ومخلوق كالإنسان لابد أن يكون – بهذا - لربه كفوراً (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً ..الإسراء67) (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ..الأحزاب72 )

1 / 3 :  ثم يحدد القرآن ملامح أخرى من شخصية الإنسان: (..وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ..الكهف54) (..وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً ..الإسراء100) (..وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ..النساء28) (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ،وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ القيامة20: 21 ) (..وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً ..الإسراء11) (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ..الأنبياء37) (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ،أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ..البلد4: 5).

1 / 4 ـ ومن هذه السمات الإنسانية كان العداء بين بني آدم ابرز ظاهرة تاريخية في التاريخ البشرى بحيث أن أعدى أعداء الإنسان هو نفسه الإنسان . وقد نزل قانون العداء بين بني آدم مع هبوط آدم للأرض , حتى أن الله تعالى خاطب ذرية آدم بهذا حين أهبط آدم للأرض مع زوجه (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ..البقرة36) فالحديث عن آدم وزوجه كان بالمثنى (فَأَزَلَّهُمَا – فَأَخْرَجَهُمَا - كَانَا ) أما عن العداء فكان الحديث لذرية آدم وإلى قيام الساعة (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) وبرز العداء بين ابني آدم وانتهت أول حرب (عالمية) بينهما بأن يقتل أحدهما الآخر , ولم يكن على الأرض من البشر سواهما , ثم استمر مسلسل الدماء وسيستمر إلى قيام الساعة . وفى هذه الحرب العالمية الأولى بين أبنى آدم تمثلت كل نوازع الإنسان مثل الحقد والحسد وهما أكبر دواعي الشر في النفس الإنسانية (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ، إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ ..المائدة27) وبينما يثور الشر في نفس أحدهما إذ بالآخر يقابل الشر بالخير (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، قال : لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ..المائدة27: 28) ثم يتدخل الشيطان ويتحول التهديد بالقتل إلى تنفيذ (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ..المائدة30) وبعد أن قتل أخاه يثوب إلى نفسه ويزول الشر ويتحول إلى ندم (فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ: يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ..المائدة31 ). ولا يقولن قائل أن الخير في البشر قد مات مع الابن الصالح حين قتله أخوه, فالخير والشر معاً من لوازم النفس البشرية (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا،وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ..الشمس7: 10) فمن أفلح في تزكية نفسه بالتقوى والخشية كان اقرب للخير , ومن استسلم لغرائزه وشيطانه فقد خاب وخسر.

1 / 5 : ـ من هنا يأتي الحديث القرآني عن الإنسان بتعداد بعض مساوئه ثم يستثنى من ذلك من سار على منهج الله , كأن يقول تعالى (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ،..المعارج 19: 26) ومعنى هذا أن الإنسان إذا أهمل تزكية نفسه بالتقوى صار مستحقاً لكل الصفات السيئة التي وصم الله بها الإنسان من الكفر والظلم والبخل والحرص .

2 ـ ومعنى هذا أن المشرك – وهو إنسان – إنما يكرر نفسه في كل عصر وفق ما أوضح رب العزة من صفات لازمة للإنسان المعرض عن منهج الله. ومعنى هذا أن طبائع المشركين في كل عصر هي هي لم تتغير...وهذا ما أوضحه القرآن الكريم ..

مشركو قريش كالمشركين السابقين :

1 ـ والتاريخ الديني جزء لا يتجزأ من التاريخ الإنساني , ومن الطبيعي أن يكون اهتمام القرآن به أشد , باعتبار أن القرآن يهدف إلى تصحيح العقيدة الدينية والسلوك الديني والبشرى , ومن اهتمام القرآن بالدين كانت نظرته للتاريخ الإنساني منذ خلق آدم وإنزاله للأرض والصراع بين ابني آدم وتاريخ الأنبياء .

2 ـ فالله تعالى أنزل في كتابه أحكاماً قاطعة على تاريخ المجتمعات البشرية تسرى في كل زمان ومكان كأن يقول تعالى (وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً ..الإسراء58). فالله تعالى حكم حكماً مطلقاً مؤبداً بهلاك كل قرية أو تعذيبها, وأن هذا الحكم يسرى على كل بلد منذ بداية التاريخ البشرى وإلى أن تقوم الساعة.

3 ـ وقد جعل من أسباب تدمير أي بلد شيوع الفاحشة فيها بين المترفين من أبنائها (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ..الإسراء16) , وقرن ربنا بين الشر والمترفين في كل بلد وأن الشر لا يحيق إلا بأولئك المترفين (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ..الأنعام123 ).

4 ـ وتلك الأحكام (العالمية) القاطعة كان لتاريخ الأنبياء فيها نصيب فالإهلاك الذي كان يصيب البلاد قبل محمد عليه السلام سببه عصيانها للرسل (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ..الشعراء208). وكان يتزعم العصيان في كل بلد المترفون الأغنياء وهم أعداء الأنبياء :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ ) ..الأنعام112) وأولئك المترفون المكذبون كانوا يواجهون الأنبياء بالتكذيب (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ..سبأ34) .

5 ـ وواجه الرسول الخاتم عليه السلام ما واجهه الرسل السابقون من عناد المترفين ، وكان أكثر المعاندين للرسول عليه السلام هم الأغنياء من بني أمية وبني مخزوم ، وأولئك – كالشأن في الأغنياء – لهم مصلحة في بقاء الحال كما ما هو عليه ، فوجود الأصنام حول الكعبة مما يرفع شانهم بين العرب ويزيد من توافد الحجيج وفى ذلك ما فيه من رواج اقتصادي لهم ، لذا فإن الله تعالى يجعل الدافع الاقتصادي سبباً أساسياً في تكذيبهم لنبوة محمد التي ستقضى على أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية ، يقول تعالى (وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ..الواقعة82) وقد إحتج أولئك المترفون بخوفهم على مكة إذا اعتنقوا الإسلام ووقف باقي العرب ضدهم إلا أن القرآن رد على تلك الحجة  (وَقَالُوا: إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا، أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا ..القصص57).

5 ـ وقد قال تعالى لرسوله الخاتم عليه السلام (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ..فصلت43) ، ومعنى ذلك أن كل أقوال المشركين في مكة قد قالها المشركون قبلهم في كل زمان ومكان .

5 / 1 : فقريش كالمشركين السابقين طلبت آية أو إهلاكا (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ..البقرة118). (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ..الكهف55) .

5 / 2 : وقريش فضلت إبقاء الوضع على ما هو عليه والتمسك بما أعتاد الأسلاف والآباء شأنهم في ذلك شأن المشركين السابقين (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ،وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ..الزخرف22: 23) . فالمترفون في كل عهد هم دعاة التمسك بتقليد الآباء والإبقاء على الوضع القائم وعدم تغييره حرصاً على مصالحهم القائمة .

5 / 3 : وقريش اتهمت محمداً عليه السلام بالسحر والجنون (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ .الحجر6)،، (وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ..ص4) ، وهذا الاتهام بالسحر والجنون تكرر من المشركين السابقين لرسلهم ، حتى لكأن المشركين في كل عهد تواصوا بذلك (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ،أَتَوَاصَوْا بِهِ؟؟..الذاريات52: 53) .

5 / 4 : بل أن إخراجهم للرسول عليه السلام من موطنه كان حلقة من سلسلة الاضطهاد التي كانت تغلف تاريخ كل نبي ، يقول تعالى (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ..محمد13) .

5 / 5 : بل إن انتصار الرسل – في النهاية – أمر حتمي ، وبهذا طمأن الله تعالى نبيه إذ يقول (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً ، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ..الفتح22: 23) .

5 / 6 :  بل إنه أمر مقرر سلفاً أن يدمر الله القرى الظالمة ويرث الصالحون الأرض ، (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ . إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ..الأنبياء105 : 106) .

إمكانية عودة الشرك بعد انتصار الإسلام :

  وفى سورة الأنبياء بدأ الحديث عن معتقدات مشركي مكة ودعوتهم الى لا إله إلا الله ، ثم كان قصص الأنبياء السابقين إبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وغيرهم –عليهم السلام –ثم كان قول الله تعالى (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ..الأنبياء105 ) وتلك حقيقة تكررت في تاريخ الأنبياء السابقين ، حيث كان الهلاك يحيق بالكافرين وينجوا أتباع الرسل الصالحون ويرثون الأرض بعد فناء المترفين المتكبرين ، ثم يلمح الله إلينا بإمكانية تكرار هذه الحقيقة فيقول (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ..الأنبياء106) ومعناه أن نتمسك ب لا إله إلا الله لتتم لنا وراثة الأرض، وإلا فإذا وقعنا في الشرك فقد حقت علينا الذلة والمهانة في الدنيا والآخرة

استمرارية الصراع بين (لا إله إلا الله)والشرك أساس فلسفة القصص القرآني :

1 ـ لقد لمسنا في القصص القرآني وحدة في التاريخ الإنساني تبدأ بصفات موحدة (للإنسان ) كفرد و(للإنسان ) كجماعة في بلد أو بتعبير القرآن في  (قرية) وما يحيق بالقرية بالهلاك بفساد المترفين فيها ، ولمسنا وحدة في تفكير المشركين وعقيدتهم في كل عصر في تاريخ الأنبياء السابقين وفى تاريخ محمد عليه السلام خاتم الأنبياء . ونعرف أن خاتم الأنبياء عليه السلام بشر مقضي عليه بالموت وأن وظيفة القرآن مستمرة بعده في هداية الناس إلى قيام الساعة . وتأتى فلسفة القصص القرآني من خلال هذه العناصر مجتمعة ( وحدة التاريخ الإنساني ) ( وحدة التاريخ الديني ) ( عمومية الرسالة الخاتمة وقيام القرآن الكريم بها إلى قيام الساعة ) . وتتلخص فلسفة القصص القرآني في حقيقة واحدة هي استمرار الصراع بين عقيدتي لا إله إلا الله والشرك بعد محمد (ص) كما كانت قبله خلال تاريخ الأنبياء السابقين عليهم السلام .

2 ـ ولتوضيح حقيقة الاستمرارية في الصراع بين عقيدتي لا إله إلا الله  والشرك عبر التاريخ الإنساني نقول:-

2 / 1 : إن الله تعالى فطر الإنسان على  لا إله إلا الله ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ... الروم30) وقبل أن يوجد البشر على المستوى الحسي الجسدي أخذ الله العهد على أنفسهم بأن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً (َإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ..الأعراف172). وكان أبو البشر – آدم عليه السلام – أول رسول لبنيه (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ..آل عمران33) وتتابع الرسل بعد آدم مثل نوح وآل إبراهيم وغيرهم . ومع وجود عناصر الهداية من الفطرة السليمة والرسل والعقل فإن هناك ما يعادلها من عناصر الغواية ممثلة في الشيطان و الغرائز والهوى.. وبين الهداية والغواية يتأرجح الإنسان ويستمر الصراع بين    لا إله إلا الله والشرك . وقد لمسنا أن الغواية لحقت في عهد مبكر – بأحد ابني أدم – فقتل أخاه الوحيد في هذا العالم . ثم كان ندمه على ما فعله بأخيه ، ثم تتصاعد الغواية بجهد الشيطان لنصل إلى اتخاذ الوسائط مع الله التي تقرب الناس لله زلفى ، وحينئذ يرسل الله للناس رسولاً من بينهم يدعوهم إلى نبذ الوسائط والآلهة الأخرى وإلى إخلاص العقيدة لله، ويلاقى الرسول العنت من المترفين والأغنياء ولا يتبعه إلا الأقلون الفقراء ، وتتصاعد الأحداث من طلب آية أو إهلاك فتأتى الآية ومعها الهلاك ويدمر الله المكذبين وينجو الرسول ومعه أتباعه المؤمنون ، وتمر الأيام ويموت الرسول وأصحابه المؤمنون ويصبح ذكرى يحيطها الخلف بكل التقدير والإعزاز ، ثم يتحول التقدير – بجهد الشيطان إلى تقديس ، ويتحول الرسول وأتباعه السابقون إلى وسائط وأنصاف آلهة يتوسل بهم الناس ، ثم يتعاظم الأمر ويصبح كل منهم إلهاً كامل الألوهية في عقيدة الناس ويستلزم الأمر مبعث رسول جديد يقول مقالة الرسول السابق ويلاقى العنت الذي لاقاه ، ثم تكون نفس النهاية إهلاك المشركين ونجاة الرسول وأصحابه ، وتمر الأيام وتتبدل العقيدة ليأتي رسول جديد وتتكرر القصة .

2 / 2 : هذا ملخص التاريخ الديني في كل أمة . وتكررت القصة في تاريخ كل أمة – من الدعوة للهداية وتكذيب المشركين (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ..النحل36) ويدعو الله قريشاً للتأكيد مما حاق بتلك الأمم السابقة لتتعظ فيقول (..فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ..النحل36)، وكانت قريش في تكذيبها على نهج السابقين (وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ..العنكبوت18).  

أسلوب القرآن في إثبات وحدة التاريخ الديني :

1 ـ ولأن التاريخ الديني في كل أمة كان يتكرر بنفس التفاصيل فإن القرآن الكريم كان يحكيه أحياناً بأسلوب الجمع , فيقول مثلاً أن الأنبياء قالوا كذا وردت عليهم أقوامهم بكذا .. هذا مع الاختلاف الزماني والمكاني بين كل الرسل وكل الأمم .. ولكن الهدف واضح وهو أن المشركين في كل زمان ومكان يقولون نفس القول ويقومون بنفس الفعل , كما أن كل الرسل يقولون لا إله إلا الله وهو دين الله الواحد الذي قال به كل نبي ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ..الأنبياء25).

2 ـ يقول تعالى عن الأمم السابقة (ألَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ) أي كل الأمم والقرى على أتساع العمران في الكرة الأرضية ولا يعلمهم إلا الله (جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ) أي أرسل لكل أمة رسولاً بكتاب مبين واضح (فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ.. إبراهيم 9) ويستمر الحوار الموحد الذي دار بين كل أمة ورسولها من الاستكبار على إتباع الرسل لأنهم بشر وكانوا يريدون إرسال ملائكة , ثم طلبهم آية ورد الرسل عليهم : َفأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ .. إبراهيم 10 ، 11). ثم يكون إيذاء الرسل وأتباعهم ويصبر الرسل وأتباعهم (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا ..إبراهيم 12) ويأتي التأييد الإلهي للرسل بعد الإيذاء والتهديد بالطرد والهجرة (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ..إبراهيم13 )وبإهلاك المشركين يرث الأرض الصالحون من أتباع الرسل ( لنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ{13} وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ...) ويكون الاستخلاف من حق المؤمنين طالما ظلوا مؤمنين, وتلك شروط الاستخلاف (..وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ..14).

3 ـ وفى قوله تعالى عن شروط الاستخلاف في الأرض ( ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) إشارة إلى أنه حكم عام في تاريخ البشرية , فالأرض يرثها عباد الله المتقون الصالحون الخائفون من مقام الله ووعيده , وبهذا جاء الوعد بالاستخلاف لمحمد عليه السلام وأتباعه إذا ساروا على منهج الله بالتقوى و لا إله إلا الله , يقول تعالى لهم بعد أن استقروا في المدينة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ... النور55 ) . فالوعد هنا مرتبط بالإيمان والعمل الصالح وعدم الإشراك بالله تعالى , وقد تحقق الوعد بعد الانتصار فى موقعة بدر : ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿٢٦﴾ الانفال )  .

4 ــ ويتضح مما سبق الخطوات التي سار عليها تاريخ كل نبي في قومه . وهى دعوة فتكذيب وإيذاء , فتهديد بالهجرة أو الفتنة , ثم يأتي الإهلاك للكافرين والاستخلاف للمؤمنين .. وكانت تلك الخطوات قاسماً مشتركاً في تاريخ كل الأنبياء . بل إن الاتفاق قد يكون في جزئية واحدة من تاريخ الأنبياء. فمثلاً كل خطوات الإهلاك واحدة مع الاختلاف الزماني والمكاني في كل قرية أرسل إليها رسول. يقول تعالى في سورة الأعراف عن أسلوب الاستدراج بالسراء والضراء الذي كان يوقع به الإهلاك بالأمم السابقة (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ . ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ: قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء، فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ94 :95 الأعراف). ويقول تعالى  (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. الأنعام 42: 45)

استمرارية الصراع بين  لا إله إلا الله والشرك بعد الرسالة المحمدية :

1 ـ   وحتى تكتمل الصورة وتتم الدائرة فإن الخطوات الأساسية في التاريخ الديني لكل أمة هو حلقة متصلة متلاحقة من دعوة الرسول ثم تكذيب قومه وإيذائهم له ثم انتصار الرسول وإهلاك القوم واستخلاف المؤمنين ثم يعود الشرك ويتعاظم ويبعث رسول آخر وهكذا.. دائرة متلاحقة مستمرة باستمرار التاريخ البشرى.

2 ـ ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم كان خاتم الأنبياء والقرآن المعجز هو طريق الهداية بعد موته فقد قص تاريخ الأنبياء السابقين ليكون حجة على الشرك مهما تخفى خلف أسماء وأشكال . وكثيراً ما كان يذيل قصص الأنبياء بأحكام وتوصيات يستفيد منها اللاحقون لتكون لهم حجة إذا استقاموا ولتكون عليهم حجة إذا انحرفوا .

3 ـ ففي آيات سورة إبراهيم التي حكت قصص الأنبياء السابقين في سورة واحدة من الدعوة فالتكذيب فالإهلاك والاستخلاف يقول تعالى في النهاية (وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ) ويلتفت بعدها لتقرير حكم عام هو (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ..إبراهيم14) . وفى موضع آخر يقول (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ..الأنبياء105) أي فهو حكم مقرر سلفاً أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون , وقد جاء هذا الحكم في سورة الأنبياء بعد أن قص تعالى سيرة بعض الأنبياء ثم يلمح إلى استمرار الحكم بشروطه فيقول (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ .. الأنبياء 106: 107).

4 ــ وحين يعرض القرآن لأسلوب الإهلاك الواحد الذي كان يتبع مع كل أمة مشركة يذيل الآيات بخطاب لنا كي نفهم ونتعظ ونستفيد من العبرة , فآيات سورة الأعراف  والتي عرضنا إليها سابقاً (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ..الأعراف94 ) إلى قوله تعالى (فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ..الأعراف95 ) جاء بعدها الدعوة لنا لنتعظ من تاريخ الأمم والقرى السابقة  (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ ؟ ، أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ؟، أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ ؟ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ،) ثم يقول تعالى (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ.. الأعراف 97: 100)

5 ــ وتكرر ذلك أيضاً في نفس الموضع في سورة الأنعام حين قال (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ..الأنعام42) إلى قوله تعالى (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ..الأنعام45) يعقب بعدها مخاطباً الناس في عصر محمد وأمته (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ؟ ..الأنعام46  ) , (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ؟..الأنعام47 ) . وبعدها يقرر وحدة الدين ووحدة التاريخ الديني بين المؤمنين والمشركين في كل عصر إذ يقول(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ..) فهذا حكم موحد لوظيفة كل نبي (.. فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ..الأنعام48) . وهذا حكم موحد لكل المؤمنين (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ..الأنعام49)  وهنا حكم موحد لكل الكافرين.

6 ــ  ومعنى هذا أن تلك الأحكام العامة التي كانت تجرى في تاريخ الأنبياء السابقين ستجرى في عهد أمة محمد عليه السلام في الدنيا أو الآخرة . وبهذا تحددت فلسفة القصص القرآني في أن يكون حجة على المشركين في أمة محمد عليه السلام إلى يوم القيامة مهما تخفوا خلف أسماء وأشكال ، وأن يكون حجة لأتباع محمد إلى يوم القيامة بحكم الصراع المستمر بين لا إله إلا الله والشرك والذي بدأ ببداية التاريخ الديني، وسيستمر طالما بقى في الناس دين ومتدينون . وما انتصار محمد عليه السلام على الشرك إلا حلقة من حلقات هذا الصراع , بل يزيد هذا الصراع بعد منع الإهلاك العام في الدنيا وتحتم الجهاد على المسلمين بالقول أو بالسيف .

7 ــ وحتى حين وجه القرآن الحديث لأصحاب الرسول الخاتم بالوعد بالاستخلاف فقد ألمح إلى استمرارية الصراع بين  لا إله إلا الله  والشرك , يقول تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي فالوعد ليس لكل الصحابة وإنما لمن آمن منهم فعلاً وصدقاً وعمل الصالحات (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) أي فاستخلاف الصحابة المؤمنين إنما هو حلقة في مسلسل الصراع بين  لا إله إلا الله والشرك , والذي ينتهي باستخلاف المؤمنين حقاً بعد إهلاك أو تدمير المشركين (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) فاستخلاف الصحابة في الأرض معناه أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون المؤمنون أعزاء آمنين على أنفسهم ودينهم بعد أن كانوا مضطهدين في فترة علو الشرك , وقد تحقق الوعد فانهزم الشرك إلى حين لأن عقيدة المسلمين كانت صافية خالصة لله حيث كانوا كما قال تعالى ( َيعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) ثم يلمح القرآن الكريم إلى إمكانية عودة الشرك بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجاً فيختم الآية بقوله (وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ..النور55).

اجمالي القراءات 4234